الإشارة
إنما يعظم جاه العبد عند الله بثلاثة أمور : انحياشه بقلبه إلى الله ، ومسارعته إلى ما فيه رضا الله ، وإرشاد العباد إلى الله ، بدعائهم إلى الله بالحال والمقال ، فبقدر ما يقع من هداية الخلق على يديه يعلو مقامه عند الله ، إن حصلت المعرفة بالله ، وبهذا تعرف شرف مرتبة مشيخة الصوفية ، الدالين على الله ، الداعين إلى حضرة الله ، إن تكلموا وقع كلامهم في قلوب الخلق ، فيرجعون إلى الله من ساعتهم ، مجالسهم كلها وعظ وتذكير ، حالهم ينهض إلى الله ، ومقالهم يدل على الله ، ففي ساعة واحدة يتوب على يديهم من الخلق ما لا يتوب على يد العالم في سنين؛ وذلك لإنهاض الحال والمقال ، فلا جرم أنهم أعز الخلق إلى الله ، وأعظمهم قدرا عند الله .
قال السهروردي في العوارف : ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأقسمن لكم ، إن أحب عباد الله إلى الله يحببون الله إلى عباده ، ويحببون عباد الله إلى الله ، ويمشون في الأرض بالنصيحة » وهذا الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رتبة المشيخة والدعوة؛ فإن الشيخ يحبب الله إلى عباده حقيقة ، ويحبب عباد الله إلى الله .
فأما كونه يحبب عباد الله إلى الله؛ لأن الشيخ يسلك بالمريد طريق الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأخلاقه . ومن صح اقتداؤه واتباعه أحبه الله ، قال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [ آل عمران : 31 ] ، ووجه كونه يحبب الله إلى عباده؛ لأنه يسلك بالمريد طريق التزكية ، وإذا تزكت النفس انجلت مرآة القلب ، ودخل فيها نور العظمة الإلهية ، ولاح فيها جمال التوحيد ، وذلك ميراث التزكية ، قال الله تعالى : { قد أفلح من زكاها } [ الشمس : 9 ] ، وفلاحها : الظفر بمعرفة الله ، فإذا عرفه ، قطعا ، أحبه وفنى فيه .
فرتبة المشيخة من أعلى الرتب؛ لأنها خلافة النبوة في الدعوة إلى الله .
ثم قال : فعلى المشايخ وقار لله ، وبهم يتأدب المريد ظاهرا وباطنا ، قال الله تعالى :
{ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] ، فالمشايخ ، لما اهتدوا ، أهلوا للاقتداء بهم ، وجعلوا أئمة للمتقين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حاكيا عن الله عز وجل : « إذا كان الغالب على عبدي الاشتغال بي ، جعلت همته ولذته في ذكري ، فإذا جعلت همته ولذته في ذكري ، أحبني وأحببته ، ورفعت الحجاب فيما بيني وبينه ، لا يسهو إذا سها الناس ، أولئك كلامهم كلام الأنبياء ، أولئك الأبطال حقا ، أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض عقوبة أو عذابا ، ذكرتهم فصرفته بهم عنهم » انتهى كلامه رضي الله عنه .
ومن كلام ذي النون المصري - لما تكلم على الأبدال - قال : { فهمهم إليه ثائرة ، وأعينهم إليه بالغيب ناظرة ، قد أقامهم على باب النظر من رؤيته ، وأجلسهم على كراسي أطباء أهل معرفته ، ثم قال لهم : إن أتاكم عليل من فقدي فداووه ، أو مريض من فراقي فعالجوه ، أو خائف مني فانصروه ، أو آمن مني فحذروه ، أو راغب في مواصلتي فمنوه ، أو راحل نحوي فزودوه ، أو جبان في متاجرتي فشجعوه ، أو آيس من فضلي فرجوه ، أو راج لإحساني فبشروه ، أو حسن الظن بي فباسطوه ، أو معظم لقدري فعظموه ، أو مسيء بعد إحساني فعاتبوه ، أو مسترشد فأرشدوه }. وهذه صفة مشايخ التربية على ما شهدناهم ، وما شهدنا إلا بما علمنا . وبالله التوفيق .
تفسير ابن عجيبة