الإشارة:
وهل أتاك أيها العارف حديث موسى، كيف سار إلى نور الحبيب، ومناجاة القريب، إذ رأى نارًا في مرأى العين، وهو نورُ تَجَلِّي الحبيب بلا بين، فقال لأهله ومن تعلق به: امكثوا، أقيموا في مقام الطلب، واصبروا وصابروا ورابطوا على قلوبكم، في نيل المُطَّلَبِ، إني آنست نارًا، وهو نور وجه الحبيب في مرائي تجلياته، وهذا مقام الفناء، لعلي آتيكم منها بقبس، تقتبسون منه أنوارًا لقلوبكم وأسراركم.
أو أجد على النار هدى يهديني إلى مقام البقاء والتمكين، فلما أتاها، وتمكن من شهودها، نودي يا موسى: إني أنا ربك، فلا نار ولا أثر، وإنما وجه الحبيب قد تجلى وظهر، في مرأى الأثر، فاخلع نعليك، أي: اخرج عن الكونين إن أردت شهود حضرة المكون، كما قال القائل:
إنك بالواد المقدس، أي: بحر حضرة القدس ومحل الأنس، قد طويت عنك الأكوان، وأبصرت نور الشهود والعيان، وأنا اخترتك لحضرتي، واصطفيتك لمناجاتي، فاستمع لما يوحى إليك مني، فأنا الله لا إله إلا أنا وحدي، فإذا تمكنت من شهودي، فانزل لمقام العبودية؛ شكرًا، وأقم الصلاة لذكري، إن الساعة آتية لا محالة، فأُكرم مثواك، وأُجل منصبك، وأرفعك مع المقربين، فلا يصدنك عن مقام الشهود أهلُ العناد والجحود، فتسقط عن مقام القرب والأنس، وتصير في جوار أهل حجاب الحس، ولعل هذا المنزع هو الذي انتحى ابنُ الفارض، حيث قال في كلام له:
قوله: " صارت جبالي دكًّا " أي: جبال وجوده، فحصل الزوال من هيبة نور المتجلي، وهو الكبير المتعال. وهذا إنما يكون بعد موت النفس وقهرها، فإنها حينئذ تحيا بشهود ربها، حياة لا موت بعدها. وقوله: " مذ صار بعضي كلي " ، يعني: إنما حصلت له المناجاة والقرب الحقيقي حين فنيت دائرة حسه، فاتصل جزء معناه بكل المعنى المحيط به، وهو بحر المعاني المُفني للأواني. وبالله التوفيق.
تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة
أو أجد على النار هدى يهديني إلى مقام البقاء والتمكين، فلما أتاها، وتمكن من شهودها، نودي يا موسى: إني أنا ربك، فلا نار ولا أثر، وإنما وجه الحبيب قد تجلى وظهر، في مرأى الأثر، فاخلع نعليك، أي: اخرج عن الكونين إن أردت شهود حضرة المكون، كما قال القائل:
واخلع النعلين إن جئتَ إلى | ذلك الحي ففيه قدسنا | |
وعن الكونين كن منخلعـا | وأزل ما بيننا من بَيْنِنَا |
آنسْـتُ في الحَيّ نارًا | لَيْلاً فَبَشّرْتُ أهلي | |
قُـلْـتُ امـْكـُثُـوا فلَعـلّي | أجِدْ هُدايَ لَعَلّي | |
دَنَـوْتُ مِنها فـكانَتْ | نار التكلم قبلي | |
نودِيتُ منها كـفاحًا | رُدّوا لَياليَ وَصْـلي | |
حـتى إذا مال تَـدانَى الـ | ـميقاتُ في جَمْعِ شَملي | |
صارَتْ جِـباليّ دكًا | مـنْ هيبَةِ المُـتَجَـلّي | |
ولاحَ سـرًّ خَفيٌ | يدْرِيه مَنْ كَانَ مِثْلي | |
فالموتُ فِيهِ حياتي | وفي حَياتيَ قَتلي | |
وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني | مذ صار بَعْضِيَ كُلي |
تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة