[مقام العبودية مقام الذلة والافتقار]
العبودية نسب إلى العبودة والعبودة مخلصة من غير نسب لا إلى الله ولا إلى نفسها لأنه لا يقبل النسب إليه ولذلك لم تجيء بيا النسب فأذل الأذلاء من ينتسب إلى ذليل على جهة الافتخار به ولهذا قيل في الأرض ذلول ببنية المبالغة في الذلة لأن الأذلاء يطئونها فهي أعظم في الذلة منهم فمقام العبودية مقام الذلة والافتقار وليس بنعت إلهي قال أبو يزيد البسطامي وما وجد سببا يتقرب به إلى الله إذ رأى كل نعت يتقرب به إلى الله للالوهية فيه مدخل فلما عجز قال يا رب بما ذا أتقرب إليك قال الله له بما جرت عادة الله مع أوليائه أن يخاطبهم به تقرب إلي بما ليس لي الذلة والافتقار.
[تقرب العبد إلى الله بما ليس له وتقرب الله إلى العبد بما ليس له]
وهنا سر لا يمكن كشفه فمن أطلعه الله عليه عرفه نطق الله عباده عليه بأن له صاحبه وولدا وأمثالا وأن له البخل وأنه فقير من العرض بقولهم ونَحْنُ أَغْنِياءُ ثم قال سَنَكْتُبُ ما قالُوا وكتبة الله إيجاب وهذا موضع السر لمن فتح الله عين بصيرته ثم في قوله لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ ونَحْنُ أَغْنِياءُ فألحقهم في العقاب بالكفار وهم الذين ستروا ما يجب للحق عليهم من التنزيه والاشتراك في أسماء الصفات لا في مسمياتها فالعبد معناه الذليل يقال أرض معبدة أي مذللة
[لا يذل لله من لا يعرفه تعالى]
قال الله عز وجل وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وما قال ذلك في غير هذين الجنسين لأنه ما ادعى أحد الألوهية ولا اعتقدها في غير الله ولا تكبر على خلق الله إلا هذان الجنسان فلذلك خصهما بالذكر دون سائر المخلوقات فقال ابن عباس معناه ليعرفوني فما فسر بحقيقة ما تعطيه دلالة اللفظ وإنما تفسيره ليذلوا لي ولا يذل له من لا يعرفه فلا بد من المعرفة به أولا وأنه ذو العزة التي تذل الأعزاء لها فلذلك عدل ابن عباس في تفسير العبادة إلى المعرفة هذا هو الظن به.
[مقام العبودية لم يتحقق به على كماله مثل رسوله الله]
ولم يتحقق بهذا المقام على كماله مثل رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فكان عبدا محضا زاهدا في جميع الأحوال التي تخرجه عن مرتبة العبودية وشهد الله له بأنه عبد مضاف إليه من حيث هويته واسمه الجامع فقال في حق اسمه وأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ وقال في حق هويته سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ فأسرى به عبدا ولما أمر بتعريف مقامه يوم القيامة قيد ذلك فقال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر بالراء أي ما قصدت الفخر عليكم بالسيادة بل أردت التعريف بشرى لكم إذ أنتم مأمورون باتباعي وقد روى ولا فخزبالزاي ما قلته متبجحا وأنا لست كذلك فإن الفخر التبجح بالباطل في صورة حق.
[العبد مع الحق في حال عبوديته كالظل مع الشخص في مقابلة السراج]
فالعبد مع الحق في حال عبوديته كالظل مع الشخص في مقابلة السراج كلما قرب من السراج عظم الظل ولا قرب من الله إلا بما هو لك وصف أخص لا له وكلما بعد من السراج صغر الظل فإنه ما يبعدك عن الحق إلا خروجك عن صفتك التي تستحقها وطمعك في صفته كَذلِكَ يَطْبَعُ الله عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ وهما صفتان لله تعالى وذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ وهذا قوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أعوذ بك منك.
[دخول العبد على الحق بنعته الأخص واستقبال الحق له بنعته الأخص]
وهذا المقام لا يبقى لك صفة تخص الحق وينفرد بها ولا يمكن حصول اشتراك فيها من النعوت الثبوتية لا النعوت السلبية والإضافية إلا ويعلمها صاحب هذا المقام خاصة ولكن عز صاحبه ذوقا فإن الوصف الأخص منك إذا تحققت به وانفردت ودخلت به على الحق لم يقابلك إلا بالنعت الأخص به الذي لا قدم لك فيه وإذا جئت بالنعت المشترك تجلى لك بالنعت المشترك فتعرف سر نسبته إليك من نسبته إليه وهو علم غريب قل أن تجد له ذائقا ومع هذا فهو دون الأول الذي هو الأخص بك فاعلم ذلك فتحقق بهذا المقام فهذا أعطاك مقام العبودية.
[الظاهر ينصبغ بحقيقة المظهر كان ما كان]
وأما مقام العبودة فلا تدري ما يحصل لك فيه من العلم به فإنك تنفي النسب فيه عنه تعالى وعن الكون وهو مقام عزيز جدا لأنه لا يصح عند الطائفة أن يبقى الكون مع إمكانه بغير نسب وهو بالذات واجب لغيره والتنبيه على هذا المقام وصف الظاهر في المظهر بنعت العبد فإن الظاهر ينصبغ بحقيقة المظهر كان ما كان فلا ينتسب الظاهر إلى العبودية فإنه ليس وراءها نزول والمنتسب لا بد أن يكون أنزل في المرتبة من المنسوب إليه ولا ينتسب الظاهر إلا إليه فإن الأثر الذي أعطاه عين المظهر ليس غير الظاهر وليس وراء الله مرمى والشيء لا ينسب إلى نفسه فلهذا جاءت العبودة بغير ياء النسب يقال رجل بين العبودية والعبودة أي ذاته ظاهرة ونسبه مجهول فلا ينسب فإنه ما ثم إلى من فهو عبد لا عبد.
الفتوحات المكية ابن عربي