إذا جاءت الطامة، وهو التجلَّي الجلالي الذي لايعرفه فيه إلاّ الرجال، يومئذ يتذكر الإنسان ما سعى فيه من علم التوحيد، فمَن كان عارفاً بالله في جميع الأشياء عرفه في جميع التجليات، كيفما تلوّنت، ومَن كان قاصراً في المعرفة في البعض وأنكره في البعض، كما في حديث القيامة، حيث يتجلّى لبعض عباده في صورة لا يعرفونها، فيُنكرونه، ويقولون، هذا موضعنا حتى يأتينا ربنا، ثم يتجلّى لهم في صورة يعرفونها، فيُقرونه، وهذا لقصورهم في المعرفة، ولو عرفوا الله في جميع تجلياته ما أنكروه في شيء منها، وبُرّزت الجحيم لمَن يرى، أي: وبُرّزت حينئذ نار القطيعة لمَن يرى. قال القشيري: أي: ظهرت جحيم الحجاب لمَن يراه غيرَ الأشياء، فإنه عين الأشياء في جميع التجليات، الجمالية والجلالية، العلوية والسفلية، الصورية والمعنوية.
فأمَّا مَن طغى وتبع هواه، وآثر الحياة الدنيا، والاشتغال بها عن الإقبال على الله، فإنَّ الجحيم هي المأوى، أي: جحيم الحرمان عن مشاهدة الرحمن، وأمّا مَن خاف مقام ربه، أي: قيام ربه بالأشياء، أو على الأشياء، واطلاعه عليها، أو قيامه بين يدي الله غداً للحساب، فالأول لأهل المشاهدة، والثاني لأهل المراقبة، والثالث لأهل المحاسبة، ونهى النفسَ عن الهوى، عن كل ما يشغل عن الله، ويُقسي القلبَ عن ذكر مولاه، مما تهواه النفوس، فإنّ الجنة هي المأوى، جنة المعارف لمَن ترك ما تهوى نفسُه من المباحات، وجنة الزخارف لمَن ترك ما تهواه من المحرّمات.
قال الورتجبي: خاطب تعالى العبادَ بهذه الآية في أوائل مقاماتهم، حين وجب عليهم ترك النفوس، وشرَه هواها، والميل إلى حظوظها، لأنهم في وقت قصودهم إلى الله لا يجوز لهم الرخص والرفاهية، فقد وجب عليهم الإعراض عن حظوظ أنفسهم، خوفاً من الاحتجاب عن الوصول إلى الله تعالى، ولعلمهم بأنه محيط بحركات شهوات نفوسهم الخفية، حين تميل بخفاياها إلى مرادها دون الله، فإذا جادوها وقهروها بتأييد الله أوصلهم الله مقامَ مشاهدته، وهي جنة العارفين، فإذا ترقُّوا إلى درجات المعرفة لم يحتاجوا إلى قهر النفس عن الهوى، فإنّ نفوسهم وأجسامهم وشياطينهم صارت روحانية، فجانست الأرواح الملكوتية، فشهوات نفوسهم هناك من تواثير حلاوة أرواحهم في مشاهدة الحق، فتشتهي الأنفسُ ما تشتهي الأرواحُ في الغيوب والعقول والقلوب، فيضطرهم هناك إلى كل شيء يكون للنفوس والأرواح، جنات تظهر فيها أنوار شهود الحق، وأين الكافر والمعطِّل والمدّعِي من هذا المقام؟ وهم خلقوا من الجهالة، فيموتون في الضلالة، وأصحاب القلوب والمعارف عيش أرواحهم عيش الربانيين، وعيش نفوسهم عيش الجنّانيين ـ أي أهل الجنة الحسية ـ والله قادر بذلك يختص برحمته مَن يشاء، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " أسلم شيطاني " وقال: " نحن معاشر الأنبياء أجسادنا روح " ثم قال عن سهل: لا يَسلم من الهوى إلاَّ الأنبياء وبعض الصدّيقين، ليس كلهم، وإنما يسلم من الهوى مَن ألزم نفسه الأدب. قلت: الذي يُلزم نفسه الأدب هو الذي ينزل إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ بالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين، وقليل ما هم.