( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)
البيت حجرة والعبد مدرة ، فربط المدرة بالحجرة ، فالمدر مع الحجر . وتعزز وتقدس من لم يزل .
ويقال البيت مطاف النفوس ، والحق سبحانه مقصود القلوب!
البيت أطلال وآثار وإنما هي رسوم وأحجار ولكن :
تلك آثارنا تدل علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار.
ويقال البيت حجر ، ولكن ليس كل حجر كالذي يجانسه من الحجر .
حجر ولكن لقلوب الأحباب مزعج بل لأكباد الفقراء منفج ، لا بل لقلوب قوم مثلج مبهج، ولقلوب الآخرين منفج مزعج .
وهم على أصناف : بيت هو مقصد الأحباب ومزارهم ، وعنده يسمع أخبارهم ويشهد آثارهم .
بيت من طالعه بعين التفرقة عاد بسر خراب ، ومن لاحظه بعين الإضافة حظي بكل تقريب وإيجاب ، كما قيل :
إن الديار - وإن صمتت - فإن لها
عهدا بأحبابنا إذ عندها نزلوا
بيت من زاره بنفسه وجد ألطافه ، ومن شهده بقلبه نال كشوفاته .ويقال قال سبحانه :
وسميت ( بكة ) لازدحام الناس ، فالكل يتناجزون على البدار إليه ، ويزدحمون في الطواف حواليه ، ويبذلون المهج في الطريق ليصلوا إليه .
والبيت لم يخاطب أحدا منذ بني بمنية ، ولم يستقبل أحدا بحظوة ، ولا راسل أحدا بسطر في رسالة ، فإذا كان البيت الذي خلقه من حجر - هذا وصفه في التعزز فما ظنك بمن البيت له . قال صلى الله عليه وسلم مخبرا عنه سبحانه : « الكبرياء ردائي والعظمة إزاري » .
ويقال إذا كان البيت المنسوب إليه لا تصل إليه من ناحية من نواحيه إلا بقطع المفاوز والمتاهات فكيف تطمع أن تصل إلى رب البيت بالهوينى دون تحمل المشقات ومفارقة الراحات؟!
ويقال لا تعلق قلبك بأول بيت وضع لك ولكن أفرد سرك لأول حبيب آثرك .
ويقال شتان بين عبد اعتكف عند أول بيت وضع له وبين عبد لازم حضرة أول عزيز كان له .
ويقال ازدحام الفقراء بهممهم حول البيت ليس بأقل من ازدحام الطائفين بقدمهم ، فالأغنياء يزورون البيت ، ويطوفون بقدمهم ، والفقراء يبقون عنه فيطوفون حوله بهممهم .
ويقال الكعبة بيت الحق سبحانه في الحجر ، والقلب بيت الحق سبحانه في السر ، قال قائلهم :
لست من جملة المحبين إن لم
أجعل القلب بيته والمقاما
وطوافي إجالة السر فيه
وهو ركني إذا أردت استلاما
فاللطائف تطوف بقلوب العارفين ، والحقائق تعتكف في قلوب الموحدين ، والكعبة مقصود العبد بالحج ، والقلب مقصود الحق بإفراده إياه بالتوحيد والوجد .
بركاته اتصال الألطاف والكشوفات ، فمن قصده بهمته ، ونزل عليه بقصده هداه إلى طريق رشده .
ولكن لا تدرك تلك الآيات بأبصار الرؤوس ولكن ببصائر القلوب ، ومقام إبراهيم - في الظاهر - ما تأثر بقدمه ، وفي الإشارة : ما وقف الخليل عليه السلام بهممه .