آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الحال والوجد عند الصوفية


لكي لا يتشعب بنا الحديث عن الأحوال أكثر مما يقتضيه الاعتراض الافراطي، نعالج مواقف بعض أساليب أصحاب التفريط في نفس الموضوع رغم وجود قواسم مشتركة بين هؤلاء وأولئك في اعتراضاتهم على أحوال الذاكرين ومواجيدهم، ويتلخص اعتراض هؤلاء الأخيرين في الادعاء بأن بعض الأحوال الطارئة على الذاكرين الله تعالى ليست من السنة وأن السلف الصالح لم يحصل لديهم مثلها. ولهذا فإنها تدخل في حكم البدعة، وذلك بدعوى الالتزام بالسلفية والتقيد بظاهر النص وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته.

وهذه كما قلنا كلمات حق أريد بها تضييق مجالاته، غير أن الاعتراض على هذه التضييقات في هذه المرة سيكون بواسطة أبرز رواد هذا الأسلوب والذي سبق واعترضنا عليه في مواقفه من الذكر بالاسم المفرد.
فحينما نطالع فتاوى ابن تيمية حول موضوع الأحوال نجده أكثر موضوعية وانضباطا فتويا مما مضى، وقد أودع فتاواه الخاصة في كتاب علم السلوم وكتاب التصوف (ج10 و11).
فذهب في كتاب السلوك إلى تقسيم موضوعي يحدد من خلاله الذي يسلم له حاله والذي لا يسلم له حاله : فالذي يسلم له حاله يشترط أن لا يكون سببه بمحرم وأنه مغلوب عليه، وأما الذي لا يسلم إليه حاله فمثله أن يعرف منه أنه عاقل يتوله ليسقط عنه اللوم... أو يعرف منه أنه يتواجد ويتساكر في وجده ليظن به خيرا ويرفع عنه الملام فيما يقع من الأمور المنكرة، أو يعرف منه أن الحق قد تبين له وأنه متبع لهواه، أو يعرف منه تجويز الانحراف عن موجب الشريعة المحمدية وأنه قد يتفوه بما يخالفها...».
بل قد ذهب إلى الاعتراض على المعترضين ومحددا موقفه منهم في كتاب التصوف حيث يقول : « المنكرون -أي لأهل الأحوال- لهم مأخذان: منهم من ظن ذلك تكلفا وتصنعا. يذكر عن محمد بن سيرين أنه قال: ما بيننا وبين هؤلاء الذين يصعقون عند سماع القرآن إلا أن يقرأ على أحدهم وهو على حائط فإن خر فهو صادق.
ومنهم من أنكر ذلك لأنه رآه بدعة مخالفا لما عرف من هدي الصحابة كما نقل عن أسماء وابنها عبد الله.

والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه وإن كان حال الثابت أكمل منه ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا فقال: قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد فما رأيت أعقل منه، ونحو هذا وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة وبالجملة فهذا كثير ممن لايستراب في صدقه!!!».
وهذا النص تضمن اعتراضين في صورتين مختلفتين :أما الاعتراض الأول فإنه يسلم بوجود الحال لكنه يخضع هذا التسليم إلى التجربة وتحري الصدق فيه. وهذا يعني أن الحال واقع مشاهدكما عبر عنه ابن تيمية في آخر النص بقوله : « وبالجملة فهذا كثير ممن لايستراب في صدقه» أي أصبح متواترا. تواتر أخبار ومعاينة. ولهذا فالواقع لايمكن إقصاؤه إذا ثبت أنه غير متكلف، إذ كيف يمكن رفض العطاس رغم غلبته على العاطس، كما أنه لا يجوز رفض الحال لأنه غلب على صاحبه ولكن يمكن اختباره من حيث أنه صادق أو كاذب في حاله.

إذن فالمسألة تعالج من منظور أخلاقي وليس من حيث هي واقع ومشاهد. كما أنه ينظر إليه من حيث باعثه هل هو مشروع أم ليس بمشروع، فإذا كان الباعث مشروعا فالحال المترتب عنه ينبغي أن يكون مشروعا. لأنه إذا كانت الوسيلة مشروعة وهي ذكر الله تعالى والغاية مشروعة وهي إرادة وجه الله تعالى، فما بين الوسيلة والغاية لايكون إلا مشروعا. لأن الحسن إذا قابله الحسن أو الجميل لايكون إلا حسنا، والنتاج لايكون إلا بحسب أصله ووسيلة سقيه و« البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لايخرج إلا نكدا». فذكر الله إذن هو المصدر في الأحوال، والتكليف يهم النية والأعمال وليس الأحوال إذ الأحوال غير اختيارية وهي تكون وسطا بين النية والعمل.
ولهذا فالغاية تحدد الوسيلة لا أن الغاية تبرر الوسيلة في هذا الميدان. إذ الغاية في ذكر الله تعالى ليست كسائر الغايات وإنما لها خصوصيتها التوحيدية التي لايقبل سواها. فكانت الأحوال بهذا توصيلا بين الموظف للوسيلة وغايته، ودليلا على صحة الإيمان ورسوخه.
وأما الاعتراض الثاني فهو الذي يريد أصحابه أن يضيقوا خناق الأحوال والتحكم في المشاعر. وتقييد الانفعالات، وهذا إسقاط وتحجر لاتقبله سعة الإسلام بل طبيعة القلوب واستعداداتها وتحملاتها المختلفة. كما أن نقل هذا الإنكار عن أسماء وابنها غير محددة صحته أو ظروفه.
خروج الأحوال عن دائرة التكليف والتقليد: فالسلفية يمكن أن تنطبق على الأقوال والأفعال وعلى جنس الأحوال كتكاليف ومطالب لأنها قابلة للتقليد والتحديد، أما الأحوال النوعية الخاصة فإنها لاتقبل التقليد، إذ لو قبلت التقليد لكانت مصطنعة ومتكلفة وهذا يدخل في حكم الذي لايسلم له حاله كما يرى ابن تيمية.
نعم ! قد تتحد المشاعر والأذواق كما سبق وعبرنا مرارا لكن التفاعل مع هذه المشاعر ذاتيا هو الذي لايمكن ضبطه وحصره في صورة معينة مقننة كالاقتصار على التسليم بحال البكاء وحده مثلا.
وانفلات الأحوال عن دائرة الحصر السلفي أو التقييد الزماني والمكاني والجماعي بالامكان اعتبار أنه يدخل ضمن الأعراض وحدوثها وتجددها مع الزمن والمكان والحيز وما إلى ذلك، وكذلك من حيث دلالتها على حدوث الجواهر. كما تدل الأحوال على إيمان القلوب، إذ أن الأعراض تتفاوت وتختلف مظاهرها بحسب تعلقها بالأجرام صغرا وكبرا، سرعة وبطء، حركة وسكونا... إلى غير ذلك. ورغم أن الأجسام تتحد كلها في صفة الحدوث، إلا أن الأعراض الدالة عليه تختلف من جرم أو جسم لآخر.

