آخر الأخبار

جاري التحميل ...

علم التصوف

إن التصوف بصفة عامة بطرقه ومناهجه التربوية المنصبة في بوتقة واحدة يمثل جوهر الدين وأساسه المتين لأن مقصوده وهدفه تقوية العلاقة أو الصلة بالله تعالى وذلك بتصفية البواطن والسرائر حتى يكون العبد على حالة يرضاها الله ورسوله ظاهرا وباطنا، لهذا فهو منبثق من دائرة الإحسان التي هي أعلى درجات ومقامات الدين؛ وانطلاقا من هذه الحقيقة المسلمة فإن مدرسة التصوف مدرسة روحية أخلاقية دينية تقوم على المجاهدة والإنابة إلى الله تعالى وعلى تذوق البعد الإيماني الوجداني في العبادة والذي يحقق أحوالا من اليقين والاطمئنان لا توفرها الرفاهية المادية، بل إنما تحصل عن طريق صفاء الفؤاد ونقاء السرائر لأن المنهج الصوفي يهتم بالدرجة الأولى بمعرفة الحق ومراقبته لأن أعماله وأحواله هي التي ينشأ عنها علمه الذي ينسكب في القلوب الصافية المخلَصة انسكابا يملأها نورا وحكمة، وهذا العلم يحقق الكمالات العرفانية لأنه علم الحقائق والمعاني الروحية السامية، فهو إذا عبارة عما اشتملت عليه قلوب أهل الله الخلّص من المعارف وحقائق التوحيد وغوامض العلوم اللدنية التي لا تطيقها جل الفهوم البشرية، وهي من أسرار الله تعالى التي تتجلى أنوارا وفهوما وأذواقا ومشاهدَ في قلوب العارفين شهودًا للمعاني الملكوتية في المباني الملكية أو قلْ شهودًا لأنوار سرائر الحرية المعنوية في كثائف الظواهر الحسية، أو شهودا لأنوار الربوبية في قوالب العبودية، أو شهودا لأنوار الحق في مظاهر الخلق، بحيث يفنى الشاهد عن وجود المخلوقات عينا وأثرا بغيبته في شهود الحق،

