هل للطريقة القادرية البودشيشية التي يندرج في سلكها آلاف المريدين الذين ينتمون إلى مختلف الشرائح الاجتماعية (أطباء، مهندسون، جامعيون، طلبة، عمال···) طموحات سياسية؟ هل تفكر في خوض المعترك السياسي الوطني كحزب إسلامي معتدل مثلا ؟
هذه الأسئلة ومثيلاتها يطرحها بعض الملاحظين السياسيين والمحللين السوسيولوجيين الذين يتتبعون عن كثب التوسع العددي والنمو الكيفي للطريقة القادرية البودشيشية واستقطابها لعدد متزايد من المنخرطين الجدد·وهي أسئلة تَنِمُّ عن قصور في الفهم وضعف في التحليل ناتج عن دراسة خارجية وسطحية للطريقة القادرية البودشيشية وإقحامها في قوالب فكرية جاهزة دون محاولة الغوص في أعماقها للتعرف على الآليات ''الربانية التي تحكمها، هذه الآليات التي لا تُكتشف بالفكر ولكن تنكشف للشعور بالمشاركة الوجدانية'' وليس بالتحليل النظري·
فإذا كان تشييء الظاهرة الاجتماعية يساعد الباحث على فهم الظاهرة فهما موضوعيا كما هو معروف في مناهج البحث السوسيولوجي، وذلك بفصل الذات الباحثة عن موضوعها، فإن الظاهرة الصوفية لا يمكن فهمها موضوعيا إلا بالاندماج في التجربة الصوفية اندماجا شعوريا تنصهر معه الذات في موضوعها، تصبح معه الذاتية عين الموضوعية·
من هذا المنطلق يحاول هذا المقال الإجابة على الأسئلة المطروحة أعلاه ويبدد في نفس الوقت سحب الغموض المخيمة في سماء الفهم.·
إن الطريقة القادرية البودشيشية تسعى لتحقيق أهداف مختلفة تماما عن الأهداف التي تتوخاها التنظيمات السياسية كما أنها تختار وسائلها من جنس أهدافه.ا·
فإذا كانت غاية الصوفي هي تحقيق القرب من الله ومعرفته فإن هذا المسعى الروحي لا يمكن إلا أن يتبنى وسائل روحية متلائمة معه فنحن لا نمخر عباب البحر على متن سيارة ذات عجلات مطاطية، كما أننا لا نسير في الطريق على متن باخرة·
لذلك لا يمكننا منهجيا وصم الطريقة القادرية البودشيشية بـ''السلبية السياسية'' أو ''الخمول السياسي'' ما دامت أنها ليست تنظيما سياسيا ولا حركة نقابية. فلا وسائلها ولا أهدافها لها طابع سياسي حتى نُصدر عليها مثل هذا الحكم.
لكن هذا لا يعني السقوط في سلبية مطلقة فالصوفي، يمارس سياسة ''المواطن'' ويهتم بالمصالح العليا لبلاده كواجب ديني وأخلاقي ''الوحدة الترابية، الاستقرار السياسي، السلم الاجتماعي···'' لأنها تنسجم مع روح التصوف وبل وتعتبر من مظاهره الخارجية.·
من هذا المنطلق تشارك الطريقة القادرية البودشيشية في الحياة العامة، وفي إحداث التغيير الاجتماعي الإيجابي مباشرة أو بطريقة غير مباشرة على عدة مستويات.·
- على مستوى الفرد حيث تشكل الزاوية القادرية البودشيشية مركزا مهما لإعادة التأهيل الروحي والأخلاقي لكل المنضوين تحت لوائها من خلال بث الأخلاق الإسلامية العالية فيهم ليس عن طريق الخطاب الوعظي ولكن عبر الشعور الداخلي من خلال ذكر الله تعالى الذي يحدث انقلابا داخل النفس الإنسانية ويستبدل فيها إرادة الشر بإرادة الخير.·
هذه الأخلاق التي تصطدم بها كل البرامج الإصلاحية والتصحيحية والتي يتم استبعادها على مستوى التحليل باعتبارها عناصر ''غير علمية'' ويستنجد بها في فترات الأزمة لامتصاص الصدمات الاجتماعية والنفسية.
- على المستوى الاجتماعي من خلال مساهمة الأفراد المنتمين للطريقة في البناء الاجتماعي كل من موقعه الذي يحتله في السلم الاجتماعي والمسؤولية المناطة به.·
فالقاعدة العامة التي تحكم سلوك المريد في كل اختياراته هي أنه كلما تقدم في سيره الروحي كلما كانت اختياراته متلائمة مع متطلبات الشريعة الإسلامية، وبعيدة عن الهوى وحظ النفس.
- ثم إن الطريقة القادرية البودشيشية تتعامل أيضا مع بعد غيبي باعتباره شهودا حاضرا، فالطريقة عندما تأمر أتباعها بالاستدامة على ذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن، وقراءة صحيح البخاري والشفا للقاضي عياض···إلخ فإنها تحرك ''أسبابا معنوية'' لها تأثير فاعل وعميق في نفوس مريديها وفي المحيط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لشعورها العميق بمعية الله تعالى وقدرته المطلقة التي لا يعجزها شيء، وهي بذلك تمارس ''وطنيتها'' ولكن في مستوى يغيب عن كثير من الناس لانحجابهم بكثافة المادة عن شفافية الروح، وبالأسباب عن مُسبِبها.
وقد أحسسنا مرارا بسريان اللطف الإلهي في الأحداث التي يمر بها المغرب ببركة الأذكار وسلك القرآن التي يأمر شيخ الطريقة القادرية البودشيشية بالعكوف عليها درأ 'للأخطار واستجلابا للطف الإلهي مما نشعر به شعورا خاصا يرقى إلى درجة يقين المعاينة.·
د. محمد صحري
أستاذ الاقتصاد بكلية الحقوق