علم التصوف علم ليس يعرفــه إلا
أخو فطنة بالحـق موصــــــوف
وكيف يعرف شيئا ليس يشهــده
وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوف
قال يحيى ابن معاذ: "أغرف لكل أحد من نَهَره واسقه بكأسه وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار".
وقال آخر: "كِلْ لكل بمكيال عقله وزِنْ له بميزان علمه فقد كان العارفون يقفون في هذا البحر على ساحل الإشارات لأن إفشاء سر الربوبية كفر".وإذا فأهل هذا العلم يغرفون من فيض بحر إلهي ومدد رباني لا يوصف بالعبارة وإنما تقربه الإشارة، ومن معاني علومهم ما تدركه العقول ويطابق المعقول والمنقول ومنها ما لا تفهمه العقول لأنه وراء طورها فتوكل إلى أربابها ولا تنكر عليهم بمجرد سماعها وذلك أن هذا العلم الروحي القلبي ذاتي المنهج فرداني التوجه وأهله أرباب أحوال لا أرباب أقوال، ومعرفة حقائقه من جهة الذوق والوجدان لا من جهة الدليل والبرهان، لأنها معانِي منطبعةٌ في الأرواح من يوم الميثاق، فيَنبثق في الصدر شعاعها وتنكشف للقلب سرائرها وبالتالي فهي أذواق شهودية وأسرار ربوبية لا يفهمها إلا أربابها وإفشاؤها لمن لا يفهمها ولا يعلمها جهل بقدرها فهي أمانات عند من يفهم عن الله ويجب كتمانها عن غير أهلها ولا يحل ذكرها لغير المتأهلين لها قال تعالى: "ولا تأتوا السفهاء أموالكم"[النساء: 5] فكتم الأسرار من شأن الأخيار وهتك حرمات الأسرار حال الأشرار أهلِ النار والعار فقد قال الروذابادي: "علمنا هذا إشارة فإذا صار عبارة خفي" وقال الإمام الغزالي:"قد تضر الحقائق بأقوام كما يتضرر الجُعَل بالورد والمسك".
وكما تقدم فهذا العلم لا يغاير العلم الشرعي الظاهر الذي يلزم المكلف في أمر دينه عبادة ومعاملة لأنه ضياء ونور وهداية ورشد بل هو ثمرته وحكمته ولبه وجوهره حيث يشرق ويتجلى على قلب العبد ويسطع عليه عند انحسار وانقشاع سحائب الحجب الظلمانية الكثيفة قال تعالى: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا"(الإسراء: 36) فهو مطلوب لذاته لأنه يتوصل به إلى سعادة الدنيا والآخرة ويُنال بقدر الرزق لا بقدر الجهد مع عدم الغنى عن المجاهدة لأن المجاهدة مفتاح الهداية لا مفتاح لها سواها. قال تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين"[العنكبوت: 69].
ومن هنا كان سبيل العلم الشرعي العام هو الدرس والنظر العقلي ووسيلته الأبصار، وسبيل علم الحقائق الخاص ارتفاع الريب وحصول اليقين ووسيلته البصائر، ولأجل ذلك سمي هذا الأخير علم القلوب لأن القلب هو موضع المعرفة، وعلم الحقائق للدلالة على أن صاحبه يجد الحقائق الإيمانية التوحيدية، وعلم المكاشفة والأسرار وهي أسرار إلهية وأنوار ومعارفُ ربانية باطنية تنكشف للسالك إلى الله انكشافا وتنقدح له انقداحا إلى غير ذلك من التسميات والألقاب الكثيرة التي اصطلح عليها كعلم الأخلاق وعلم الأحوال وعلم السلوك فكلها إذن تصب في قالب أو بوتقة أحوال النفس السالكة والتغلب على الحس والشهوات؛ ومعناها في جملتها فيضان هذا العلم على العبد من حضرة القدس امتنانا محضا واختصاصا واجتباء :"قل إن الفضل بيد الله يوتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم" [آل عمران: 74] "الله يجتبي إليه من يشاء" [الشورى: 13] وقد نوه الله تعالى بشأنه في قولـه: "يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" [البقرة: 269]، وقال في مقابله: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" [الإسراء: 85] فالحكمة نور في القلب تدرك به الأشياء كما هي عليه يعطيها الحكيم الكريم لمن شاء من عباده وقد جعل بابها مفتوحا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فقال: "والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم"[البقرة: 247] وهي ضالة المؤمن يأخذها ممن سمعها ولا يبالي من أي وعاء خرجت.