إن العلوم كلها من حيث الأصل لدنية ولكن بعضها يتحصل بواسطة التعلم والأخذ عن العلماء والفقهاء وهذا النوع لا بد فيه من البحث مع الجد والمثابرة والاجتهاد وهو الذي يسمى العلم الرسمي الكسبي وهو أمداد اسم الحق الظاهر، ومناطه الدلائل والبراهين وتدخله الموازنة والتعيين لأنه نقلي وعقلي، وبعضها ينفتح في سر القلب المنوّر من غير سبب مألوف من خارج إلا سبب التقوى والإخلاص في العمل؛ إذ التقوى مدعاةٌ للعلم والمعرفة وفي ذلك يقول الإمام الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرنــي بــأن العلـم نــور
ونور الله لا يوتـي لعاصـي
وهذا الأخير لا ميزان لـه لأنه أمداد اسم الحق الباطن ولا يجب فيه التبليغ لأنه ليس من تكاليف الله وأحكامه الشرعية العامة ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بكل مغيب اطلع عليه بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات. وهذا العلم مداره الذوق والوجدان ولهذا يسمى العلم الوهبي لأنه مواهبُ وأسرارٌ وكشوفاتٌ وأذواقٌ ولا ينال بحيلة ولا اكتساب ولا يؤخذ من دفتر ولا كتاب وإنما يفيض من حضرة الكمال بمحض الفضل والنوال، ويورث عن أهله بالصحبة والمحبة والخدمة والصدق لأنه معاني قلبيةٌ وأسرار ملكوتية ونفحات وإمدادات ربانية قدسية تخص العارفين دون الغافلين كما أشار أحد العارفين:
قلوب العارفين لها عـــيون
تَرى ما لا يُرى للناظرينـا
وأجنحة تطير بغير ريــش
إلى ملكوت رب العالمينـا
ثم إن العلم اللدني نوعان: لدني رحماني ولدني شيطاني، والمحك هو الشرع فما وافقه كان لدنيا إلهيا وما خالفه كان لدنيا شيطانيا.
ونتيجة لذلك فعلم التصوف ليس علم التقليد ولا علم الكلام وإنما هو العلم الإلهي أو علم الحكمة الذي يغسل النفوس من وسخ الطبيعة الظلمانية، فالنفس إذا تربّت وعرفت الحكمة حنت واشتاقت إلى عالم الأرواح ومالت عن الشهوات الجسمانية، ثم إن هذا العلم أمره اختصاص إلهي حيث يبلغ العارف به من التقرب إلى الله بأداء المفترضات ونوافل العبادات درجة الشهود القلبي الذي يكشف عن النفس حجاب الوهم وظلمة الحس فتزول الأينية والغيرية ويشاهد الأشياء كلها أنوارا ملكوتية مشاهدة ذوقية يقينية عرفانية تمكينية ففي البخاري أن الخضر قال لموسى: "إن لي علما لا ينبغي أن تعلمه وإن لك علما لا ينبغي أن أعلمه" وهو معنى قول أنس ابن مالك لعثمان ابن عفان :"أوحي بعد النبي؟ فقال: لا، ولكن بصيرة وبرهان وفراسة صادقة"وفي الحديث: "إن يكن في أمتي محدثون فعمر" [أخرجه أحمد] والمحدث الملهم.
والحاصل أن العلم الكسبي وسيلته التعليم الإنساني ودلالة العلماء به على الأمر العام أمرا ونهيا. والعلم الوهبي وسيلته الكشف والإلهام ودلالة الحكماء العارفين به على التقرب إلى الله تعالى. أو قل: وسيلة الأول التعلم من خارج وهو التحصيل بالحواس، ووسيلة الثاني التعلم من داخل وهو الاشتغال بالفكر. ويشترط في هذا الأخير صقل مرآة القلب وصفاء النفس إذ من أشرقت بدايته أشرقت نهايته. أو قل: الأول دنيوي باعتبار أنه خطاب في عالم الخلق، والثاني: أخروي باعتبار أنه يُعنى بالوقوف مع الحق في العلوم والأعمال والمقامات والأحوال والأقوال والأفعال وسائر الحركات والسكنات والإرادات والخطرات إلى غير ذلك. ولهذا فالعالم يصف الطريق بالنعت والعارف ينعتها باليقين، العالم من أهل الفرق والعارف من أهل الجمع، العالم من أهل عالم الصورة والعارف من أهل عالم الخفي، العالم من أهل عالم الملك والعارف من أهل عالم الملكوت، العالم من أهل عالم الحس والعارف من أهل عالم المعنى، العالم من أهل عالم الكثافة والعارف من أهل عالم اللطافة، العالم يدلك على العمل والعارف يخرجك عن رؤية العمل، العالم يحملك حمل التكليف والعارف يروحك عن التكثيف بشهود التعريف، العالم يدلك على الأسباب والعارف يدلك على مسبب الأسباب، العالم يدلك على شهود الوسائط والعارف يدلك على محرك الوسائط، العالم يحذرك من الوقوف مع الأغيار والعارف ينذرك من الوقوف مع الأنوار، العالم يحذرك من الشرك الجلي والعارف يخلصك من الشرك الخفي، العالم يعرفك بأحكام الله والعارف يعرفك بذات الله، العالم يدلك على العمل لله والعارف يرشدك إلى العمل بالله، العالم يدلك على العمل خوفا وطمعا والعارف يدلك على العمل محبة وشكرا وهكذا دواليك، وكلاهما لا بد منه لأن العالم هو معلم الشريعة والعارف معرف الحقيقة.