إذا أطلق الفناء إنما ينصرف للفناء في الذات وحقيقته محو الرسوم والأشكال بشهود الكبير المتعال واستهلاك الحس في ظهور المعنى.
و قال أبو المواهب: محو واضمحلال، وذهاب عنك وزوال، وقال أبو سعيد بن الأعرابي: هو أن تبدو العظمة والجلال على العبد فتنسيه الدنيا والآخرة والأحوال والدرجات والمقامات والأذكار يفنيه عن كل شيء وعن عقله وعن نفسه، وفنائه عن الأشياء وعن فنائه عن الفناء لأنه يغرق في التعظيم أي تتجلى له عظمة الذات فتفنيه عن رؤية الأشياء ومن جملتها نفسه فيصير عين العين ويغرق في بحر الأحدية وقد يطلق الفناء على الفناء في الأفعال فلا يرى فاعلا إلا الله وعلى الفناء في الصفات فلا قدير ولا سميع ولا بصير إلا الله، يعنى انه يرى لا خلق موتى لا قدرة لهم ولا سمع ولا بصر إلا بالله وبعد هذا يقع الفناء في الذات وفى ذلك يقول الشاعر:
فيفنى ثم يفنى ثم يفنى
فكان فناؤه عين البقاء
و أما البقاء فهو الرجوع إلى شهود الأثر بعد الغيبة عنه أو شهود الحس بعد الغيبة عنه بشهود المعنى لكنه يراه قائما بالله ونورا من أنوار تجلياته إذ لولا الحس ما ظهرت المعنى ولولا الواسطة ما عرف الموسوط، فالحق تعالى تجلى بين الضدين بين الحس والمعنى وبين القدرة والحكمة، وبين الفرق والجمع، فالغيبة عن أحد الضدين فناء ورؤيتهما معا بقاء فالغيبة عن الحس وعن الحكمة وعن الفرق فناء وملاحظتهما معا بقاء فالبقاء اتساع في الفناء بحيث لا يحجبه جمعه عن فرقه ولا فناؤه عن بقائه ولا شهود القدرة عن الحكمة بلل يعطى كل ذي حق حقه ويوفى كل ذي قسط قسطه وقد يطلق الفناء على التخلي والتحلي فيقال فني عن أوصافه المذمومة وبقى بالأوصاف المحمودة والله تعالى أعلم.
معراج التشوف
إلى حقائق التصوف لابن عجيبة