قوله تعالى : { الذين يذكرون الله قياما وقعودا } .
استغرق الذكر جميع أوقاتهم؛ فإن قاموا فبذكره ، وإن قعدوا أو ناموا أو سجدوا فجملة أحوالهم مستهلكة في حقائق الذكر ، فيقومون بحق ذكره ويقعدون عن إخلاف أمره ، ويقومون بصفاء الأحوال ويقعدون عن ملاحظتها والدعوى فيها .
ويذكرون الله قياما على بساط الخدمة ثم يقعدون على بساط القربة .
ومن لم يسلم في بداية قيامه عن التقصير لم يسلم له قعود في نهايته بوصف الحضور .
والذكر طريق الحق - سبحانه - فما سلك المريدون طريقا أصح وأوضح من طريق الذكر ، وإن لم يكن فيه سوى قوله : « أنا جليس من ذكرني » لكان ذلك كافيا .
والذاكرون على أقسام ، وذلك لتباين أحوالهم : فذكر يوجب قبض الذاكر لما يذكره من نقص سلف له ، أو قبح حصل منه ، فيمنعه خجله عن ذكره ، فذلك ذكر قبض .
وذكر يوجب بسط الذاكر لما يجد من لذائذ الذكر ثم تقريب الحق إياه بجميل إقباله عليه .
وذاكر هو محو في شهود مذكوره؛ فالذكر يجري على لسانه عادة ، وقلبه مصطلم فيما بدا له .
وذاكر هو محل الإجلال يأنف من ذكره ويستقذر وصفه ، فكأنه لتصاغره عنه لا يريد أن يكون له في الدنيا والآخرة ( ثناء ) ولا بقاء ، ولا كون ولا بهاء ، قال قائلهم :
ما إن ذكرتك إلا هم يلعنني ... قلبي وروحي وسرى عند ذكراكا
حتى كأن رقيبا منك يهتف بي ... إياك ويحك والتذكار إياكا
والذكر عنوان الولاية ، وبيان الوصلة ، وتحقيق الإرادة ، وعلامة صحة البداية ، ودلالة صفاء النهاية ، فليس وراء الذكر شيء ، وجميع الخصال المحمودة راجعة إلى الذكر ، ومنشأة عن الذكر .
قوله جل ذكره : { ويتفكرون فى خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت } .
التفكر نعمة كل طالب ، وثمرته الوصال بشرط العلم ، فإذا سلم الذكر عن الشوائب ورد صاحبه على مناهل التحقيق ، وإذا حصل الشهود والحضور سما صاحبه عن الفكر إلى حدود الذكر ، فالذكر سرمد .
ثم فكر الزاهدين في فناء الدنيا وقلة وفائها لطلابها فيزدادون بالفكرة زهدا فيها .
وفكر العابدين في جميل الثواب فيزدادون نشاطا عليه ورغبة فيه .
وفكر العارفين في الآلاء والنعم فيزدادون محبة للحق سبحانه .
قوله جل ذكره : { سبحانك فقنا عذاب النار } .
التسبيح يشير إلى سبح الأسرار في بحار التعظيم .