فإن كان مع مراعاته الحكمة الظاهرة فهو وإلا فهو ناقص، لأن من نظر ببصيرته لعالم القدرة الباطنة وجد الحقيقة محضة ومن نظر ببصره لعالم الحكمة الظاهرة وجد الشريعة محضة. لكن كل ما ظهر على العبد من عمل الحكمة إنما هو من فعل القدرة، فالقدرة باطنة فيه والحكمة ظاهرة عليه. يقول أبو بكر الواسطي:النظر إلى المشيئة حقيقة والنظر إلى السبب شريعة، فهما إذا الأختان اللتان لا يحرم الجمع بينهما بل لا بد منه لمن أراد كمال الدين. ولهذا نقول إنه لا وصول للحقيقة إلا بعد تحقيق ظاهر الشريعة ولا يكون ذلك أيضا إلا من خلال سلوك نهج الطريقة قال تعالى: (واتوا البيوت من أبوابها) [البقرة: 189] فالحقيقة قلب والشريعة قالب، وإن شئت قلت الحقيقة جوهر والشريعة مظهر ولا قيام لأيٍّ منهما دون الأخرى. وكل ما شرع الله سبحانه وتعالى من الأعمال الظاهرة التي مرجعها الامتثال والاجتناب فهو شريعة والحصول على ثمرته حقيقة كما أن السير على بَرِّ الشريعة مع التطهر ببحر الحقيقة هو الطريقة. قال تعالى: )ثم جعلناك على شريعة من الأمر([الجاثية: 18] أي طريقة؛ وبالتالي فالتمظهر بالشريعة مناطه الجوارح الظاهرة، وعمل الطريقة مداره إصلاح الضمائر الباطنة، والحقيقة هي مشاهدة الأنوار والحقائق. أو قل: الشريعة هي الكتاب والسنة، والطريقة تجسيد العمل بهما فهي غير زائدة عليها لأنها عمل بأذكار مشروعة، والحقيقة هي التوحيد الخاص الذي هو المعرفة الشهودية. وعليه فالشريعة أدب من الله إلى الله والطريقة سير منه إليه والحقيقة وصول منه إليه )وإليه يرجع الأمر كله([هود: 123] يقول الناظم:
جمع الشريعة مع الطريقـــــــهْ وجمع هاتين مع الحقيــقـــــه
لا بد منه للذي قد سلـكـــــــــــا طريق الآخرة كي لا يهلـكــا
أما الشريعة فما الله أمــــــــــرْ به وما عنه عباده زجــــــــر
ثم الطريقة لدى كل نبـــــــــــه جرى على ذلك والعملِ بــــه
ونظرٍ إلى بواطن الأمـــــــــور والفعل يُشهد من الله الشكــــور
هـــو الحقــيقة وتســـتبيـــــــــنْ في قوله إياك نستعــــيــــــن
وقال الشيخ إبراهيم إنياس: 
جمع الشريعة مع الطريــقـــــهْ إلى الحقيقة العرى الوثيقـــه
وإذا فهذه الثلاثة متلازمة بالنسبة للمسلم المؤمن المحسن والمراد منها إقامة العبودية على الوجه المراد من العبد وعلى ذلك فالمتكلم في أحكام الإسلام يسمى فقيها والمتكلم في شعب الإيمان يسمى أصوليا والمتكلم في مراتب الإحسان يسمى صوفيا. وعليه فالحقيقة والشريعة لا تناقض بينهما ولا تغاير بل هما متلازمتان فالشريعة هي وظائف الجوارح الظاهرة والحقيقة هي وظائف القلب والروح وهما بالنسبة للإنسان بمثابة العينان إحداهما تنظر لعالم القدرة والثانية تنظر لعالم الحكمة، وفقدان إحداهما عور ومن أهمل إحداهما سقط من عين الله ولا يقبل منه صرف ولا عدل لأن من تحقق ولم يتشرع فقد تزندق لإبطاله الحكمة ولأنه صارت حقيقته عُريانة مكشوفة فإن كان محقا بحيث غلبه السكر وقتل عليها كان شهيدا وإن كان مدعيا كان بعيدا ومن الحضرة طريدا ومن تشرع ولم يتحقق فقد تفسّق لقصور نظره عن شهود القدرة فتكون أعماله أشباحا بلا أرواح ولا تخلو غالبا من الشرك الخفي قال لله الله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) [الفاتحة: 5] فشطر الآية الأول شريعة وشطرها الثاني حقيقة. ولهذا أمر القرآن والسنة بهما معا فكانا من هذه الحيثية شيئا واحدا لدخولهما في باب الأمر الشرعي. قال الله تعالى:(واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا.... )[النساء: 36] فقد جمعت الآية بين التشرع والتحقق، وأما السنة فقد تقدم ذكر الإحسان في حديث جبريل كما أنهما من باب الثواب عليهما معا يقول القرآن الكريم :(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا)[الكهف: 107- 108] وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: {أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خيرٍ منهم وإن تقرّب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليّ ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة} وفي هذا المضمار يقول الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي: /المراد بالشريعة الحكم بالظاهر وبالحقيقة الحكم بالباطن كقتل من استحق القتل باطنا من غير ثبوت ما يوجب ذلك عليه باعتراف وبينة وثبوت ذلك لـه صلى الله عليه وسلم ثابت معروف، أما حكمه بالظاهر فواضح وأما حكمه بالباطن فنص عليه غير واحد من العلماء، ووردت أحاديث تشهد لـه بذلك قال القرطبي: أجمع العلماء عن بكرة أبيهم أنه لا يجوز لحاكم أن يقتل بعلمه إلا النبي صلى الله عليه وسلم وقال الحافظ ابن دحية اختصّ النبي صلى الله عليه وسلم بأن له قتل من اتهمه بالزنا من غير بينة ولا يجوز ذلك لغيره/. وقال الشيخ عبد الوهاب الشعراني في الطبقات: /اعلم يا أخي رحمك الله أن علم التصوف عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعلم بالكتاب والسنة فكل من عمل بهما انقدح له من ذلك علوم وآداب وأسرارٌ وحقائقُ تعجِز الألسن عنها نظيرُ ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام حين عملوا بما علموه من أحكامها، فالتصوف إنما هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة إذا خلا عمله من العلل وحظوظ النفس كما أن علم المعاني والبيان زبدة علم النحو فمن جعل علم التصوف علما مستقلا صدق ومن جعله من عين أحكام الشريعة صدق كما أن من جعل علم المعاني والبيان علما مستقلا فقد صدق ومن جعله من جملة علم النحو فقد صدق لكنه لا يُشرِف على ذهن أن علم التصوف تفرع من عين الشريعة إلا من تبحر في علم الشريعة حتى بلغ إلى الغاية. ثم إن العبد إذا دخل طريق القوم وتبحر فيها أعطاه الله هناك قوة الاستنباط نظيرَ الأحكام والظاهرة على حد سواء، فيستنبط في الطريق واجبات ومندوبات وآدابا ومحرمات وخلافُ الأول نظيرُ ما فعله المجتهدون وليس إيجاب مجتهد باجتهاده شيئا لم تصرح الشريعة بوجوبه كما صرح بذلك اليافعيُّ وغيرُه، وإيضاح ذلك أنهم كلهم عدول في الشرع اختارهم الله عز وجل لديه فمن دقق النظر علم أنه لا يخرج شيء من علوم أهل الله تعالى عن الشريعة وكيف تخرج علومهم عن الشريعة والشريعة هي وصلتهم إلى الله عز وجل في كل لحظة. ولكن أصل استغراب من لا له إلمام بأهل الطريق أن علم التصوف من عين الشريعة كونه لم يتبحر في علم الشريعة ولذلك قال الجنيد رحمه الله تعالى علمنا هذا مشيد بالكتاب والسنة... ردا على من توهم خروجه عنهما في ذلك الزمان أو غيره، وقد أجمع القوم على أنه لا يصلح للتصدر في طريق الله عز وجل إلا من تبحر في علم الشريعة وعلِم منطوقها ومفهومها وخاصها وعامها وناسخها ومنسوخها وتبحر في لغة العرب حتى عرف مجازاتها واستعاراتها وغير ذلك فكل صوفي فقيه ولا عكسَ، وبالجملة فما أنكر أحوال الصوفية إلا من جهل حالهم وقال القشيري لم يكن عصر في مدة الإسلام وفيه شيخ من هذه الطائفة إلا وأئمة ذلك الوقت من العلماء قد استسلموا لذلك الشيخ وتواضعوا لـه وتبركوا به ولولا مزيةٌ وخصوصية للقوم لكان الأمر بالعكس/.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية