قال صاحب منازل السائرين وهو على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: شوق العابد إلى الجنة ليأمن الخائف ويفرح الحزين ويظفر الآمل.
والدرجة الثانية: شوق إلى الله سبحانه وتعالى زرعه الحب الذي ينبت على حافات المنن تعلق قلبه بصفاته المقدسية واشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات بره وعلامة فضله وهذا شوق تغشاه المبار وتخالجه المسار ويقارنه الاصطبار.
فالأول : حظ المشتاق من إفضاله وإنعام.
والثاني : حظه من لقائه ورؤيته.
والثالث : قد فنيت فيه الحظوظ واضمحلت فيه الأقسام.
قوله في الدرجة الأولى : ليأمن الخائف ويفرح الحزين ويظفر الآمل هذه ثلاثة فوائد ذكرها في هذا الشوق أمن الخائف وفرح الحزين والظفر بالأمل فهذه المقاصد لما كانت حاصلة بدخول الجنة كانت مصورة للنفس أشد الشوق إلى حصول هذه المطالب وهي الفوز والفرح وجماع ذلك أمران أحدهما النجاة من كل مكروه والثاني الظفر بكل محبوب فهذان هما المشوقان إلى الجنة .
وقوله في الثانية : شوق إلى الله سبحانه وتعالى زرعه الحب قد تقدم أن الشوق ثمرة الحب وقوله الذي ينبت على حافات المنن أي انشأه الفكر في منن الله وأياديه وأنعامه المتواترة وفيه إشارة إلى أن هذا الحب الذي هو نابت على الحافات والجوانب بعده حب أكمل منه وهو الحب الناشىء من شهود كمال الأسماء والصفات وذلك ليس من نبات الحافت ولكن من الحب الأول يدخل في هذا كما تقدم ولهذا قال تعلق قلبه بصفاته المقدسة وقوله واشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات بره وعلامة فضله يشير به غلى ما يكرم الله به عبده من أنواع كراماته التي يستدل بها على أنه مقبول عند ربه ملاحظ بعنايته وأنه قد استخدمه وكتبه في ديوان أوليائه وخواصه ولا ريب أن العبد متى شاهد تلك العلامات والآيات قوي قلبه وفرح بفضل ربه وعلم أنه أهل فطاب له السير ودام اشتياقه وزالت عنه العلل وما لم ينعم عليه بشيء من ذلك لم يزل كئيبا حزينا خائفا أن يكون ممن لا يصلح لذلك الجناب ولم يصل لتلك المنزلة وقوله وهذا شوق تغشاه المبار هي جمع مبرة وهي البر أي أن هذا الشوق مشحون بالبر مغشي به وهو إما بر القلب وهو كثرة خيره فهذا القلب أكثر القلوب خيرا فيفعل البر تقربا إلى من هو مشتاق إليه فهو يجيش بأنواع البر وهذه من فوائد المحبة أن قلب صاحبها ينبع منه عيون الخير وتنفجر منه ينابيع البر يريد به أن مبار الله ونعمه تغشاه على الدوام وقوله وتخالجه المسار يخالطه السرور في غضون أشواقه فإنها أشواق لا وحشة معها ولا ألم بل هي محشوة بالمسرات وقوله ويقارنه الاصطبار أي صحابه له قوة على اصطباره على مرضاة حبيبه لشوقه إليه وإنما يضعف الصبر لضعف المحبة والمحب من أصبر الخلق كما قيل:
نفس المحب على الآلام صابرة
لعل مسقمها يوما يداويها
وقوله في الدرجة الثالثة : إنها نار أضرمها صفو المحبة يعني أن هذا الشوق يتوقد من خالص المحبة التي لا تشوبها علة فهو أشد أنواع الشوق ولهذا نغصت العيش أي كدرته ونغصت المشتاق فيه لأنه لا يصل إلى محبوبه ما دام فيه فهو يترقب مفارقته وقوله وسلبت السلو يعني أن صاحبه لم يبق له مطمع في سلوه أبدا وهذا أعظم ما يكون من الحب والشوق أن المحب آيس من السلو وانتقطع طمعه منه كما أيس من الأمور الممتنعة كرجوع أيام الشباب عليه وعوده طفلا ونحو ذلك وقوله ولم ينهنهها مقر دون اللقاء أي أن هذه النار لا يبردها ولا يفتر حرها مقصود ولا مطلب ولا مراد دون لقاء محبوبه فليس لا سبيل إلى تبريدها وتسكينها إلا بلقاء محبوبه.طريق الهجرتين - ابن قيم الجوزية