أباحت السماع الصوفية وأتوا على إباحته بأدلة غير وفية . فمنهم من عده من المباحات ، ومنهم من جعله من القربات .
وعلى كل حال لم يروا به بأسا ، ولم يرفعوا لمخالفيهم في ذلك أسا ، وأنكروا على مانعه أصلا وفرعا ، وجعلوه أنه خالف الأصل حقيقة وشرعا قالوا ويلزم من حظر الغناء تخطئة طائفة من الأولياء ، وتفسيق كثير من العلماء ، إذ لا خلاف أنهم سمعوا الغناء وتواجدوا ، وأفضى بهم إلى الصراخ والغشي والصفق وعربدوا .
وفصل بعضهم تفصيلا حسنا بحسب العقل ، لو ساعده القياس والنقل ، فقال من صح فهمه ، وحسن قصده ، وصقلت الرياضة مرآة قلبه ، وجلت نسمات العزيمة فضاء سره ، فصفا من تصاعد أكدار أرض طبعه ، وبخار بشريته ، وخيلان وسواسه ، وعري من حضوض الشهوات ، وتطهر من دنس الشبهات ، فلا نقول : إن سماعه حرام ، وفعله ذلك خطأ .
قال أبو طالب المكي قدس الله روحه : من طعن في السماع فقد طعن في سبعين صديقا وسئل الشبلي عن السماع فقال ظاهره فتنة وباطنه عبرة ، فمن عرف الإشارة حل له السماع وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرض للبلية ، وذلك لأن السماع مهيج ما في القلوب محرك ما فيها ، فلما كانت قلوب القوم معمورة بذكر الله تعالى صافية من كدر الشهوات ، محترقة بحب الله ليس فيها سواه ، فالشوق والوجد والهيجان والقلق كامن في قلوبهم كمون النار في الزناد ، فلا تظهر إلا بمصادفة ما يشاكلها .
فمراد القوم فيما يسمعون إنما هو مصادف ما في قلوبهم ، فيستثيره بصدمة طروقه وقوة سلطانه ، فتعجز القلوب عن الثبوت عن اصطدامه ، فتبعث الجوارح بالحركات والصرخات والصعقات لثوران ما في القلوب ، لا أنه يحدث فيها شيئا . قال أبو القاسم الجنيد قدس الله سره : السماع لا يحدث في القلب شيئا وإنما هو مهيج ما فيه فتراهم يهيجون من وجدهم ، وينطقون من حيث قصدهم ، ويتواجدون من حيث كامنات سرائرهم ، لا من حيث قول الشاعر ومراد القائل ، ولا يلتفتون إلى الألفاظ لأن الفهم سبق إلى ما يتخيله الذهن .
وشاهد ذلك كما حكي أن أبا حكمان الصوفي سمع رجلا يطوف وينادي ( يا سعتربري ) فسقط وغشي عليه فلما أفاق قيل له في ذلك فقال سمعته وهو يقول اسع تر بري ، ألا ترى أن حركة وجده من حيث هو فيه من وقته لا من حيث قول القائل ولا قصده كما روى بعض الشيوخ أنه سمع قائلا يقول : الخيار عشرة بحبة ، فغلبه الوجد فسئل عن ذلك فقال إذا كان الخيار عشرة بحبة فما قيمة الأشرار فالمحترق بحب الله لا تمنعه الألفاظ الكثيفة ، عن فهم المعاني اللطيفة ، فلم يكن واقفا مع نغمة ولا مشاهدة صورة .
فمن ظن أن السماع يرجع إلى رقة المعنى وطيب النغمة فهو بعيد عن السماع . قالوا وإنما السماع حقيقة ربانية ، ولطيفة روحانية ، تسري من السميع المسمع إلى الأسرار ، بلطائف التحف والأنوار ، فتمحق من القلب ما لم يكن ، ويبقى فيه ما لم يزل ، فهو سماع حق بحق من حق .
قالوا وأما الحال الذي يلحق المتواجد ، فمن ضعف حاله عن تحمل الوارد ، وذلك لازدحام أنوار الطائف في دخول باب القلب ، فيلحقه دهش فيبعث بجوارحه ، ويستريح إلى الصعقة والصرخة والشهقة .
وأكثر ما يكون ذلك لأهل البدايات ، وأما أهل النهايات فالغالب عليهم السكون والثبوت لانشراح صدورهم ، واتساع سرائرهم الوارد عليهم ، فهم في سكونهم متحركون ، وفي ثبوتهم متقلقلون ، كما قيل لأبي القاسم الجنيد رضي الله عنه : ما لنا لا نراك تتحرك عند السماع ؟ فقال { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب } ويحكى أنه سئل عن السماع ولأي شيء يكون الرجل ساكنا قبل السماع ، فإذا سمع اضطرب وتحرك ؟ فقال : السماع خطاب الروح من الميثاق الأول حين قال { ألست بربكم قالوا بلى } فسمع حين سمع لا حد ولا رسم ولا صفة إلا المعنى الذي سمع حين سمع ، فبقيت حلاوة ذلك السماع فيهم ، فلما أخرجهم وردهم إلى الدنيا ظهر ذلك فيهم ، فإذا سمعوا نغمة طيبة وقولا حسنا طارت هممهم إلى ذلك الأصل ، فسمعوا من الأهل ، وأشاروا إلى الأصل .
قالوا فالعارف هو الذي سمع من الله ، ومن لا يعرف الله كيف يسمع من الله ، ومن لا يسمع من الله فالبهيمة خير منه { لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل } .
وقال أبو عثمان المغربي : من ادعى السماع فلم يسمع من صوت الطيور وصرير الباب وتصفيق الرياح فهو مدع ، فالعارف يسمع لطيف الإشارة ، من كثيف العبارة . ودخل يوما أبو عثمان المغربي وواحد يستقي الماء من بئر عليه بكرة فتواجد ، فقيل له في ذلك ، فقال إنها تقول الله الله .
قالوا : وسمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه صوت ناقوس ، فقال لأصحابه أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا ، قال إنه يقول سبحان الله حقا حقا . إن المولى صمدي يبقى يا أهل الدنيا إن الدنيا قد غرتنا واستهوتنا واستغوتنا . يا ابن الدنيا مهلا مهلا . يا ابن الدنيا تفنى الدنيا قرنا قرنا . ما من يوم يمضي عنا إلا يهوي منا ركنا .
قالوا : وقال علي رضي الله عنه وهو مار على دكان قطان لأصحابه : أتدرون قوسه ما يقول ؟ قالوا لا ، قال إنه يقول : لو عشت عمر نوحوضعف ضعف ضعف ذاك ألست بعدها تف تف تف . قال في حل الرموز : واعلم أنه قد حضر السماع ، وسمع كثير من الأكابر والمشايخ والتابعين ومن الصحابة ، فنقل أنه سمع عبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر .
غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب