(مَا الْعَارِفُ مَنْ إِذَا أَشَارَ وَجَدَ الْحَقَّ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ إِشَارَتِهِ ، بِلِ الْعَارِفُ مَنْ لاَ إِشَارَةَ لَهُ لِفَنَائِهِ فِي وُجُودِهِ وَانْطِوَائِهِ فِي شُهُودِهِ).
قلت:الإشارة أدق وأدق من العبارة ، والرمز أدق من الإشارة فالأمور ثلاثة : عبارات ، وإشارات ، ورموز .
وكل واحدة أدق مما قبلها ، فالعبارة توضح ، والإشارة تلوح والرمز يفرح أي يفرح القلوب بإقبال المحبوب .
وقالوا : علمنا كله إشارة ، فإذا صار عبارة خفي ، أي خفي سره ، أي فإذا صار عبارة بإفصاح اللسان لم يظهر سره على الجنان ، فإشارة الصوفية هي تغزلاتهم وتلويحاتهم بالمحبوب كذكر سلمى وليلى ، وذكر الخمرة والكيسان ، والنديم وغير ذلك مما هو مذكور في أشعارهم وتغزلاتهم ، وكذكر الأقمار والنجوم والشموس والبدور واللوائح والطوالع ، وكذكر البحار والإغراق ، وغير ذلك مما هو مذكور في اصطلاحاتهم .
وأما الرموز فهي إيماء وأسرار بين المحبوب وحبيبه لا يفهمها غيرهم .
ومنها في القرآن فواتح السور ، ومنها في الحديث كقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لأبي بكر : “ أريد أن أدعوك لأمر ، قال : وما هو يا رسول اللّه ؟ قال : هو ذاك “ .
فرمز لأمر بينهما لا يعرفه غيرهما ، وقال له أيضا : “ يا أبا بكر أتعلم يوم يوم “ ، بتكرير لفظ يوم “ قال : نعم يا رسول اللّه سألتني عن يوم المقادير “ ، فهذه رموز بين الصديق وحبيبه.
قال الشيخ زروق رضي اللّه تعالى عنه في شرح الحزب الكبير :وقد حارت العقول في رموز الحكماء ، فكيف بالعلماء ؟فكيف بالأنبياء ؟ فكيف بالمرسلين ؟فكيف يطمع في حقائق رب العالمين ؟ انتهى .
وأما الإشارات فيدركها أربابها من أهل الفن .
والناس في إدراكها وعدمه على أقسام ، فمنهم من لا يفهم منها شيئا ، ولا يعرف إلا ظاهر العبارة وهم الجهال من عموم الناس .
ومنهم من يفهم المقصود ، ويجد الحق بعد الإشارة أي بعد سماع الإشارة وهم أهل البداية من السائرين .
ومنهم من يفهم الإشارة ويجد المشار إليه وهو الحق أقرب إليه من إشارته وهم أهل الفناء في الذات قبل التمكين .
ولهذا تجدهم يتواجدون عند السماع ، ويتحركون وتطيب أوقاتهم وتهيم أرواحهم ، أكثر مما يتواجدون عند الذكر ، لأن الإشارة تهيج أكثر من العبارة ، بخلاف المتمكنين قد رسخت أقدامهم واطمأنت قلوبهم وتحقق وصولهم ، فاستغنوا عن الإشارة والمشير ،ولذلك قيل للجنيد رضي اللّه تعالى عنه : ما لك كنت تتحرك عند السماع وتتواجد واليوم لا نراك تتحرك بشيء ؟ قال : وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [ النمل : 88 ] ، انتهى .
وهذا هو العارف الذي لا إشارة له ، لفنائه في وجود الحق وانطوائه في شهوده ، أو تقول لتحقق وصوله وتمكنه في شهوده ، فصار المشير عين المشار إليه لفناء وجوده في وجود محبوبه ، وانطواء ذاته في ذات مشهوده ، أو تقول لزوال وهمه وثبوت علمه فتحققت الوحدة وامتحقت الغيرية :
رقّ الزجاج ورقت الخمر ، فتشابها وتشاكل الأمر ، فكأنّما خمر ولا قدح ، وكأنّما قدح ولا خمر ، فالأقداح أشباح ، والخمور أرواح ، أو تقول : لذهاب حسّه وانطماس رسمه ، فانكسرت الأواني وسطعت المعاني :
وطاح مقامي في الرّواسم كلّها
فلست أرى في الوقت قربا ولا بعدا
فنيت به عنّي فبان به عيبي
فهذا ظهور الحقّ عند الفنا قصدا
أحاط بنا التعظيم من كلّ جانب
وعادت صفات الحقّ مما يلي العبدا
قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي اللّه تعالى عنه : إن للّه عبادا محق أفعالهم بأفعاله وأوصافهم بأوصافه وذاتهم بذاته وحملهم من أسراره ما تعجز عنه الأولياء .
وقال القطب ابن مشيش رضي اللّه تعالى عنه ونفعنا ببركاته : وشراب المحبة مزج الأوصاف بالأوصاف ، والأخلاق بالأخلاق ، والأنوار بالأنوار ، والأسماء بالأسماء ، والنعوت بالنعوت ، والأفعال بالأفعال. انتهى .
وأطلق المزج على التبديل مناسبة للشراب .
وقال إمام الطريقة أبو القاسم الجنيد رضي اللّه تعالى عنه في وصف العارف : عبد ذاهب عن نفسه ، متصل بذكر ربه ، قائم بأداء حقه ، ناظر إليه بقلبه ، أحرقت قلبه أنوار هدايته ، وصفا شرابه من كأس وده ، تجلى له الجبار عن أستار غيبه ، فإن تكلم فباللّه ، وإن سكت فمن اللّه ، وإن تحرك فبإذن اللّه ، وإن سكن فمع اللّه ، فهو باللّه وللّه ومع اللّه ومن اللّه وإلى اللّه انتهى .
فهذه صفات العارف الحقيقي الراسخ المتمكن قد كلّ لسانه عن التعبير ، واستغنى عن الإشارة والمشير ، فإذا صدرت منه إشارة أو تعبير ، فإنما ذلك لفيضان وجد أو هداية فقير ، وقد صدرت إشارات من المتمكنين ، فتحمل على هذا القصد ، كقول الشيخ أبي العباس رضي اللّه تعالى عنه :
أعندك عن ليلى حديث محرّر
بإيراده يحيي الرّميم وينشر ؟
فعهدي بها العهد القديم وإنّني
على كلّ حال في هواها مقصّر
وقد كان منها الطّيف قدما يزورني
ولما يرز ما باله يتعذّر ؟
وهل بخلت حتّى بطيف خيالها
أم اعتلّ حتّى لا يصحّ التّصوّر ؟
ومن وجه ليلى طلعة الشّمس تستضي
وفي الشمس أبصار الورى تتحيّر
وما احتجبت إلا برفع حجابها
ومن عجب أنّ الظّهور تستّر
هكذا وجدت بخط الشيخ وكان كثيرا ما يتمثل بها .
قاله المصنف في “ لطائف المنن “ فقول الشيخ ما العارف إلخ . أي ليس العارف الكامل وهو الراسخ المتمكن ، وأما السائر فيحتاج إلى الإشارة ويجد الحق أقرب إليه من الإشارة ، أو معها وهي إعانة له وقوته ، كالعبارة للمتوجهين ، وسيأتي : العبارة قوت لعائلة المستمعين ، وليس لك إلا ما أنت له آكل .
وقوله : من إذا أشار : أي أشير له ، وقوله : بل العارف من لا إشارة له أي لا يحتاج إليها في نفسه ، وقد يشير لأجل غيره كما تقدم ، وإنما استغنى عن الإشارة ، لأن الإشارة والعبارة قوت الجائع ، وهو قد شبع واستغنى ،أو تقول : لأن الإشارة تقتضي البينونة والفرق وهو مجموع في فرقه .
ولذلك قال الشيخ أبو يزيد رضي اللّه تعالى عنه : أبعدهم من اللّه أكثرهم إشارة إليه .
وقال ابن العريف رضي اللّه تعالى عنه في “ محاسنه “ : الإشارة نداء على رأس البعد وبوح بعين العلة انتهى . أي تصريح بعين علته وهي بعده .
وقال الرّوذباري رضي اللّه تعالى عنه : الإشارة الإبانة عما يتضمنه الوجد من المشار إليه ، وفي الحقيقة الإشارة تصحبها العلل ، والعلل بعيدة من الحقائق .
وقال الشبلي رضي اللّه تعالى عنه : كل إشارة أشار بها والبينونة بدليل قوله : حتى يشيروا إلى الحق بالحق ، وإنما نفى الطريق إلى ذلك لاستغناء الحق عن الإشارة والمشير ، واللّه تعالى أعلم .
ويحتمل أن يريد بالإشارة إشارة القلب ، أو الفكرة إلى الوجود ، فإن القلب إذا أشار إلى الكون بأسره فني وتلاشى ووجد الحق أقرب إليه من إشارته لكونه كان فانيا قبل إشارته ، وهذا حال السائرين .
وأما الواصل فلا يحتاج إلى إشارة ، لكونه قد تحقق فناؤه وانطوى وجوده في وجود محبوبه ، فلم يحتج إلى إشارة لتمكن حاله وتحقق مقامه ، واللّه تعالى أعلم .
وسئل أبو سعيد بن الأعرابي رضي اللّه تعالى عنه عن الفناء فقال :هو أن تبدو العظمة والإجلال على العبد ، فتنسيه الدنيا والآخرة والأحوال والدرجات والمقامات والأذكار ، تفنيه عن كل شيء وعن عقله وعن نفسه وفنائه عن الأشياء ، وعن فنائه عن الفناء ، لأنه يغرق في التعظيم. انتهى .