وبحسب هذا القياس يمكن القول بأن أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بالضرورة أن تكون على نفس مستوى أحوال أصحابه وأحوال صحابته ليس بالضرورة أن تكون على نفس المستوى فيما بينهم وأنفسهم أو فيما بينهم وبين التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وذلك لتفاوت استعدادات القلوب وقوة إيمانها زيادة ونقصانا، بل قد يقع التفاوت بين استعداد القلب الواحد من حيث قوة تفاعله أو ضعفه مع الواردات ومعانيها وصياغتها بالأحوال أو المواجيد. إذ رب شخص قرأ آية قرآنية فبكى واعتبر وخشع قلبه في فترة ما لكنه قد قرأ نفس الآية في فترة أخرى فلا يجد ذلك الشعور ولا يحدث لديه خشوع بحال وهذا ملاحظ ومجرب عند الممارسين لتلاوة القرآن الكريم والمواظبين عليها.

ولهذا فليس من السلفية أو الأصولية بمكان أن ندعي إمكانية تقليد أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم تقليدا كليا سواء الباطنية أو الظاهرة لأنه إذا ادعينا ذلك فنكون قد قارنا بين مستوانا الإيماني وبين مستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي بين فرع وهو نحن المسلمين وبين أصل وهو النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشتان مابين الأصل والفرع من التفاوت بل لا وجود للفرع إلا بوجود الأصل، بحيث لا مجال للمقارنة هنا، لأنها ستوقعنا في خطأ تقديري وخلل روحي من أبرز مظاهره غياب التسليم المعرفي و التذبذب في الاعتراف بالتفوق الروحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكإلزام بالخلف أو اقتضاء المخالفة يمكن عكس الاعتراض على أصحاب الادعاء في الزامهم أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وإلزامهم كل الأحوال الواردة في القرآن الكريم من بينها اقشعرار الجلد، وصعق موسى، والخر للأذقان بالبكاء. والتي يلاحظ أنهم لايجدون منها لا ظاهرا ولا باطنا إلا ما نذر أو شذو الشاذ لايقاس عليه وخاصة في عصرنا الذي أصبح الحال فيه منكرا بعد ما كان معرفا. ودليلا على قوة الإيمان وصدقه. ولهذا التفاوت الذي يطبع حالة الحال أو الوجد قسناه بالأعراض وتغيراتها مع الزمان والمكان والاستعداد والتحملات. لأنها مثال مناسب للدلالة على أنها لا تخضع للتقنين العيني كما أنها تستند في إثبات جنسها على أصول شرعية تفيد إمكانية ورودها على شتى الهيئات والحركات بحسب استعداد الذاكرين الله تعالى وبحسب استمداداتهم الروحية. وهذا ما لخصه ابن تيمية بصورة موضوعية بقوله : « فهذه الأحوال التي يقترن بها الغشي أو الموت أو الجنون أو السكر أو الفناء حتى لايشعر بنفسه ونحو ذلك، إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقا عاجزا عن دفعها كان محمودا على ما فعله من الخير وما ناله من الإيمان معذورا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره. وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقص إيمانهم وقسوة قلوبهم ونحو ذلك من الأسباب التي تتضمن ترك ما يحبه الله أو فعل مايكرهه الله، ولكن من لم يزل عقله مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله أو أكمل منه فهو أفضل منهم وهذه حال الصحابة رضي الله عنهم وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه أسرى به إلى السماء وأراه الله ما أراه وأصبح كبائت لم يتغير عليه حاله، فحاله أفضل من حال موسى صلى الله عليه وسلم. الذي خر صعقا لما تجلى ربه للجبل وحال موسى حال جليلة علية فاضلة . لكن حال (سيدنا) محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأعلى وأفضل» فالحال إذن من ثمرة الذكر وهو دليل على كمال الإيمان وقوته. وإذا كان الأمر كذلك فالذكر يبقى معيارا قطعيا للقوة الإيمانية. وميزانا استدلاليا يرتكز عليه علم التوحيد في حججه وبراهينه.


محمد بنيعيش

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية