آخر الأخبار

جاري التحميل ...

  1. الشلام عليكم و الرحمة تشملكم، يبدو أنكم لم تستكملوا بقية الكتاب أرجو أن يحصل ذلك جزاكم الله خيرا

    ردحذف
    الردود
    1. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
      شكرا على التنبيه. سيتم نشر الكتاب كاملا إن شاء الله.

      حذف
  2. جزاكم الله خيرا😃✋

    ردحذف

القولُ المعروفُ في الرَّدِّ على مَنْ أَنكَرَ التَّصَوُّفَ

هذا وإني كنت عثرت على رسالة نمقتموها بقلمكم تسمى (المرآة لإظهار الضلالات) فتناولتها بيد الاعتبار لنتصفحها بفؤاد الاستبصار، متشكراً لله على بقاء الأقوياء في الدين الذين لا تأخذهم في الله لومة اللائمين، غير أني كنت مستثقلاً اسم الرسالة حيث كانت معنونة بعنوان الضلالة، ولم ندر أن مسماها أثقل، وبمجرد ما اطلعت منها على الأقل عرضني فيها ما ألزمني الفشل وأورثني الكلل، فتأسفت بقدر ما استبشرت، وبما أصابني كدت أن أقول: لا يحل النظر للمرآة مطلقاً سواء أكانت لإظهار الضلالة أو لإظهار الصورة، لما اشتملت عليه مرآتكم من العض وتمزيق العِرض، فهي تكاد تميز من الغيظ، ترمي بشرر كالقصر نحو الذاكرين، وتَحطُمُ بالجهر ألحم المؤمنين، وكنت كلما نزهت الكاتب عن مكتوبه إلا ولسان الواقع يقول: إن القلم لا يجيء إلا بصورة صاحبه، والإناء لا ينضح إلا بما فيه.

سبب التأليف

وبمناسبة ما اشتملت عليه مرآتكم من الزور وارتكبتموه فيها من الفجور، فطعنتم في أعراض أهل نسبة الله بكل لسان، وذكرتموهم بكل زور وبهتان، فحركتني الغيرة الإلهية والحمية الإسلامية على أن نكاتبكم احتراماً للمنتسبين حيث شوهتموهم، وانتصاراً للذاكرين حيث خذلتموهم، عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (من أُذل عنده مؤمنٌ فلم ينصره وهو قادر على أن ينصره أذله الله على رؤوس الأشهاد يوم القيامة ) وقال أيضاً: ( من ردّ عن عِرض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة ( وعن أبي الدرداء رضي الله عنه) : ( من رد عن عرض أخيه كان له حجاباً من النار يوم القيامة ) وهذا في الرد عن عرض أي مؤمن كان، وأما الرد عن أعراض الذاكرين فقد يتولاه الله بنفسه قال أصدق القائلين: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } .


فمن بارزهم فقد بارز الله، والمنتصر لهم منتصر لله، ولازال أهل الفضل في دفاع عن نسبة الله في كل زمان، لأن القوم رضوان الله عليهم لن يزالوا بين منتقد ومعتقد {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } لا بد من ودود يمدح وحسود يقدح، ولكن كل من القدح والانتقاد يتصوران في أفراد ممن نقص في الدين أو زاد، بحيث تجاهر بما يتضمن الفساد فيما يظهر للمنتقد، وقد يكون على خلاف ما اعتقد، وأما الانتقاد على أهل نسبة الله عموماً والتجاهر برد مذهبهم ـ كما فعلته أنت أيها الشيخ ـ حيث استدليت عليه بأنه بطالة وجهالة وضلالة، فقد تظاهرت بشيء لم يتظاهر به غيرك من علماء الدين، إلا إذا كان من أحد الفرق المخالفين ممن يجحد وجود الخصوصية حيث لم توجد فيهم، وأما أهل السنة فلا ينتقدون، إن وقع منهم إلا على أفراد ممن لم تتضح خصوصيته، وأما بنظرهم لمذهب التصوف فكلٌ يحترمه ويجل رتبته، وأقوالهم في ذلك أعدل شاهد والتي غصت بها الدفاتر وبالجملة إن قلوب أهل السنة جبلت على حب التصوف وأهله، وتجد كل من سعى في تنقيص مذهبهم يسقط من عيون الخصوص والعموم، وليس ذلك إلا دلالة على سقوطه من عين الله والعياذ بالله، ولهذا يقال: "كل من تعرض للذاكرين على جهة البغي والعناد ابتلاه الله بالمقت بين العباد".

التحذير من التعرض للأولياء

وها أنا أستطرد لك ما ربما يردعك ـ إن شاء الله ـ نصيحة في ذات الله { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } قال في الحديث: ( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ). قلت ولا شك أن من تعرض لمحاربة الله قلَّت سلامته، وقال عليه الصلاة والسلام: (غابتان مسمومتان لا يسلم من طعنهما أهل بيتي وأولياء أمتي ) وأقوال العلماء في ذلك أكثر من أن تحصر منها ما ذكره أبو المواهب التونسي عن شيخه أبي عثمان رضي الله عنهما أنه كان يقول في الدرس على رؤوس الأشهاد: " لعنة الله على من أنكر على هذه الطائفة ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل لعنة الله عليه" 

وكان اللقاني رضي الله عنه يقول: " يخشى على من تكلم فيهم يعني الصوفية سوء الخاتمة وجزاؤه العذاب الشديد والسجن المديد {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وهكذا تجد كل إمام متورع يخشى القول في عوام المسلمين فضلاً عن المنتسبين.

وحتى لو قلنا لو لم يصح عندك من أحوال الصوفية إلا كونهم مسلمين لوجب عليك احترامهم وحرمت عليك أعراضهم فتكف حينئذ عن التتبع لعوراتهم حذراً مما حذرك منه الشارع.
روى ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أشاد على مسلم كلمة يشينه بها بغير حق شانه الله بها في النار يوم القيامة ) وهذا فيمن أشاد على عورة مسلم واحد وأي حكم يلحق من تتبع عورات عامة المسلمين وخاصتهم ليشينهم بها فيما بينهم أو عند الأجانب إن أمكن
هم الإطلاع على ذلك ، كما فعلته أنت أيها الشيخ حيث تتبعت النقير والقطمير وتوسعت في النكير تحدث نفسك أنك السني الواحد في الوجود والكل دونك إما مبتدع جهول أو مخالف مخذول فهذا حكمك في أبناء ملتك ولم ندر ما حكم الله فيك.
ولو تتبعت عورات نفسك لوجدت فيها ما يغنيك عن تتبع عورات الغير ولكن مثلك يجري عليه قوله صلى الله عليه وسلم حيث قال : (يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه ) أما أنت فنسيت جذوعاً كثيرة سيأتيك نبؤها بعد حين ولعله كلما أطلعناكم على جذع منها أزلتموه مهما أمكنكم.

وما إزالته إلا مجرد اعتراف ولكن الاعتراف نتيجة الإنصاف فإن كنت منصفاً فكتابي حجة لك وإلا فهو حجة عليك. وعلى كل حال مهما تناولته فكن ذا بصر حديد وعقل سديد وفؤاد من التعصب بعيد فإني ما كاتبتك به إلا وأنا أرجو الله أن ينقذك مما أنت فيه بسببه أو ينقذ من هو على شاكلتكم أو من سرت فيه من إشارتكم بسبب نظره في مرآتكم المكسوفة أو مجالسكم المأسوفة. وها أنا أذكر لكم من الجذوع المنسية في أعينكم، لولا أن أظهرها الله بسبب مرآتكم.
قلتم في صدر ما جمعتموه من الطعن في أعراض المسلمين: "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله".
وإني لم أدر هل أردتم بذكركم هاته الآية الكريمة مجرد التبرك بها؟ أم أشرتم لما هداكم الله إليه من الطعن في أعراض الذاكرين ونحوهم، فاعتقدتم أن ذلك من الهداية، فإن كان بالمعنى الأول فحسن، وإن كان بالمعنى الثاني فإنه لم يظهر وجه الهداية بالتعرض لأهل الله بالغيبة ونحوها، إلا إذا كانت الهداية من قبيل قوله عز وجل { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } وما هو من هذا القبيل.

إنكم سميتم ما جمعتموه بالمرآة لإظهار الضلالات،قلت: إنكم أصبتم في الاسم وأصبتم في مسماه، أما إصابتكم في الاسم فإنها أظهرت مرآتكم ما كان كامناً فيكم، ولولاها من يعلم بضلالاتكم، فكتاب المرء عنوان عقله، وما فيه يظهر على فيه، وبعد هذا بقليل استطرتم جملة من النصوص، قلتم في ترجمتها: (المقدمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ثم ذكرتم ما جعلتموه ذريعة لتتوصلوا به إلى الطعن في أعراض المؤمنين بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن ذلك لا يغني عنكم من الله شيئا، إنما الغيبة غيبة على كل حال، وحتى لو قلنا: إنكم لم تقصدوا إلا إصلاحاً فيكون ذلك دليلاً على عدم تفريقكم بين المعروف والمنكر وهو عذر لكنه غير مقبول لمن تصدى للأمر والنهي، وعلى كلا التقديرين فالتهمة لا تنفك عنكم:
فإن كنت تدري فتلك مصيبة *** وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

فإن كنت على غير بصيرة بين المعروف والمنكر فكيف تقوم تأمر بهذا وتنكر عن هذا، وكان من حقك أن تتصور معنى الشيء ثم تحكم عليه، لأن الحكم فرع التصور، وإن حكمت فلا تحكم عليه إلا بحكم الله، ولا تأمر فيه إلا بأمر الله، ولا تنه عنه إلا بنهي الله، وتتورع أن تقول في دين الله برأيك، أو تنكر عن شيء بطبعك. 

قال تعالى : {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }وأين أنت من هذا حتى قمت تحرم هذا وتنكر هذا، وتضلل فرقة وتبدع أخرى بدون ما تخشى الله في خلقه، وتراقب محمداً في أمته، وترى أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بدون ما ترى أفيك أهلية لذلك أم لا، قال عليه الصلاة والسلام : (لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر بع فقيه فيما ينهى عنه ) .

أما كونه رفيقاً فيما يأمر به يريد ـ والله أعلم ـ أن لا يأمر إلا برفق، ولا ينهى إلا بمثله، وهذا خلاف الأسلوب الذي ارتكبته أيها الشيخ في مرآتك، وكان من حقك أن لا تقدم على شيء حتى تعلم حكم الله فيه، وتدخل البيت من بابه، ألم تعلم أن شاباً جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال بأرفع صوته (أتأذن لي في الزنا يا رسول الله؟ فصاح الناس به، فقال رسول الله: أقروه أقروه وأمره أن يدنو منه ثم قال له برفق: أتحب أن يُفعَل ذلك بأهلك؟ قال: لا، وأخذ يذكر له في قرابته من نسائه كأمه وأخته وزوجته وهو يقول: لا أحب، فقال عليه الصلاة والسلام: فكذلك الناس لا يحبونه أن يُفعلَ ذلك بأهلهم، ثم وضع يده الكريمة على صدره فقال: اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك شيء أبغض إليه من الزنا ) ومثل هذا من الوقائع جاء في سيرته وفي سيرة أتباعه بكثرة، ومن ذلك حكاية البدوي المشهورة الذي بال في طرف المسجد، فقام الصحابة ليستفزوه بعنف فوضع عليه صلى الله عليه وسلم رداءه وأمره أن لا يستعجل بعد ما كف أيدي الصحابة عنه، فلما قضى البدوي حاجته قال: اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حصرت واسعة يا أعرابي ) وأين مثلك ومثلي من هاته الأخلاق؟ فالرفق مهما دخل شيئاً إلا وزانه، والعنف مهما دخل شيئاً إلا وشانه، وهذا بعض ما يتعلق بالرفق في الأمر والنهي.
وأما كونه حليماً فيما يأمر به حليماً فيما ينهى عنه فهو وصف مهما وجد في الأمر يثير نفعاً في المأمور غالباً، لأنه يستلزم الحرص على هداية المأمور وإليه الإشارة في التنزيل {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } ومن الدلالة على الحلم مهما وجد في صاحبه أن لا ينتصر لنفسه إن رُدّ قوله أو لحقه من الأذى بسبب الأمر والنهي، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام لما كُسرت رباعيته قال: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) وحتى لو قلنا أنك لم تبلغ إلى أقل درجات من الحلم فحقك أن تتحلّم لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ) ألم يبلغك أن عيسى عليه السلام فيما أخبر عنه التنزيل أنه قال في حق قومه من بعده: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فانظر ما أطيبه من حديث! وما ألطفه من فؤاد المحدَّث به! مع ما ارتكبه قومه من بعده من الشرك، فإنه لم يقل ما قلته أنت في أمة محمد من أنهم شر الخلق والخليقة ـ حسبما يأتي في كلامك ـ لأجل ذنب ارتكبوه في زعمك وهو احترامهم لصلحائهم، وكل ذلك من قساوة قلبك وقلة شفقتك على المؤمنين.
روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من لم يرحم الناس لم يرحمه الله ) وهذا بعض ما يخص الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من كونه حليماً فيما يأمر به حليماً فيما ينهى عنه.
وأما كونه فقيهاً فيما يأمر به فقيهاً فيما ينهى عنه فهو أساس المسألة ودعامة وسطها، فعليه تدور دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن عدم الفقه في دين الله في الغالب يحمل صاحبه على العكس في المسألة، فلربما يأمر بمنكر أو ينهى عن معروف، وهو من سوء التصرف الفظيع في دين الله بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسبما اشتملت عليه مرآتك أيها الشيخ، فقد أنكرتم من المعروف أعلاه، فلا فتنة أعظم وأضر من فتنتكم على المسلمين فعلى الأقل إذا لم يتضرر القارئ بالنظر في مرآتكم يقع التباس من دينه وشك من أمره، حيث يجد ما كان في ظنه يدين الله به معصية يستحق العقاب من أجله، وأي رزية أعظم من هاته الرزية للمتدين ؟! إنا لله وإنا إليه راجعون،أو ليس قد تقرر لدى الفكر العام بالتواتر أن مجلساً من المجالس المعدة للذكر يمحو عدة مجالس من مجالس السوء وهذا ممن أطبقت عليه عقائد الأمة خصوصاً وعموماً، فقمت أيها الشيخ تبرهن في مرآتكم على أن المجالس المعدة للذكر على اختلافها بين طبقات الذاكرين بدعة ضالة على خلاف ما كان عليه السلف بدون ما تذكر وجه مجالس الذكر المندوب لها شرعاً ومن المعلوم أن يقع من يعتني بكلامك في حيرة، وكل ذلك أصابك ولعله من عدم الفقه في دين الله، ولهذا اشترط عليه الصلاة والسلام في حق الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون فقيهاً فيما يأمر به فقيهاً فيما ينهى عنه، لئلا يأمر بمنكر أو ينهى عن معروف كما تقدم.

ثم أقول: ينبغي لمن تصدر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يتصور أولاً معنى المعروف ومعنى المنكر، ويحققهما بالحد الواضح والشرع الصريح لئلا يقع في مهواة الانعكاس، ومن أجل ذلك تورع أكابر العلماء من القول في دين الله بغير نص صريح وما هو كالصريح .
نعم يجتهد المجتهد لنفسه فيما لا نص فيه بدون ما يُلزِم غيره أن يذهب مذهبه، إنما يحكي رأيه فيه لا غير، ولهذا تعددت الطرق في الفروع، والحمد لله على اتحادها في الأصول وكل ذلك من اليسر في دين الله، كما قال عليه الصلاة والسلام (خير الدين أيسره وخير العبادة الفقه ) ومن لا فقه له يمتنع عليه القول في دين الله.
ذكر ابن عبد البر عن عطاء رضي الله عنهما أنه قال: "لا ينبغي لأحد أن يفتيَ الناس حتى يكون عالماً باختلاف الناس، وإن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي هو في يديه" .
ثم إن جميع ما ذكرناه من التحري هو فيما اشتبه أمره وأما ما عُلم تحريمه أو إيجابه من الدين بالضرورة فهو فقهٌ، ويتعين الأمر بالمعروف فيه والنهي عن المنكر على كل مسلمٍ عالمٍ بحلّية ذلك الشيء أو تحريمه وإن لم ينته ويأتمر في نفسه.
إنما المحترَز منه ما مشيت عليه أنت أيها الشيخ، فقمت تحرم وتحل بظنك وحدسك وتقول بطبعك وشهوتك، فظننت أن المعروف ما عرفته أنت، والمنكر ما أنكرته أنت، وهذا بعيد منك ومن أمثالك.
إنما أمره موكول لله ورسوله والراسخين في العلم، والذي هو حق عليك أن تنكر ما علمت إنكاره من الدين بالضرورة، وتأمر بما تحققت معروفيته من الدين بالضرورة، وترتكب العزائم فيما بين ذلك لنفسك وتفوض الأمر لله فيما وراء ذلك، وتحسن الظن فيما تفرع عن اجتهاد المجتهدين من أئمة الدين من الصوفية وغيرهم.
أوَ ليس في علمك أنه قد يوجد في المشتبه ما ثبتت حرمته في مذهب وإباحته في آخر؟ أو ندبه في مذهب وكراهيته في آخر؟ وهذا نحوه لا يحتاج لكثرة بيان وأي شيء يراه المنصف ؟ فهل يتسنى له أن يُلزمَ أحدَ المجتهدين بالدخول تحت قول الآخر؟ إلا إذا كان ممن بلغ به التعصب الأعمى مثلما بلغ بك، فقمت إلى مذهب أعظم سوادٍ على وجه البسيطة تلزمه الدخول تحت رأيك الكاسد ظناً، والذي أحقه أن يقال لك ولأمثالك: إن أقل صوفي يوجد إلا وهو أشح على دينه منك.
الجذع الثالث: 
وأما ما استدليتم بقوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } فأقول: إنه لا نزاع فيما استجلبتموه من النصوص على كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يتعين القيام به على كل واحد يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر، إنما النزاع في المنكر حيث حملتموه على غير محمله، حسبما يقتضيه صنيعكم من إدخالكم حلق الذكر وما عليه المتصوفة تحت حيز المنكر الذي يجب تغييره، وفي ظني أن المنكر الذي أولى بالتغيير هو ما اعتقدتموه وأبديتموه في مرآتكم.
ثم أقول أن الخطاب في قوله تعالى {كنتم خير أمة} إما أن يكون راجعاً لعامة المؤمنين، وإما أن يكون راجعاً لخاصتهم، فإذا كان عائداً على عامتهم فيكون فيه دلالة على تخصيصهم بين الأمم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنها وظيفة الصديقين والأنبياء والمرسلين، ويكون أمرهم ونهيهم عائدين على من سواهم من الأمم، ويكون المنكر عبارة عن شرك وما في معناه، والمعروف عبارة عن التوحيد وما والاه، وإذا كان الخطاب عائداً على خاصتهم فيكون الأمر والنهي فيما بينهم، ويكون المنكر عبارة عن كل خُلُق مذموم، وعكسه المعروف.
ثم إننا إذا حملنا الضمير على المعنى الآخر لا يتعين صرفه عن الوجه المطابق لما في نفس الأمر إلا لهداة الخلق الداعين للحق بالحق، الذين قال فيهم عليه الصلاة والسلام (لن تخلو الأرض من أربعين رجلا مثل خليل الرّحمن، فيهم تُسقَون وبهم تُرزقون، ما مات منهم أحد إلا أبدل الله مكانه الآخر ) وهكذا ما من نبي إلا وعلى قلبه طبقة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهاته الكتائب التي لا يخلو منها عصر ولا يُفقَدُ منها مِصر هي الّتي يتعلّق بها الخطاب على الوجه الأحق، لأنهم أُهّلوا لذلك وفطروا في الأزل على ما هنالك، فصفة الأمر
 بالمعرف والنهي عن المنكر موجودة فيهم بالطبع لا بالتطبع، وقد توجد في غيرهم إلا أنها عَرَضٌ تغيرها العوارض، وفي ظني أن الطبقة المشار إليها لا توجد غالباً إلا في حيز الذاكرين المستهترين بذكر الله حسبما جاء في الحديث الآتي ذكره، ولا يوجد المستهتر بذكر الله أو المولع بذكر الله ـ على ما في بعض الروايات ـ أو المشتهر بذكر الله ـ على ما في أخرى ـ إلا في حيز المتصوفة التي قلت أنت بتبديعهم، وأما من سواهم فلا يبلغ في ذكر الله مبلغهم كائناً من كان، إلاّ إذا كان محباً لهم أو من أسلافهم أو من أهل سلسلتهم وهذا بقطع النّظر عن القرون الثلاثة المشهود لهم.
ولكن هذا يتضح عند من يعرف معنى التصوّف، ومن هم المتصوفة، وأما من يعتقد أنهم عبارة عن اجتماع غوغاء من أرذال النّاس فلا يهتدي لما ذكرناه، لأنه يقيس ما عرفه منهم على مالا يعرفه بجامع وهو الاسم، فيظن أن مسماهما واحد، فشتان بين ما عرفته وبين ما لم تعرفه، فو الله يا أخي لوا أطلعك الله على معنى التصوّف وما هي مباديه وغايته لاكتفيت من الله بالتطفل على أهله .
الجذع الرابع: 
وأما ما استدليتم به من قوله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } فأقول:إنكم أخذتم الشّق الآخر من الآية وأهملتم ما اشتمل عليه الشق الأول منها، مع أنه عمدة فيما بعده وهو يتعين من ولاية المؤمنين لبعضهم بعضا، وما يترتب على ذلك من حرمة أموالهم وأعراضهم ودمائهم فيما بينهم، وقبل هذا ينبغي أن نعرف معنى الإيمان الذي يوجب لنا الأخوة والولاية والتعاضد فيما بيننا،
فأقول: إنه سهل والله أعلم حسبما قرّره لنا الشّارع، وذلك أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فمن تحققت فيه هذه الخصلة وجبت موالاته وحرمت عداوته، وهي موجودة ـ والله أعلم ـ في سائر أفراد الأمة، وأن مع تعدد مذاهبهم واختلاف طرائقهم في الفرعيات فذلك غير مضر مهما سلمت الأصول، وعلى هذا ينبغي لمن أهّله الله للكلام أن لا يبسط لسانه إلا بما يقضي بالمحافظة على الروابط الإسلامية والأخوة الدّينية، ولا يجرح عقائد أهل القبلة، ولا يقبح معتقداتهم ولا يحكم ببطالتهم، لئلا يكون ذلك ذريعة للانشقاق والتنافر فيما بين المسلمين وعدم الوفاق، ألم يبلغك يا شيخ ما وصلت إليه الأمة فيما سبق من الارتباك؟ فكلّ ذلك سببه إغالة المتعصبين من أتباع المذاهب، فكلّ يشوه غيره ويحكم عليه بما أعتقده، والحالة أن الجميع مؤمن، إلا أنه بلغ التّعصب المذهبي بهم إلى انحلال رابطة الأخوة الدّينية المتحدة في الشهادتين، وإقام الصّلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان وقراءة القرآن وغير ذلك ممّا هو من أهم الخصال الإسلامية.
والاشتغال بما سلف لا طائل تحته من الخير، فبالله عليك يا شيخ كيف قمت تسعى في تحريك الفتن الخامدة؟ فعمدت إلى هدم أعظم ركن في الإسلام، وأعظم قاعدة اعتمد عليها المسلمون وتربت قلوبهم عليها ـ أي على محبة أهل نسبة الله ـ فهم الآن يعتبرونهم ويعظمونهم بالجبليّة محسنين الظن في التصوف وأهله فقلت أنت: أن مذهب التصوف بطالة وجهالة وضلالة إلى آخر ما حملت عليه، فكسرت والله قلوباً يتعذر عليك جبرها إلا بتوبة نصوحا واعتذار لأربابها ، وكان من حقك أن لا تقدم على تنقيص المذهب حتى تعلم من هو واضعه ، وما هي مبادئه العشرة التي اشترطتم معرفتها في كل فن،ثم قل ما بدا لك أن تقول، وظني فيكم أن بضاعتكم في العلم قليلة، أو قريحتكم في الفهم كليلة، أو هما معا، وإن كان كذلك فمن المعلوم لا تجد ما يرشدكم لفن التصوف فيما بين أيديكم من المتون نحو الزنجاني وابن أجروم وعلى فرض ما ذكرناه من اقتصاركم على ما اختصر من المتون، لا يفوتكم المرشد المعين في العبادات والجوهر المكنون في البلاغة وهما ممن اعتنى بفن التصوف، الأول ذكره بالاستقلال، والثّاني نوّه به على سبيل الاستطراد تنبيهاً منه للطلبة ـ جزاه الله خيراً ـ ولست أدري هل رفضتها برفضك مذهب التصوف من أصله؟ أم جعلتهما في حيز الإهمال؟ وعلى كل حال فإنك غاليت في الجحود وإلاّ فشهرة مذهب أهل التّصوف تغني عن إقامة الشّهود، وعلى كل حال فإني أوصيك إن طالت بك الحياة، وأردت أن تجمع شيئاً من المسائل العلمية أو من النصائح الدّينية، فلا تأتي إلاّ بداعي الاتحاد بين أفراد الأمة المحمديّة، أي بما يؤكد بينهم الروابط الدّينية والأخوة الإسلامية، قاطع النّظر عمّا تشعب من الفروع {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ }فبالله عليك إلاّ ما أمعنت النّظر فيمن نزلت، ولأي سبب أنزلت، فيا ما أحسنه من تأليف، ولكن أين الثّرى من الثّريا؟
ولعلك تقول: نزلت في أهل الكتاب كما هو صريح الآية فأقول: وعلى الأقل من حقّك أن تنزّل الصّوفية منزّلة أهل الكتاب، لا تصدقهم ولا تكذبهم، وهذا أقل درجات الإنصاف، ولكن أين المنصفون ؟
وأما استدلالكم بما قاله الغزالي رضي الله عنه، فالاستدلال بكلامه غير لائق على ما تقتضيه قواعدكم، لأنه صوفي وأنت لا تقول بمذهب التصوف، وأما استدلالكم بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مؤمناً بالقرآن إلى آخـره ) وهل تظن أنه عليه الصّلاة والسّلام يريد بنفي الإيمان مطلقاً؟ كلا وإلا لهلكت الأمة، وإنما يريد به نفي الإيمان الكامل التي هي درجة الصّديقية، كما يشهد لذلك عدّة أحاديث منها (لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه )
وأما الإيمان العمومي فقد تقدّم ذكره من أنّه سهولة محض، وحديث السّوداء المشهور ممّا يزُيده سهولة، ثبت أنّ بعض الصّحابة رضوان الله عليهم أعتق رقبه مؤمنة، فجاء بجارية سوداء إلى النبي ليمتحن إيمانها فقال لها عليه الصلاة والسلام: من ربّك ؟ فأشارت في السّماء فقال:مؤمنة فاعتقها والذي يشهد لهذا من أنّه فرض كفاية، ولكنّك بنيت بما قدّمته من الأحاديث التي تفيد الإطلاق، إذا كان الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فرض كفاية، وإن كان كذلك فما وجه تعيينه عليك دون من سواك؟
وأنا أقول لكم: ليس الشأن في جميع النصوص إن رمت الكتابة، إنما الشأن أن تضع النصوص مواضعها، وهي من أنواع الحكمة التي قال فيها تعالى:{ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً }.

وأما استدلالكم بقوله عليه الصلاة والسلام: ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ) الخ الحديث يجري فيه من جهة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما تقدم، وأما ما يتعلق بما ذكرته من الحديث فأقول: يدخل في قوله: (من لم يرحم صغيرنا) عوام الأمة لأنهم صغار وإن كانوا كباراً في السن، ويدخل في الكبار خواصها وإن كانوا صغاراً في السن، لأن الإنسان يعتبر بنفسه لا ببدنه، وعلى هذا يكون لكم مساساً من الحديث أنكم ما ترحمتم بالصغار الذين هم عوام المسلمين، بأن خاطبتموهم باللين والملاطفة، وترحمتم عليهم ترحم الأب الكبير على الابن الصغير، بل خاطبتموهم بعنف وحملتم عليهم بكل ما عندكم، وما وقرتم الكبار أيضاً الذين هم ينابيع الحكمة ودعائم دين هذه الأمة، وقلتم ببطالتهم وجهالتهم واتخذتموهم أعداء بما نقلتموه من حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تقربوا إلى الله ببغض أهل المعاصي) الخ فطبقته عليهم فيا لله العجب! كيف تسنى لك أن تطلق هذه النقول على من اجتمع على ذكر الله وما في معناه؟!

وبالجملة أن جميع ما استطردتموه من الدلائل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا نزاع فيه، إنما النزاع في معنى المنكر ما هو؟
حتى لا ننكر حقاً أو ما هو بالحق أشبه منه بالباطل، ولئن تخطئ في تصويبات ما عليه إخوانك في الدين خير لك من أن تصيب في تخطيئاتهم،
ألم تعلم أن أعراض المسلمين معصومة كأموالهم ودمائهم بمجرد النطق بالشهادتين ؟ ثم أنكم استطردتم قول ابن أبي زيد القيرواني رضي الله عنه في رسالته وهو قوله (ومن الفرائض؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على من بسطت يده في الأرض وعلى كل من تصل يده إلى ذلك فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه) فأقول: هذا معنى حديث، ولعله لم يصلكم ونصه: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) وهذا من حسن أسلوب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
الجذع الخامس:
وأما نقلكم عن ابن عرفة من أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، ليس فيه شيء مما يزيد في عزيمتك لجمع هذه الرسالة، فيا ليتك اقتصرت على ما ذكرته من الأحاديث السالفة من جميع ما تقدم؛ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين على كل من تميز لديه المنكر من المعروف، والحلال بيِّن والحرام بينِّ، وعند الشبهة يتعين الوقوف، غير أن كيفية التغيير تختلف باختلاف الأشخاص والأماكن قدرة وعجزا، فمن كانت له القدرة على تغيير المنكر كولاة الأمور فهو واجب عليه بالفعل، ولا مندوحة له في تركه مع القدرة كما تقدم، ومن لم يصل لهذه الرتبة من علماء المسلمين، ففرضه أن يغيره بلسانه، ومن لم يستطع لعارض فليغيره بقلبه، وذلك أضعف الإيمان كما تقدم في الحديث.
الجذع السادس:
وبعد ذلك استطردتم جملة ركيكة الألفاظ قلتم فيها: " فمن الواجب أيضاً اتباع الحق والسنة المحمدية، واقتفاء آثار السلف الصالح رضي الله عنهم، فإن من عادتهم أن من اتبع السنة أحبوه واعتقدوه وعظموه، ومن كان على غير ذلك تركوه وأهملوه ومقتوه، حتى كان من يريد الرفعة عندهم من الذين لا خير فيهم يظهر لهم الاتباع حتى يعتقدوه على ذلك" .
أما قولكم: "فمن الواجب أيضا اتباع الحق" أقول: إنه من أوجب الواجبات، لكن عند من عرف الحق واتضح لديه، أما من كان في لبس، يتخبطه الشيطان من المس، فمن أين له أن يعرف الحق؟ وحتى إذا عرفه يعرفه بالرجال، وهذا لا يتمكن له اتباع الحق إلا إذا فتح الله بصيرته، وطهر سريرته من سوء الظن بالصالحين ، قال الإمام علي كرم الله وجهه: ( لا تكن ممن يعرف الحق بالرجال ولكن اعرف الحق تعرف أهله )ثم أنكم ذكرتم من أوصاف السلف الصالح؛ أنهم يحبون من يتبع السنة، وأي مؤمن يؤمن بالله ورسوله لا يحب أهل السنة؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول( ألا لا إيمان لمن لا محبة له ) ألم تعلم أن الصوفية التي قلت ببطالتهم وجهالتهم وضلالتهم، جعلوا المحبة أساساً لطريقتهم؟ ولكن لعلك تعني بأهل السنة من كان على شاكلتكم لا عموم المسلمين والله أعلم
الجذع السابع:
ثم إنكم ذكرتم من أعمال السلف؛ أن من كان على غير السنة تركوه وأهملوه ومقتوه إلى آخر كلام واهي التركيب، وإلى الآن لم يظهر ما أردتم بمن هو مخالف للسنة، لولا أنك أتيت بأبلغ تشبيه فيمن تقع عليه النصوص السابقة واللاحقة فقلتم: "كمتصوفة أهل زماننا" .
وإني أقول: "الآن استهل الجنين من بطن الشيخ صارخا " فعلمنا حينئذ ما هو المنكر الذي نوهت بـه، وما هو السبب الذي وضعت الرسالة من أجله، فكانت عندك نسبة القوم من أعظم المناكر وما ذكرته بعدها ونبهت عليه من الموبقات إنما هو على سبيل الاستطراد، لأن الأهم له الصدارة في كل شيء، إلا أن يقال: قدّم صاحب الرسالة ذكر المتصوفة لأجل التبرك بهم وما أظن.
وحاصل الأمر؛ أن ما أشرت إليه من المناكر، ونوهت به من البدع حصره التشبيه في قولك: كمتصوفة أهل زماننا، فلم يبق حينئذ منكر خارج على ما عليه المتصوفة حتى نتوقاه، وكل هذا لم يستفزنا حيث قيدت المتصوفة بأهل زماننا لو لم تستطرد ما ذكره الطرطوشي؛ من أن مذهب التصوف عموماً بطالة وجهالة وضلالة، ويا ليتها لم تبلغك مقالة الطرطوشي لتبقى نقي الفؤاد من الطعن فيمن مضى من أهل الإرشاد، والله يحكم بينك وبين من عاصرك من العباد.
الجذع الثامن:
ثم إنك قلت:"إن الغالب من حال أهل هذه الزمان الذين انغمسوا في خابية أهل البدع، النفورمن الذي ينهاهم عن بدعهم وعوائدهم الذميمة التي لم تصادف قولاً بالجوازولو خارج مذاهب الأئمة المقتدى بهم".
قلت: لعل المراد من قولكم: "الذين انغمسوا في خابية أهل البدع هم طوائف الفقراء" وإن كان كذلك فما أجسرك من فقيه! وما أحسنك من نبيه! فقد يظن المتهور أن من الشجاعة قلة الحياء، ولم يعلم أن الحياء من الإيمان، والذي أدهى وأمر من هذا هو؛ قولك في بدعتهم: إنك لم تصادف لها قولاً بالجواز ولو خارج المذاهب المقتدى بهم، فقد فحصت وأوجزت بارك الله فيك ، فقل لي بالله عليك: ما هو أسلوب التذكير فانقاد لهم بسبب ذلك الكبير والصغير، والجليل والحقير، كلامهم مقبول في الأسماع، لأن وعظهم بارز من القلوب لا من الكتب، والكلام إذا برز من القلب وقع فيه، فلهذا أثرت في القلوب موعظتُهم، وسرت في المريدين إشارتهم، وقد فهموا من الآية الكريمة أن الناس جاءت على أزواج ثلاث؛ والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (أنزلوا الناس منازلهم ).
فالقسم الأول من الأقسام لا ينقاد للمذكر إلا بالحكمة، وهم الخاصة من عباد الله، والقسم الثاني: تفيده الموعظة الحسنة الواقعة بين ترغيب وترهيب برفق وملاطفة، القسم الثالث: أهل المجادلة، وهو الذي أتعب المرشدين رسولاً وولياً فأباح الله تعالى للرسول فتح باب المجادلة معه، إلا أنه قيدها بالتي هي أحسن، وهكذا الأحسن فالأحسن، ولهذا كان السيف هو آخر درجات التبليغ، ومن تخلف عن هذه الخطة المشروعة للتذكير ففي الغالب يكون أمره مردوداً عليه، وكل ذلك يستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام(من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف ) أي برفق ولين ليكون أدعى للقلوب والله أعلم.
الجذع التاسع:

إنكار مشروعية الاجتماع للذكر

ثم إنكم بعد ما فرغتم من مقدمة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر توجهتم لتغيير ما اعتقدتموه منكراً وهو؛ ما عليه الصوفية من الاجتماع على الذكر، والصلاة على النبي وتلاوة القرآن قلتم:

(فصل) سئل البصري عن اجتماع جماعة من أهل السنة والجماعة يقرءون القرآن في بيت أحد، ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعون لأنفسهم ولجماعة المسلمين، فنهى عن ذلك أشهد النهي، لأنه لم يكن من عمل السلف الصالح، فليس من الدين، فقد كانوا أحرص الناس على الخير من هؤلاء، فلو كان فيه خير لفعلوه.

قلت: فإذا كان هذا الذي ضاق به صدرك من أحوال القوم حتى أنك لم تجد له قولاً بالجواز، حيث أنهم يجتمعون في بيت أحدهم يقرءون القرآن، ويصلون على النبي، ويدعون لأنفسهم ولجماعة المسلمين، فظهر لك أنه معصية مخالف لما كان عليه السلف، فأنا أقول: اللهم اجعل معاصينا و معاصي أصدقائنا، بل ومعاصي عموم المسلمين من هذا القبيل إن كان الاجتماع على وجه ما ذكرتم، وإن كان فيه زلة لم تتضح، فالله يعصمنا وإياكم من الزلل.
ثم أقول: إن هذا النقل إن صح عن الحسن رضي الله عنه فلا يفيدنا عموم النهي عن الاجتماع بصفة ما ذكر، وإن كان الحسن مجتهداً فلا يبعد أن يكون مجتهدٌ غيره في عصره، إن لم نقل في تلك الجماعة نفسها، لأن العصر عصر التابعين، وثانياً: إن هذه الواقعة تصلح أن تكون حجة للصوفية لا عليهم، حيث أنكم قررتم أن الاجتماع وقع بتلك الصفة في عصر التابعين، لأن المتعين علينا الاهتداء بهداهم، وهل تظن أن هاتة الطائفة الميمونة وضعت دعائمها على غير أساس متين ؟ أولم تعلم أن الحسن البصري الذي نقلت عنه هو أستاذ هاته الطائفة ـ كما هو مشهور في سلسلة القوم ـ لقنه الإمام علي كرم الله وجهه، وهو لقن داوداً الطائي وحبيباً العجمي وغيرهما، إلى أن وصلت إلى الجنيد ، ومن طريق آخر أن الإمام علياً كرم الله وجهه لقن ابنه الحسن رضي الله عنهما، وهو لقن أبا محمد جابر ، وهو لقن السيد سعيداً القزويني إلى أن وصلت إلينا والحمد الله. 
ولعلكم تجهلون أصل التلقين في الشرع ـ حسبما يظهر ـ وإلا لما أنكرتم التصوف وأهله، ولهذا لزمني أن أستطرد لك جملة؛ إما أن تكون لك حجة أو عليك حجة.
ذكر الإمام الشعراني في كتابه النفحات القدوسية في بيان قواعد الصوفية ما نصه: قال الأشياخ:"والسر في التلقين؛ ارتباط قلوب المريدين بأشياخهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى جبريل عليه السلام إلى الله تبارك وتعالى في المحبة والانقياد، ولذلك كان الإنسان إن لم يقل لا إله إلا الله امتثالاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل: لا إله إلا الله لا يحكم بإسلامه ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به" ثم قال: " أول ما يحصل للمريد إذا دخل سلسلة القوم بالتلقين يكون إذا دهمه أمر وتشوش منه قلبه واضطرب، جاوبته أرواح الأولياء من شيخه الأدنى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حضرة الله عز وجل فيزول كربه وهمه، ومن لم يدخل في طريق القوم بالتلقين فلا تجيبه روح أحد من أهل الطريق لعدم ارتباطه بهم، فحكم ذلك كسلسلة الحديد إذا حركت منها حلقة جاوبتها بقية الحلقات " .
وإذا علمت ذلك فأقول وبالله التوفيق: روى الطبراني والإمام احـمد والبزار وغيرهم بإسناد حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوماً بجمع من الصحابة فقال: هل فيكم غريب ـ يعني من أهل الكتاب ـ قالوا: لا يا رسول الله، فأمر بغلق الباب وقال: ارفعوا أيديكم وقولوا: لا إله إلا الله، قال شداد بن أوس: فرفعنا أيدينا ساعة وقلنا: لا إله إلا الله، ثم قال رسول الله: (اللهم إنك بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها ووعدتني عليها الجنة وإنك لا تخلف الميعاد، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا فابشروا بأن الله تعالى قد غفر لكم ) ففي الحديث دلالة للأشياخ في تلقينهم الذكر للمريدين جماعة .
وأما تلقينهم فرادي فخرج الشيخان والحافظ جلال الدين السيوطي من طرق متعددة حسنة أحاديثهم عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه وكرم الله وجهه قال:" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله دلني على أقرب الطرق الموصلة إلى الله عز وجل وأسهلها على العباد وأفضلها عند الله تعالى فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي عليك بمداومة ذكر الله سراً وجهرا فقال رضي الله عنه: كل الناس ذاكرون وإنما أريد أن تخصني بشيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا علي أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع وضعن كفة، ولا إله إلا الله في كفة لرجحت لا إله إلا الله ثم قال: يا علي لا تقوم الساعة على وجه الأرض من يقول الله الله، فقال علي: كيف أذكر يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غمض عينيك واسمع مني لا إله إلا الله ثلاث مرات ثم قل أنت ثلاث مرات وأنا أسمع (أهـ الحديث بمعناه في البعض) فهذا أصل صلة القوم، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغلق الباب في تلقينه أصحابه جماعة كما تقدم وقال: هل فيكم غريب لدينه؟ على أن طريق القوم مبنية على الستر وصفاء الوقت من حضور من ليس منهم ولا يؤمن بطريقتهم، فلربما احتقر ما هم عليه لقصوره .
قال يوسف الكوزاني[ العجمي ] أن علياً كرم الله وجهه لقن الحسن البصري وهو لقن داود الطائي ومنه الإمام الجنيد شيخ الطائفة، وعنه تفرع وانتشر التصوف في أصحابه وهلمَّ جرّا، ولا ينقطع حتى ينقطع الدين اهـ بحروفه من النصرة النبوية .
وفي روح البيان عند قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } قال صاحبه:من هنا تتخذ السنة المبايعة وتلقين المشائخ للمريدين، ومثل هذا لا يحتاج إلى بيان عند أربابه، إنما المتوقف على مثله قليل الإطلاع
ثم قل لي يشهدك الله هل لك سند بالخصوص في لا إله إلا الله حسبما دلت عليه الأحاديث السابقة ، وما أظن .
ولنرجع إلى الكلام على الإجتماع أن كان حسبما ذكر أعلاه فأقول: بالله عليك أي ضرر يلحق الدين إذا اجتمعت شرذمة من المسلمين في بيت من بيوت الله، أو في أي بيت من بيوت المؤمنين على تلاوة القرآن وما هو من هذا القبيل ، فإن كان استبعادك لمجرد ما نقلته من أن رجلاً ذهب إلى الحسن البصري فأخبره بذلك الاجتماع فنهى عنه أشد النهي حسبما ذكرت، فهو دليل لا تقام الحجة به على صحته، لأنه معارض للأثر الصحيح والحديث الصريح، وحتى لو قلنا أنه لا نص في مشروعية الاجتماع على ذكر الله وما والاه، لا يجوز الاعتراض على ذلك خصوصاً لما قد صح عندك من أنه كان في عصر التابعين، وصدر فعله من أئمة الدين الذين اجتمع غالب الأمة على عدالتهم ومكانتهم في الدين وفي ظني أنه لا يتجاسر غيرك من علماء المسلمين أن يقول: لا خير في الاجتماع على ذكر الله، ولو لم يكن فيه أقل نص يؤذن بالجواز، فكيف والآثار مشحونة بالترغيب فيه والأمة مطبقة على ندبه، ويا لله العجب ! كيف بلغك ما ورد عن الحسن البصري رضي الله عنه في النهي عن الاجتماع لأجل الذكر، وأنه شدد النكير على ذلك، ولم يبلغك ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن لله ملائكة سيارة فضلاء يلتمسون حلق الذكر في الأرض فإن أتوا على مجلس حف بعضهم بعضا بأجنحتهم إلى السماء فيقول الله عز وجل من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويهللونك ويسألونك ويستجيرونك فيقول : وما يسألون؟ وهو أعلم بهم، فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا يا رب فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقول: وممَّ يستجيرونني؟ وهو أعلم بهم فيقولون: من النار فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا فيقول: كيف لو رأوها؟ ثم يقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، وأعطيتهم ما يسألون،ي وأجرتهم ممَّ استجاروا، فيقولون: ربنا إن فيهم عبداً خطاءً جلس إليهم فيقول: قد غفرت له أيضاً هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) فانظر بارك الله فيك هذه الجماعة التي أخبرت بها الملائكةُ ربَّ العالمين، أليست هي نظيرة الجماعة التي أخبر بها الرجلُ الحسنَ البصري إن لم نقل هي نفسها ؟ وقلتم: إنه شدد النكير، فما بالُ اللهِ سبحانه وتعالى يوسع على الذاكرين ويَعِدُهم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وأنتم قابلتموهم بالنقمة نظير ما قابلهم الله به من رحمة، فما بالك تركت ما أفتى به الحق سبحانه وتعالى في أهل مجالس الذكر على لسان رسوله؟ وتحوجت لما وراء ذلك فأخذت تقابل الشيء بنقيضه، أو ليس هذا منك تحريفاً في شرع الله ؟

فهيهات أن تنجح مقاصدك فيما حاولته، لأن الأحاديث الصحيحة جاءت في مدح مجالس الذكر أفواجا، فبحر السنة يتدفق بها أمواجا، لنورد لك منها نبذة تكون ـ إن شاء الله ـ لدائك علاجا، أو لم يبلغك أنه كان صلى الله عليه وسلم يشتهي أن يحضر مجلساً من مجالس الذكر يستبدله بالدنيا وما فيها، روى البيهقي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لئن أذكر الله تعالى مع قوم بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، أحب إليَّ من الدنيا وما فيها، ولئن أذكر الله مع قوم بعد صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس، أحب إلي من الدنيا وما فيها ) ومثله ما رواه أبو داود عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله علية وسلم قال : ( لئن أقعد مع قوم يذكرون من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أعتق أربعة من ولد إسماعيل ولئن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل ) وقال أيضاً: (إن لله تعالى ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء ويقول الحق تبارك وتعالى: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك من الملائكة: يا رب فيهم فلان الخطاء، وإنما مرّ فجلس معهم قال: فيقول الله تبارك وتعالى: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) وقال معاوية رضي الله عنه: فقال: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : " مَا أَجْلَسَكُمْ ؟ قَالُوا : جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلإِسْلامِ ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِكَ ، قَالَ : آللَّهُ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلا ذَلِكَ ؟ قَالُوا : وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلا ذَلِكَ ، قَالَ : أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلائِكَةَ) وقال أيضاً عليه الصلاة و السلام: ( يقول الله عز وجل يوم القيامة: سيعلم أهل الجمع من أهل الكرم، فقيل: ومن أهل الكرم يا رسول الله؟ قال : أهل مجالس الذكر ) وقال أيضاً: ( ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله عز وجل لا يريدون بذلك إلا وجهه، إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا مغفوراً لكم، قد بُدِّلتْ سيئاتكم حسنات ) وقال أيضاَ: ( إن لله تبارك و تعالى سيارة الملائكة يطلبون حلق الذكر فإذا أتوا عليهم حفوا بهم ) و قال أيضاً: ( غنيمة مجالس الذكر الجنة ) و قال أيضاً :(إن لله سرايا من الملائكة تحل و تقف على مجالس الذكر في الأرض، فارتعوا في رياض الجنة، قالوا: أين رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر، فاغدوا وروحوا في ذكر الله، وذكّروه أنفسكم) إلى أخر الحديث ، و قال : ( ما من قوم يذكرون الله تعالى إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فمن عنده ) و أخرج الأصفهاني في الترغيب عن أبي رزين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له: (ألا أدلك على ملاك الأمر التي تصيب به خير الدنيا والآخرة؟ قال: بلى قال: عليك بمجالس أهل الذكر وإذا خلوت فحرك لسانك بذكر الله عز وجل ) وقال أيضاً: ( ما من قوم يقومون من مجالس لا يذكرون الله فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة يوم القيامة ) وقال أيضاً: ( مجالس الذكر تنزل عليهم السكينة و تحف بهم الملائكة وتغشاهم الرحمة ويذكرهم الله) ثم أقول: لعلكم قد كنتم في غفلة من هذا فقد يقول الحق لك:{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } فتأمل ما جاءك عن رسول الله إن كنت تزعم أنك من أمته، فحديث واحد يكفيك العمل به في مشروعية مجالس الذكر، والذي يزيدك يقيناً من أنها كانت على عهد النبي صلى الله عليه و سلم هو ما أخرجه الأمام أحمد في الزهد عن ثابت قال: (كان سلمان في عصابة يذكرون الله تعالى، فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم قاصداً، حتى دنا منهم فكفوا عن الحديث إعظاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:( إني رأيت الرحمة تنزل عيكم، فأحببت أن أشارككم فيها، ثم قال: الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم).

ومثل هذا ما تقدم من حديث معاوية رضي الله عنه من أنه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا قال: آللهِ ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا والله ما أجلسنا إلا ذلك قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة.أو لا يكفيك هذا في مشروعية مجالس الذكر في زمانه عليه الصلاة و السلام ؟ و مثله ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يأخذ بأصحابه في الذكر، حتى إذا ملّوا أخذ بهم في غيرة . نقله في النصرة النبوية ...

رفع الصوت بالذكر


ولكني لم أدر ما الذي ألمك من أمر الصوفية هل هو الاجتماع بانفراده ؟ أم الذكر بانفراده أم هما معاً ؟ ولعله رفع أصواتهم بالذكر، وبسببه أنه لم يبلغك ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول صلى الله عليه و سلم "كذلك أقول: أنه كان على عهد الخلفاء فقد روي: أن أناساً كانوا يذكرون الله عند غروب الشمس يرفعون أصواتهم، فإذا خفيت أرسل إليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن نوّهوا الذكر أي ارفعوا أصواتكم.

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر فقال أخر لو أن هذا خفض من صوته فقال عليه الصلاة السلام دعه فإنه أواه . و مثله ما أخرجه البيهقي عن زيد بن أسلم قال ابن الأدرع: انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فمر بي في المسجد على رجل يرفع صوته بالذكر فقال: يا رسول الله عسى أن يكون هذا مرائياً؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ( لا ولكنه أواه ) و الذي أبلغ من هذا في التصريح والكل صحيح هو ما أخرجه أبو شجاع الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :( من قال لا إله إلا الله ومد بها صوته أسكنه الله دار الجلال ورزقه النظر إلى وجهه ) أو ليس في هذا أبلغ حجة في مشروعية الجهر بالذكر ؟ وحتى لو قلنا أنك لم تجد له نصاً في الاجتماع عليه بصوت واحد، كان من حقك أن تقول فيه ما قالت الفقهاء في اجتماع المؤذنين على صوت واحد، وقالوا: إنه أسرع في اختراق جرم الهواء، وأمكن في قلوب المستمعين.

وبالجملة أنه لو لم يرد أقل نص على جواز الاجتماع للذكر والجهر به لا يصح الإنكار عليه، لأنه قال به أكابر المجتهدين، وكل مجتهد يسلَّم له في اجتهاده، فكيف والآثار مشحونة بذلك تصريحاً وتلويحاً، دلالة وإشارة حسبما تقدم ، وبالجملة أنه شاع ما عليه القوم من ذكر واجتماع وألفة ومحبة وغير ذلك من لوازم الطريق، حتى كادت أن تجتمع الأمة على صحته .
وإن أردت الاستطلاع على ذلك والتتبع لفتاوى الفقهاء الماهرين والأئمة العاملين في ذلك فانظر ما على هامش رائية الشَّرَيشي فقد جمع من فتاوى الفقهاء قديماً وحديثاً ما تعذر عليّ نقله، ولا تظن أن الموما إليهم هم من أطراف الفقهاء، أو هم ممن اشتهروا بالتصوف حتى تطرقهم التهمة، لأن المذهب عندك متهم، إنما هم من محققي مذهب الإمام مالك كالشبرخيتي وأضرابه، ومن محققي مذهب الإمام الشافعي كجلال الدين السيوطي و أصحابه، ومن محققي مذهب أبي حنيفة كالفيروز ابادي صاحب القاموس وأمثاله، ومن هذه الطبقة جماعة .
وفي الظن الغالب أنك تكتفي بنقل البعض فأقول: إن صاحب الفتوحات والأذواق نقل عن الشيخ عبد الغني النابلسي الحنفي أنه سئل عما اعتادته الصوفية من حلق الذكر، والجهر به في المساجد وغيرها فأجاب بعد كلام يشوه فيه حال المعترضين على الذاكرين ، ثم قال: وها أنا أنقل لك ما كتبه العلماء في كتبهم المعتمدة المقبولة المعروفة عند أهل الإسلام، وأنقل لك فتاواهم في المذاهب الأربعة، والله ولي التوفيق والإنعام : أما رفع الصوت؛ فقد صنف فيه الحافظ المحدث الكبير جلال الدين السيوطي من كبار الأئمة الشافعية رضي الله عنهم رسالة سماها "نتيجة الفكر في الجهر بالذكر " مبناها جواب عن سؤال رفع إليه فيما اعتاده بعض الصوفية من عقد حلق الذكر، والجهر به في المساجد، ورفع الصوت بالتهليل، وهل ذلك مكروه أم لا، فأجاب رضي الله عنه بأنه لا كراهة في شئ من ذلك، ووردت أحاديث تقتضي استجاب الجهر بالذكر، وأحاديث تقتضي الإسرار به، ويجمع بينهما أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، إلى أن استطرد أقوال بقية أهل المذاهب .اهـ .

أولياء الطريق الصوفي


ولا ينكر فكري أنكم تعترفون للسيوطي بأن له من الاطلاع في الفروع والأصول أكثر مما هو لكم، كما تعترفون للشبرخيتي من محققي السادة المالكية أيضا، وها أنقل لك ما نصه وما أفتى به، قال: " بعد الحمدلة والصلاة والسلام على رسول الله إن هؤلاء السادة ذكرهم مشهود مشهور، ويحضرهم فيه العلماء والفقهاء قرناً بعد قرن من قديم الزمان إلى الآن، فهم على حال محمود وطريق بالخير معهود، فمن آذاهم فهو مستحق لما في الحديث القدسي من الوعيد ( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) ومن لم يكن منهم ولياً فهو في حمى الأولياء، لحبه لهم ومشيه على طريقهم، اهـ من بعض ما نقله عنه صاحب النصرة النبوية.

وأما ما نقله عن الفيروز آبادي المتقدم ذكره أنه قال: لا يجوز لأحد أن ينكر على القوم ببادي الرأي، لعلو مراتبهم في الفهم والكشف، ولم يبلغنا عن أحد أمر بشيءٍ يهدم الدين، ولا نهى أحداً عن الوضوء، ولا عن الصلاة ولا عن غيرهما من فروض الإسلام ومستحباته، إنما يتكلمون بكلام يدق عن الأفهام، وكان يقول: قد بلغ القوم في المقامات ودرجات العلوم إلى المقامات المجهولة، والعلوم المجهولة التي لم يصرَّح بها في كتابٍ ولا سنة، ولكنّ أكابر العلماء العاملين قد يردّون ذلك إلى الكتاب والسنة بطريق دقيق، لحسن استنباطهم، وحسن ظنهم بالصالحين، ولكن ما كل أحد يتربص إذا سمع كلاماً لا يُفهم، بل يبادر إلى الإنكار على صاحبه وخلق الإنسان عجولا قال: وناهيك بأبي العباس بن سريج في العلم والفهم، تنكر مرة ثم حضر مجلس أبي القاسم الجنيد ليسمع منه شياً مما يشاع عن الصوفية، فلما انصرف قالوا له: ما وجدت؟ فقال: لا أدري ما يقول، ولكن أجد لكلامه صولة في القلب ظاهراً تدل على عمل في الباطن وإخلاص في الضمير، وليس كلامه كلام مبطل اهـ من النصرة النبوية.

ثم أقول لكم: يا أخي ما هكذا بلغنا عن أسلافكم من علماء تونس ونواحيها، إنما المشتهر عنهم احترام مذهب التصوف وتعظيم أهله، وقد وصلت إليهم فتوى في عصر شيخ الإسلام محمد بيرم في مسالة ما عليه القوم فأجاب عن ذلك بجواب طويل منه أنه قال: إن هذا الطريق له سند يتصل بصاحب الشرع صلى الله عليه وسلم، فهذا لاشك أنه من أصول قواعد ديننا المتين، وقد نص العلماء في دواوين علم الحديث وعلم أصول الفقه: أن السند من خصائص هذه الأمة الشريفة المباركة، والأصل فيه هو ما قدمناه، إلى أن قال: إن هذا الطريق يُجهر فيه بالذكر فهذا سائغ، فقد نقل في الدر المختار عن الفتاوي الخيرية ما نصه : جاء في الحديث ما اقتضى طلب الجهر بنحو (وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خيرٍ منه ) .
ثم قال: نقل الحموي عن الإمام الشعراني ما نصه : أجمع العلماء سلفاً وخلفاً على استحباب ذكر الجماعة في المساجد وغيرها إلا أن يشوش جهرهم على نائم أو مصل أو قارئ الخ . فإنه قد ذكره صاحب النصرة بطوله.
فهذا ومثله الشائع عن علماء تونس في احترام المنتسبين إلى الله، إلا ما وقع من القاضي ابن البراء مع الإمام الشاذلي رضي الله عنه، والحكاية مشهورة، ولكن ابن البراء لم يعارض المذهب من أصله إنما عارض شخصاً معيناً بنفسه وقد وقع له من المقت ما يشهد التاريخ به، حفظنا الله والمسلمين من سوء الانتقاد على الإسلام والمسلمين.
ثم إنكم قلتم: إن مالكاً رضي الله عنه قال في قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فلما لم يكن يومئذ ديناً لم يكن اليوم دين، وإنما يُعبد الله بما شرع ، ثم وصلته بقولك: "وهذا الاجتماع لم يكن مشروعاً قط فلا يصح أن يعبد الله به" .
ومن كان مثلك لا يفرق بين النقل وكلام نفسه لا يوثق بعلمه . سئل الإمام احمد رضي الله عنه؛ عن ابن إسحاق إذا انفرد بحديث أتقبله ؟ فقال: لا والله إني رأيته يحدث عن جماعة، ولا يفصل كلام ذا من ذا .
وفي ظني أنك تريد أن توهم القارئ من أن جميع المقالة لمالك، أن ما عليه الصوفية في مذهبهم هو من قبيل دين جديد، وهذا منك في أقصى درجات التشنيع، وبتهمتك للصوفية تتعدى لتهمة سائر المذاهب، لأنك تعتبر الاجتهاد ديناً زائدا، وحاشا لله أن تجتمع الأمة المحمدية على استبدال دين الإسلام بغيره، ولو تنبهت إلا لمجرد استدلالك بقوله عليه الصلاة والسلام ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) الخ الحديث . لعلمت أن اجتهاد المجتهدين هو من السنة، لأنهم خلائف في الأرض، وقد انعقد الإجماع على أمانتهم وكان من حقك على الأقل أن تعتبر أن المؤسس لمذهب التصوف من أحد المجتهدين في الدين، لاجتهاده في مقام الإحسان فهو كالأشعري في مقام الإيمان ومالك ونحوه في مقام الإسلام والدين مجموع الثلاثة كما في الحديث المشهور وهذا إذا لم يتضح لك ما عليه القوم من الاجتماع هو مأخوذ من صريح الشرع، حسبما دلت عليه الأحاديث التي تفيد الترغيب في مجالس الذكر. البدعة وأحكامها.
وحتى لو قلنا: أن ما عليه القوم أنه بدعة، ألا يصلح أن يكون من البدع المستحسنة، المسماة بالسنة المأخوذة من قوله عليه الصلاة والسلام: ( من سن سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها إلى يوم الدين ) فتأمل كيف سمى البدعة سنة، ألم يبلغك أن الاجتماع على قيام رمضان في المساجد هو مما ابتدعه عمر فكان سنة متبعة وقال فيها رضي الله عنه: فنعمت البدعة، ومثل هذا لا يحتاج إلى بيان مع أنه داخل العبادات.
وأما مذهب التصوف إنما هو يدخل في العبادات من جهة ارتكاب العزائم لا من جهة النقص والزيادة، ومعظمة متعلق بتصفية الباطن وتحسين الأخلاق، والاشتغال بالذكر والحضور مع المذكور، وما هو مقرر بمحله، وهل ترى ذلك هو مناقض للدين أم هو عمدة فيه؟
ثم إنك أخذت في تزييف البدع، وفي ظني أنك لا تميز بين البدعة المستحسنة المعروفة بالسنة كما تقدم في قوله عليه السلام ( من سن سنة حسنة ) وبيَّن ما هي، بخلاف ذلك، ولهذا يخشى عليك أن تزيف كثيراً مما أنت تعامل به ربك الآن من حيث لا تشعر.
ألم تعلم أن البدعة قد تجري فيها الأحكام الخمسة؛ من الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرام، وقد بالغ في تقرير ذلك عز الدين بن عبد السلام ومثَّل للواجب منها فقال " هو ما يتوصل به إلى واجب كعلم النحو" ألم تعلم أنه بدعة؟ ومثله ما بأيديكم من الفنون؛ كالبلاغة والمنطق والعروض وعلم التجريح والتعديل والمصطلح، إن لم أقل الدرس والتدريس، بل كتابة العلم نفسها من البدع، وإن كانت كذلك فما تقول في هذه المحدثات ؟ أهي من البدع الضالة التي هي في النار؟ أم من المستحسنة المأجورة عليها؟ وإن كنت تقول بالآخر فلِمَ تجعل مجالس الذكر من ذلك القبيل؟ وهذا بقطع النظر عما دلت عليه الدلائل والنصوص الصريحة التي لا تحتاج للتأويل، ولكن عدم الإنصاف يقطع لسان الاعتراف، وقلة العلم تمنع صاحبها من الفهم، لأن العلماء رضي الله عنهم قد عرَّفوا معنى البدعة التي تعين اجتنابها، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: "أن البدعة ما خالفت كتاباً أو سنةً أو إجماعاً أو أثراً، وما لم يخالف شيئاً من ذلك فهي المحمودة" والمخالفة لما ذكر إما تصريحاً أو التزاماً قد تنتهي إلى ما يوجب التحريم تارة، والكراهة أخرى، على ما رواه ابن حجر الهيتمي.
وفي ظني أنك تسلِّم أن الاجتهاد من خصائص هذه الأمة، وتعلم أن أركان الدين ثلاثة؛ الإسلام والإيمان والإحسان، فلِمَ تسلِّمُ اجتهاد الأئمة الأربعة ونحوهم في مقام الإسلام، وتسلِّمُ اجتهاد الأشعري والماتريدي في الاعتقاد الذي هو مقام الإيمان، ولا تسلِّمْ اجتهاد الجنيد وعصابته في مقام الإحسان، وهل لا تعتبر الإحسان ركنا؟
لا والله ما هكذا ظني فيكم أن تغفلوا ما هو الأهم، وما استطردناه في معنى البدعة يحتاج إليه فيما لا نص فيه حتى ينظر فيه أهو من البدعة الضالة؟ أم هو من البدع المستحسنة؟ وأما ما عليه القوم من الاجتماع هو من الشرع في أقصى درجات الوضوح، إلا عند من لم يتبع الآثار، أو أعماه وجود التعصب عن أن يقع بصره على ما في الكتاب والسنة لما يرشده ذلك.
وقد تقدم لك بعض الآثار من الترغيب في حلق الذكر والاجتماع عليه، وإني على يقين من أنكم على خبرة من ذلك، وما ذكرته إلا جرياً على ما اعتادته البلغاء من تنزيلهم العالِم أحياناً منزلة من لا يعلم، كقول الأخضري :
كقولنا لعالم ذي غفلةٍ الذكر مفتاح باب الحضرة وإذا تقر لديك ما تقدم من الترغيب في مجالس الذكر فقل لي بالله عليك أين يوجد هذا الاجتماع المرغب فيه؟ هل هو في غير البسيطة؟ أم هو في غير أمة محمد؟ أم هو يُسمع ولا يُرى؟ وفي ظني أنك احتقرت المنتسبين المجتمعين على الذكر، وإلا حسدتهم فيما هم عليه.

أخص أوصاف الصوفية


ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصفهم لك بأنهم أخلاط من قبائل شتى يجتمعون لأجل ذكر الله لا غير، قال عليه الصلاة والسلام: (عن يمين الرحمن ـ وكلتا يديه يمين ـ رجال ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغشى بياضُ وجوهِهِم نظرَ الناظرين، يغبطهم النبيون والشهداء بمقعدهم وقربهم من الله عز وجل، قيل: يا رسول الله من هم؟؟ قال: هم جُمَّاع من نوازع القبائل يجتمعون على ذكر الله، فينتقون أطايب الكلام كما ينتقي آكل التمر أطايبه " أليس هذا ـ يرحمك الله ـ من أخص أوصاف الصوفية؟ أليس في علمك أنهم يجتمعون من قبائل شتى لا لأرحام يتواصلونها، ولا لأموال يقترفونها، أليس هم المتحابون الذين يقول فيهم سبحانه وتعالى يوم القيامة ويناديهم: أين المتحابون فيّ ، فما هذه الداهية التي أصابتك فعمدت تقطع وصلةً أمر الله بوصلها واحترامها، ألم تعلم أن معية الله هي عبارة عن حب الذكر والذاكرين؟ ألم تعلم أن الله يغار على أهل نسبته ولو كانوا كاذبين؟ أنشدك الله وبحرمة رسول الله إلا ما رجعت عن بغض أهل لا إله إلاالله، وتركتهم وشأنهم يحكم الله فيهم يوم القيامة، فإني أخشى عليك أن تكون لا إله إلا الله خصيمتك يوم القيامة، { ويحذركم الله نفسه} .

قال ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه في وصيته "وإياك ومعاداة أهل لا إله إلا الله، فإن لها من الله الولاية العظمى، فهم أولياء الله وإن أخطأوا وجاءوا بقراب الأرض خطايا لا يشركون به شيئاً قابلهم الله بمثلها مغفرة " .

ويشهد لهم ما رواه حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا صياماً ولا حجاً ولا زكاة، يقولون: أدركنا آباءنا يقولون: لا إله إلا الله،فقيل لحذيفة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟؟!! فقال: تنجيهم من النار، تنجيهم من النار" 
فإن كان هذا فكيف يكون حال من يصلي ويصوم ويحج ويزكي.. فهل تصح عداوته؟ فبحقهم عليك إلا ما رجعت عن بغض المنتسبين إلى الله وتحببت إليهم، ولتذعن بكل قلب ولسان قائلاً: عفا الله عما سلف، وأي معصية أشنع من تطبيقك ما ورد في أهل الزيغ والضلالة على جماعة الصوفية. 
ولم يكفك ذلك حتى جعلتهم فرقة من فرق أهل النار، مستدلاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا فرقة واحدة؛ وهي ما أنا عليه وأصحابي) وهذا صريح في أنك تعني أن فرقة أهل التصوف واحدة من تلك الفرق، وإني أحكمك لله ولرسوله ولصالح المؤمنين فيما بينك وبين الصوفية.
ثم أقول لك إذا جعلت مذهب أهل التصوف فرقة من تلك الفرق يتعذَّر عليك تمام البضع والسبعين فرقة، إلا إذا أتممتها بنفسك وبمن هو على شاكلتك لأنك حصرت الفرق في أهل السنة والجماعة، وهلاّ نقلت حديثاً نقله الإمام الغزالي في كتابه المسمى "فيصل التفرقة..." وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ( ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، كلهم في الجنة إلا الزنادقة) ( 1) ولكن هذا لا يقع عليه بصرك، وإنما يقع على ما يساعدك في الحكم على سائر أفراد المسلمين بالنار، حتى تخلو لك الجنة أنت ومن هو على شاكلتك لا غير(قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) وفي الغالب تتشوف لوجه التطبيق بين الحديثين، وهذا ونحوه لا تجد من يرفع عنك معضلته إلا صوفي، ومحال أن تتنزل له لأن الحسد يسد باب الإنصاف، ويقطع لسان الاعتراف .
وعلى كل حال نذكر ما فتح الله به، وإن كنت لا حاجة لك فيه، فإن لكل ساقط لاقطا، فأقول: إن وجه التطبيق بين الحديثين سهل، وليس هو إلا أن تجعل الأمة في الحديث الأول عائدة على أمة الدعوة، وفي الحديث الثاني على أمة الإجابة ويتضح المعنى باستخدام وإيراد الحديث بطوله قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المشهور: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة وهي ما أنا عليه وأصحابي) فيتضح من سر الترتيب أن الملل كانت سبعين ملة، والملة التي جاء بها سيدنا موسى هي تمام إحدى وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا ما كان عليه موسى وأصحابه، وجميع الفرق تسمى أمته من حيث الدعوة لأنه رسول زمانه، ولم بعث عيسى عليه السلام كانت هي تمام اثنين وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا ما كان عليه عيسى وأتباعه، ولما بعث أحمد بالملة الأحمدية السمحاء، كانت هي تمام الثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا ما كان عليه هو وأصحابه، ويعني بالأمة أمة الدعوة لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقول: ( أنا رسول من أدركته حياً ومن يولد بعدي ) ثم إن الملة الأحمدية افترقت حسب الحديث الثاني على بضع وسبعين فرقة، وهذا يحمل على تعدد المذاهب وتباين المشارب، وكلهم في الجنة إلا الزنادقة، وهذا ما يناسب الشفقة المحمدية، والرحمة الإلهية، وإلا لهلكت الأمة بأجمعها إذا كان الناجي جزءا من بضع وسبعين جزءا، والحالة أنه غير معين، لأن كل فريق يزعم بنجاته، وأنا أقول : إن الله سبحانه وتعالى عند ظن كل مؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر مهما اجتهد لنفسه بما يقربه إلى الله، فإن أصاب فله أجران، وإن لم يصب فله أجر، فهو مأجور على كل حال أحببت أم كرهت، لأن الخلق ما كلفوا إصابة الصواب، إنما كلفوا الظن بأنه صواب، وجميع ذلك مما بقتضيه تسامح الشرع الأحمدي المشار إليه بقوله تعالى { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }ويشهد لما ذكر ما رواه الطبراني مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن شريعتي جاءت على ثلاثمائة طريقة ما سلك أحد طريقة منها إلا نجا ) والذي أبلغ في التأييد وهو الحق الأكيد إن شاء الله ما ذكره السيوطي في الجامع الصغير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من أمة إلا وبعضها في النار وبعضها في الجنة إلا أمتي فإنها كلها في الجنة )
فلِمَ لم تصادف هذه الأخبار التي تفيد الوسع وتقضي على الأمة بالنجاة ؟ ولكنك تنظر بالعين العوراء، فلهذا أراك إلى الآن لم تترك نصاً يقضي على الذاكرين بالدمار، والخروج من سعة رحمة الله التي وسعت كل شيء إلا ألصقته بجانبهم، ألا ترى أنك قلت بعد أن برهنت على أنهم المبتدعة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يضع بدعته ) ومرادك أنه لا يقبل شيئاً من أعمال الذاكرين حتى يتركوا ما هم عليه من الذكر والاجتماع، لأنه بدعة في زعمك، ويا ليت شعري إذا افترقت طوائف الذاكرين وما هم عليه من السواد الأعظم، فإلى أين يذهبون ؟ وأي مجلس اخترته لهم؟ فهل في الشوارع ينتشرون؟ أم للهو يقصدون؟ ألم تعلم أن الإنسان بالطبع يألف الاجتماع ؟ فإن كان ولا بد فأي شيء تختار لعوام المسلمين إن لم يجتمعوا على الله وبالذكر يجهرون ؟ فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ؟ وبعد ذلك أتحفتهم بحديثين فقلت: أخرج أبو نعيم: (أهل البدع شر الخلق والخليقة) وأخرج غيره (أصحاب البدع كلاب النار) 
( 1 ) ذكره العجلوني في كشف الخفا قال : " ورواه الشعراني في الميزان من حديث ابن النجار وصححه الحاكم بلفظ غريب وهو ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة كلها في الجنة إلا واحدة ، وفي رواية عند الديلمي، الهالك منها واحدة ، قال العلماء هي الزنادقة انتهى ، وفي هامش الميزان المذكور عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة كلها في الجنة إلا الزنادقة ، قال وفي رواية عنه أيضا تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقه إني أعلم أهداها الجماعة انتهى ، ثم رأيت ما في هامش الميزان مذكورا في تخريج أحاديث مسند الفردوس للحافظ ابن حجر ، ولفظه تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة كلها في الجنة إلا واحدة وهي الزنادقة ، أسنده عن أنس قال وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن أنس بلفظ أهداها فرقة الجماعة انتهى ، فلينظر مع المشهور ولعل وجه التوفيق أن المراد بأهل الجنة في الرواية الثانية ولو مآلا فتأمل "

رد القول بأن مذهب التصوف بطالة


ولما خشيت أن القارئ لا يفهم من هم أهل البدع المشار إليهم لأن الناس تتفاوت في الفهم، فوضحت ذلك بقولك: " قال الأستاذ أبو بكر الطرطوشي: مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلاله فما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم " , .

فأقول فما أجرأك على أهل نسبة الله وما أحد لسانك في أكل لحوم أهل الله... والله لئن تهدم الكعبة أولى لك من أن تفوه بمثل هاتة المقالة، عرَّفتَ التصوف بأنه بطالة وجهالة، والله لقد عرَّف التصوفَ علماءُ الدين وحكماءُ المسلمين بخلاف ما عرَّفتـَه فقالوا: إن التصوف عبارة عن تدريب النفس على العبودية، وردها لأحكام الربوبية، التصوف؛ الخروج من كل خُلُقٍ دنيٍّ والدخول في كل وصف سنيٍّ ، وقال أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه: التصوف هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به، وهذا من بعض ما عرَّفوا به التصوف.

أما قولكم: "التصوف بطالة" فمردود عليكم بما قرروه بأن الصوفي يحاسب نفسه على الأنفاس عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا ) وهل ترى هذا من البطالة ؟
وأما قولكم ( مذهب التصوف جهالة ) فهذا مردود عليكم أيضاً بما أبدوه من العلوم التي تعجز عنها فحول أكابر العلماء فضلا عمن هو على شاكلتكم ومؤلفاتهم أعدل شاهد، ألم تعلم أن التصوف ذكره بعض الأكابر من فروض العين، كالإمام الغزالي والشيخ السنوسي صاحب العقائد فقال : " يجب السعي إلى من اشتهر به ولو بغير رضاء والديه"، وقال الجنيد رضي الله عنه : " لو أن تحت أديم السماء اشرف من العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعينا إليه "، وقال الشيخ الصقلي في كتابه المسمى بنور القلوب: " كل من صدق بهذا العلم فهو من الخاصة، ومن فهمه فهو من خاصة الخاصة، وكل من عبر عنه فهو النجم الذي لا يدرك، والبحر الذي لا ينزف "..
قلت: يشهدك الله فهل تفهم شيئاً من مكنون علمهم ودرر لغزهم ؟ كلا فما أنت إلا من وراء حجاب من حديد، ولهذا أصبح عندكم جهالة، أما قولكم "إنه ضلالة" فالله أعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بمن اهتدى.
ثم أقول: إنى لا أنكر وجود النقص في المعترضين في كل عصر من أهل السنة على بعض أفراد المتصوفة لاحتمال وجود النقص في المعترض أو المعترض عليه، وأما إنكار مذهب التصوف من أصله فلم تتظاهر به أهل السنة، إنما تظاهرت به بعض الفرق التي لا أهمية لها بالنظر للسواد الأعظم ولهذا لم ترُج معتقداتهم، وأي شيء اخترته في تلك المذاهب المندرسة حتى قمت تنتصر لمذهبهم وتحيي من معتقداتهم ما اندرس؟ فأخذت تبث في قلوب أبناء الوطن سوء الظن بالذكر والذاكرين وفي ظني أن مجلسك لا يخلو من نحو ما كتبته في هذا الشأن، وإن كان كذلك فالله يعصم من حضرك كيلا يشاركك إلا فيما يعود عليه بالنفع ويترك ما وراء ذلك .
أما قولكم : "فما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" فمن ذا الذي بلغك عن الصوفية أنهم يقولون: إن في كتاب الله من العلوم ما لا يتوصل إليه العموم، قال سلطان العاشقين :
فثم وراء النقل علم يدق عن *** مدارك غايات العقول السليمة 
قلت: ولعل المتجمد على الظواهر لا يرى من كتاب الله إلا ما وصل إليه من جهة بضاعته القليلة وقريحته الكليلة، وينكر ما وراء ذلك، ولم يعلم إن ما عرفه من ظاهر الكتاب إلا كمن عرف القشر من اللباب، وما وراء ذلك ما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهل يُعتقَد أن ما وصل إليه فهمه هو ما كانت عليه بواطن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الله، كلا وليفتش نفسه إن كان ما أكـَّنه فؤاده أعز مما تحدث به فهو على بينه من ربه، وإلا ما ضاع له أكثر مما حصل عليه، قال عليه الصلاة والسلام (إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا أظهره أنكره أهل الاغترار بالله ) وقال: (علم الباطن سر من أسرار الله وحكم من حكمه يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده ) وقال أيضا: ( العلم علمان فعلم في القلب فذلك العلم النافع وعلم على اللسان فذلك حجة الله على ابن آدم) فدل هذا على أن العلوم الخفية غير العلوم المتعاطية، قال أبو هريرة في ما شاع عنه: (حفظت عن رسول الله وعاءين من العلم، أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم ) نقله عمر بن عبد البر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ( لو قلت لكم ما أعلم تفسير قول الله تعالى (يتنزل الأمر بينهن) لرجمتموني أو لقلتم أني كافر ) ذكره الشعراني في اليواقيت والجواهر ومما ينسب لزين العابدين رضي الله عنه.
يا رُبَّ جوهر علم لو أبوح به *** لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولا ستحل رجال مسلمون دمي *** يرون أقبح ما يأتونه حسنا 
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: ( لو حدثتكم بكل ما أعلم لقلتم: رحم الله قاتل سلمان ) وقال الإمام علي كرم الله وجهه: "إن بجانبي علماً لو قلته لأزلتم هذا عن هذه، وأشار برأسه عن جثته " فدل هذا على أن في الزوايا خبايا .
وفي قولكم "فما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" فكأنكم تشيرون أن ذاك هو الذي فهمتموه من كتاب الله، ألم تعلم أن للقرآن ظاهراً وباطناً وحداً ومطلعاً كما هو الحديث المشهور عن رسول الله نقله في تاج التفاسير، وحتى لو قلنا: أنك على خبرة من ظواهره فهل علمت شيئا من باطنه ؟ وأين أنت من حده ومطلعه؟ ذلك حظ العارفين في كتاب الله وسنة رسول الله، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ( لن تتفقه كل الفقه حتى ترى للقران وجوهاً كثيرة ) وقيل إنه حديث عن شداد بن أوس نقله ابن عبد البر، ولكنك ترى الإسلام هو مجرد ما أنت عليه ومن هو على شاكلتك، وإن كان كذلك فإنك سويت بين سريرتك وسريرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وسريرة الأنبياء، وهذا من الجهل في أقصى غاية، ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لن تخلو الارض من أربعين رجلا على قلب خليل الرحمن ) وهل أنت من هاته العصابة المشار إليها في الحديث؟ فإن كنت كذلك فلا يبعد أن يكون لك أوفر نصيب من الاطلاع على مكنونات الدين وإلا فسلم العلم لأربابه، لأن الأثر صريح في ذلك لمن تتبعه بأن في الأمة خصوصاً أطلعهم الله سبحانه وتعالى على أسرار الكتاب والسنة، ومهما صح ذلك فهل توجد العصابة المشار إليها في غير الذاكرين الموسومين بصفة الانقطاع لله عز وجل؟ {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } .

التواجد والحركة في الذكر


وفي مثلهم قال ذو النون المصري رضي الله عنه: " اجتمعت بجارية في بعض السياحات فقلت لها: من أين أقبلت؟ فقالت: من عند أناس {تتجافى جنوبها عن المضاجع} فقلت لها: والى أين تريدين؟ فقالت: إلى{رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} ، ولكنك ظننت أن التصوف عبارة عن جماعة من الناس يجتمعون للرقص ونشد الأشعار لا غير، ومثلك كمن قصد راعي الغنم بالليل يطلبه أن يتصدق عليه بماشية فأذن له في ذلك فذهب ليأخذ ماشيته فوقعت يده على كلب الحراسة، الذي هو عادة يكون مختلطاً بالمواشي، فلما أصبح الصباح وجد بيده كلباً ، فأخذ يتهم راعي المواشي ويلقبه براعي الكلاب، وهذا ما يقتضيه لسان ما جمعتموه، لأنكم أقصرتم التصوف على الرقص وما في معناه، ولهذا قلت: وفي المعيار( أن من البدع المنكرة المحرمة الرقص بالذكر) ثم أتيتم بقول الطرطوشي الذي قضى على خيار الأمة المحمدية بالبطالة والجهالة والضلالة، ولم يكفكم هذا حتى وضعتم عليهم تشبيهاً بليغاً أخرجهم من دائرة الإسلام والمسلمين، وهو قولكم نقلا عمن لا يتقي الله مثلكم، أو لم يقصد بذلك إلا جماعة بعينها " ( وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، فإنهم لما عبدوا العجل صاروا يرقصون حوله ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل) وفي ظني أنكم تجاوزتم الحد فيما ارتكبتموه، فلا مسلك وخيم في أعراض أهل الله إلا وسلكتموه، ثم أقول: إن كان تشبيهكم هذا للفقراء بعبّاد العجل فيه إصابة من حيث الهيئة الموجودة في الفريقين، وقد صادفتم فيما زعمتم، فهل صادفتم وجه الشبه فيما بين المعبودين المتواجَد من أجلهما؟ بين عجل الإسرائيلي وإله الذاكرين؟ فتعالى الله عما يقول الظالمون، وحقي أن لا نشتغل بالكلام على هاته العبارة الواهية، لأنها زُيِّـفتْ ورُدَّتْ من عدة وجوه، وقد أطال الكلام عليه غير واحد، وذكروا إنها مدسوسة على أبى حنيفة، وحاشاه أن يقول مثل ذلك.

ثم أتكلم في التواجد الذي ذكرتم تحريمه، وإن كان ليس هو المقصود من طريق القوم، إنما هو نتيجة الوجل الذي عدمتموه قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } فها هو تعالى أخبرك عما يلحق الذاكر من الوجل، وجعله من أخص صفة المؤمنين، ألا ترى أنه تعالى أثنى على أهل الكتاب بما حصل لهم من الوجد، فذكر أحد لوازمه بأبلغ ما يكون من المدح فقال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } أوليس في هذا ما يدل على وقوع حركة في باطن المؤمن من أجل ذكر الله واستماع كلامه؟ أو لم يقل تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ثم بيَّن معنى القرآن الذي تتصدع منه الجبال فقال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فلم لا تعذر القلوب إذا تصدعت والأجسام إذا تمايلت من شيء تتصدع منه الجبال؟ وليس ذلك إلا لأنك لم تجد في باطنك ما وجده غيرك، لأنه ذكر من القلوب ما هو كالحجارة أو أشد قسوة، أو لأنك ذكرت أسماء الله وتلوتَ كتاب الله على ظاهر قلب، ألم يبلغك أن السيد عمر مرَّ برجل يقرأ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } فصاح صيحة سمعت من أقطار المدينة، ثم غُشي عليه، فحُمل إلى منـزله، فمكث يومين لم يرجع كلاما وسمع الشافعي رضي الله عنه قارئاً يقرأ { هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ *وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } فغُشي عليه وحُمل إلى منزله. ومثل هذا لا يحتاج إلى شدة بيان، فقد قضى الوجل والتواجد بانعدام الكثير من السلف الصالح.

ألم يبلغك ما جاء في الآثار عن مجلس سيدنا داود عليه السلام، وما كان يقع فيه الجموع إذا أخذ في قراءة الزبور؟ وهل تظن أن بني إسرائيل كانت أرق أفئدة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وعلى كل حال فإني أظنك لا تذكر حصول الوجل الذي هو علّة في التواجد، بل تسلمه لبعض أفراد غير معنيين تسليماً علمياً ولا ذوقياً، كذلك وعلمت أنه من أخص لوازم الشعور فلم تخصصه بيدن الكفار الذين وصفهم الحق سبحانه وتعالى بقوله { إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَام } فإنك جعلتهم أرق أفئدة من الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وهل جعلت شغف الإسرائيليين بالعجل أشد شغفاً من أهل محبة الله والله يقول ( والذين أمونا أشد حبا لله )
قوم تخلَّجَهُمْ زُهوٌّ بسيدهم *** والعبد يزهو على قدر مولاه. 
فالإسرائيليون حركهم ما أُشربوه في قلوبهم من حب العجل، والصوفية حركهم ما أُشربوه في قلوبهم من حب الله، فوقع منهم ما أنكرته عليهم، ومن جهل شيئاً عاداه، أو لم يبلغك قوله تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر في أمته أقواماً يدخلون الجنة أفئدتهم مثل أفئدة الطير ( ذكره في الجامع الصغير).
وعلى هذا فأين يوجد المشار إليهم إن لم يوجدوا في حيز الذاكرين؟ وفي الغالب أنك تحدث نفسك أنك منهم، فأقول: بالله عليك إلا ما أخبرتني أأنت من { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرا }؟ أم من الذين { لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ }؟ أم من الذين { لا تلهيهم أموالهم ولا أولادهم عن ذكر الله } ؟ أم من { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } ؟ أم من { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }أم من الذين { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } أم من الذين قال فيهم عليه الصلاة والسلام: ( سبق المفرِّدون المهتزون بذكر الله ) أم من الذين قيل فيه مجنون؟ عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون ) أم ممن قيل فيهم مراؤون؟ عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقول المنافقون أنكم مراؤون ) عزمت عليك بالله إلا ما أخبرتني من أي فريق أنت ؟ أأنت من القائلين ؟ أم ممن قيل فيهم ؟ وبالجملة إن التواجد لا يستبعد وقوعه إلا غليظ الطبع جافي الأخلاق، كما يستبعد العِنِّين لذة الجماع، وإذا فاتتك المنة في نفسك فلا يفوتك التصديق بها في غيرك، قال الشيخ شعيب أبو مدين رضى الله عنه :
فقل للذي ينهى عن الوجد أهله *** إذا لم تذق معنى شراب الهوى دعنا
فإنا إذا ما طبنا وطابت نفوسنا *** وخامَرَنا خـمر الغـرام تـهتكنا 
إلى آخر ما قرره فيما يتعلق بالوجد والتواجد، ومع هذا إنى لا أقول بأن الرقص والتواجد هما من لوازم التصوف، إنما هما من لوائح ما ينشأ عن الاستغراق في الذكر، ومَنْ شَكَّ فليجرِّب، فليس الخبر كالمعاينة، وهذا ما يتعلق بالتواجد، وأما الرقص فسيأتي الكلام عليه.
ثم أراك بعد ما حكمت على السواد الأعظم من أمة محمد بالتضليل، أخذت تحرض الأمراء على أفعال الخير في ظنك، وإنما أردت مشاركتهم لك في مصيبتك فقلت: "ينبغي للسلطان أو نائبه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها" ولا فائدة تلحقك وتلحق من عمل بإشارتك إلا الدخول تحت قوله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } فقد سعيت في تخريب بيوت الله، وعرَّضت ولاةَ المسلمين لسخط الله، وللخزي المترتب على من فعل مثل ذلك، ولكن رجال الحكومة أوسع منك نظراً وأشد منك محبة في الذكر والذاكرين، فلا زالت الأمراء في سائر أصقاع المسلمين قديماً وحديثاً في إكرام المنتسبين، والتعظيم لجنابهم على اختلاف طبقاتهم، وليس ذلك إلا بسبب من لازمهم من علماء الملة، جزى الله الفريقين خيرا، وأما من سواهم من العلماء المتهورين فلا يُـعبأُ بهم، ولا يُعتدُّ بِفَتْوتهن لأنهم على علمٍ مِن أن ما صدر منه إنما هو عن ضيقٍ في صدره، أو قصورٍ في عمله وما يدريك أن يكونوا من أمرت بإخراجهم من المساجد هم المقصودون من قوله عليه الصلاة والسلام، لما سئل عن الذين يقال لهم يوم القيامة: (يقول الله جل وعلا يوم القيامة: سيعلم أهل الجمع من أهل الكرم فقيل: من أهل الكرم يا رسول الله؟ قال: هم أهل الذكر في المساجد ) رواة الإمام احمد.
ثم أقول إذا إمرتهم أن يمنعوهم من المساجد فلم لم تقتصر على ذلك حتى أمرتهم أن يمنعوهم من الاجتماع ولو في بيوتهم ؟ والحالة أنهم لا يمنعون أهل الكتاب من الاجتماع في كنائسهم موافقة لما قرر الشارع من احترام الكتابيين من أهل الذمة، وهلاَّ جعلت طوائف الذاكرين على الأقل من ذلك القبيل ؟ ولكنك ترى الاجتماع على ذكر الله وتلاوة القران من أعظم المناكر، كما قررته فم غير ما موضع من، فلهذا أمرت الحكومة بتغيير هذا المنكر الشنيع حتى لا يعود أحد يجتمع على ذكر الله وتلاوة القرآن، والصلاة والسلام على النبي عليه السلام، أو مما هو من هذا القبيل { وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } .
وبعد ما حكمت بتضليل ما هم عليه من الاجتماع للذكر ونحوه قلت : " ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ولا يعينهم على باطلهم " فيا لله العجب! متى جاء هذا الدين الذي نزل بتحريم الحضور مع الذاكرين؟ وهذا إذا كان مجرد حضور فيكون محرماً، وأما إذا تحركت شفتاه مع الذاكرين بقولنا لا إله إلا الله، فلم ندر ما حكم الله في ذلك، ولعلك تراه مرتداً، أو ما هو من هذا القبيل، اللهم إنك تعلم براءتي وبراء الإسلام والمسلمين ممن يعتقد هذا ونحوه.
وعلاوة على ما تحملته من الزور وارتكبته من الفجور قلت: " وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم " فأشركت أئمة الدين فيما ارتكبته، وادعيت أن الأئمة يقولون ما قلته، وحاشا لله.
وها أنا أنقل لك زيادة على ما نبهنا عليه من فتاوى علماء المذاهب الأربعة، أين توجد في هاته النازلة، وأن ذلك يتعذر نقله لكثرته، وعلى كل حال ذكرنا لك منها جملة ممن لا تخفى مكانته في الدين كجلال الدين السيوطي والشبرخيتي والفيروز آبادي وغيرهم، وإني الآن أذكر لك ما نقل عن المذاهب الأربعة في أنفسهم من احترامهم لأهل التصوف، زيادة على ما قررناه، وتبرئة للأئمة مما نسبته إليهم من أنهم ينكرون التصوف من أصله.
فأقول: مما علم من سيرة الشافعي بالضرورة أنه كان يجالس الصوفية ويلازمهم ويحترمهم، فقيل له في ذلك فقال: " استفدت من مشائخ الصوفية ما لم أستفده من غيرهم قولهم: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وقولهم: أشغل نفسك بالخير، فإن لم تشغلها بالخير شغلتك بضده " ، وقد كان يلازم شيبان الراعي وهو من خواص الصوفية رضي الله عنهم.
وهكذا كان الإمام أحمد ذات يوم مع الإمام الشافعي فسأل أحمد شيبان الراعي رضي الله عنهما عن رجل نسي في خمس صلوات لم يدر عينها، فقال شيبان: " هذا رجل غفل عن الله حقه أن يؤدب "، ثم سأله عن الزكاة، فأجابه بما يطول ذكره، فصار أحمد من ذلك الوقت يحترم أهل التصوف، حتى كان يبعث لأبي حمزة البغدادي الصوفي إذا نزلت به نازلة مما هو أدق وأرق فيقول: ما تقول في هذا يا صوفي؟؟ فيجيبه أبو حمزة مما علمه الله.
وهكذا ذكر الشيخ قطب الدين بن أيمن من أن الإمام أحمد كان يحث ولده على الاجتماع بالصوفية ويقول:إنهم بلغوا في الإخلاص مقاماً لم نبلغه أهـ من النصرة النبوية.
وأما ما شاع عن مالك مما يتعلق بالتصوف هو قوله: " من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق" وأما ما نقل عن الإمام أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه أنه رفع إليه سؤال مما يفعله الصوفية في الحضرة وما يتظاهرون به، هل هم صادقون في ذلك أم كاذبون؟ فأجاب: إن لله رجالاً يدخلون الجنة بدفوفهم ومزاميرهم، ثم قال الناقل: كان في بلادنا طائفة يرقصون للذكر حتى يسقطوا على الأرض، ولم ينكر عليهم الإمام، ويزورونه ويكرمهم، ويسألونه ويجيبهم، ومن ذلك أنه قال مرة شيخهم للإمام: ما تقول يا سيدي ـ رضي الله عنكم ـ في مسالة هي؛ أن أناساً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم دخلوا الكنيسة، واجتمعوا فيها حلقة، وتداولوا ذكر الشيطان بصوت عال من الصباح إلى المساء، افتنا فيهم؛ أكفارٌ هم، أم لا؟؟ فأجاب رضي الله عنه: لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب وهذا ليس بذنب. نقله قي تحفة أهل الفتوحات والأذواق .
وكل هذا محافظة من الإمام من أن يقول في دين الله برأيه، وأن يتهم أحداً من أهل القبلة ونحوه، فجزاهم الله خيرا، ما أوسعهم علماً وأعظمهم حلما‍‍ً‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!! فإن كان كذلك فكيف ينسب للإمام تلك المقالة السخيفة، إذ زعموا أنه قال: " ينبغي للموضع الذي تحلقوا فيه للذكر بكيفيتهم المعهودة أن تحفر تربتها وتملأ برمل" ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مثل ذلك: (ما من قوم اجتمعوا في مجلس يذكرون فيه الله إلا حفت بهم الملائكة،‍ وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده ) ومثل تلك المقالة حقها أن لا تصدر من غافل فضلاً عن أن تنسب لأحد من الأمة العظام، وهم لا يقولون بحفر كنيسة إذا عادت للإسلام مسجدا، ويرون أن عرق الحي ولعابه ومخاطه من الأشياء الطاهرة ولو كان خنزيرا ألم يبلغ هؤلاء الجهلة أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد بناءه كانت بقعته فيها مقابر المشركين، فنقل عظامها ثم بنى مسجده في البقعة المباركة، وهل ترى أنه أمر بحفرها، ونقل ترابها عليه الصلاة والسلام؟؟ فكلاّ، إنه ما جاءنا عنه مثل ذلك، وما سمعنا به وإن كان كذلك فكيف يقول الإمام بما نُسب إليه مع فقهه واطلاعه، وحاشا أن يصدر منه مثل ذلك.
وقد نص صاحب تحفة الفتاوى على أن تلك المقالة الشنيعة مدسوسة على الإمام أبي حنيفة، ثم قال: " وكيف يقول ذلك وقد أتاه فقير صوفي من أهل زمانه، فسأله عن مسجد مكث فيه جماعة من اليهود بنسائهم وصبيانهم ثلاثة أيام، فهل يغسل؟ أم يُهدَم؟ أم كيف؟؟ فقال الإمام: " إن لم تكن فيه نجاسة معينة محققة فهو طاهر" أو ليس في هذا بطلان ما نسب إليه؛ من أنه قال بحفر الأرض التي يذكرون عليها الفقراء، وقال الشيخ أبو الحسن بن منصور الجنيدي الحنفي: ليست هذه المقالة الشنيعة منا، ولا من إمام فروعنا، إنما هي صدرت من بعض الروافض لأنهم ينكرون وجود الصالحين. وكذلك الشيخ عبد الحكيم ردَّها ردّاً شنيعاً وقال: " من أفتى بها فهو من أهل الاعتزال" ثم قال: " إن الذي زوَّرها على الإمام هو بن شرحان الفزَّاني ـ دمَّره الله ـ حاشا الإمام من ذلك، فإنه كان يحب الذكر وأهله، ويحب التطريب والأنغام والإنشاد بالأصوات الحسان " اهـ نقل بعضه من النصرة النبوية.
وليس العجب ممن نسب هاته المقالة للإمام، إنما العجب ممن رسمها في ذهنه، وقررها حجة لديه {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور } قال عليه الصلاة والسلام: (رب حامل فقه ليس بفقيه ) اهـ ما يتعلق بالأئمة في شأن الذاكرين باختصار.

الحركة في الذكر (الرقص)

ومما يتعلق بالرقص الذي قلتم بتكفير من يستحله مطلقاً مستدلين بقول ابن وهبان، حيث قال: ومن يستحل الرقص قالوا بكفره، ولا سيما بالدُّف يلهو ويزمر، ثم قلت: وفي المعيار ما محصله عن جماعة من الشيوخ (إن من حبس زاوية أو غيرها على فقراء الوقت فحبسه باطل، لأنه على معصية) وهكذا شأنك مهما وجدت سيرة شنيعة أو حالة فظيعة إلا وألصقتها بجنب الذاكرين، تدليساً منك على القارئ، حتى لا يتبادر الفهم من مذهب التصوف إلا مجرد ما ذكرته من الرقص واللهو والتزمير ونحو ذلك، فالله يجازيك عن مذهب التصوف بما أنت أهل له.

ثم ارجع لحكم الرقص ـ وإن كان هو ليس من التصوف في شيء ـ فأقول: كل ما أصابك من تحريم ما حلل الله؛ إما لعدم اطلاعك على الأصول، أو لعد ورعك، ولم تعلم أن ما حُرم من الرقص هو ما قُيد باللهو، وكان على سبيل التخنث والتكسر الذي هو من طبع السفهاء، وتحريم هذا لا يحتاج لاستدلال، فالطباع الكريمة تستقبحه ضرورة، لأن الداعي فيه رعونة نفسانية، ونزعة شيطانية، ثم إنك إن تناولت هذا الحكم وأخذت تضعه على كل من رأيته، أو سمعتَ به رقصٌ، أو قُرِّرَ على الرقص، فينتج لك منه حكم ما تقِرُّ به عينُك.

ألا ترى أنه تقرر لديك أن مستحل الرقص قالوا بكفره؟ فكيف بك إذا بلغك أن الحبشة دخلوا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد على هيئتهم المعروفة من الرقص ونحوه، وهو عليه الصلاة والسلام ناظر لهم، وعائشة رضي الله عنها تتطلع عليهم من خلفه حتى فرغوا من أعمالهم، ولم ينكر عليهم عليه الصلاة والسلام فبالله عليك؛ أي شيء تفهمه من ذلك ؟؟ وأنت تقول: الرقص حرام مطلقاً، وهل تراه عليه الصلاة والسلام يقرر على الحرام؟؟ وهلاَّ تجد فرقاً بين رقص السفهاء المتخنثين وبين رقص الحبشة؟ وإذا لم يبلغك هذا، أو بلغك ولم تستنتج منه حكم الإباحة لقصور الإدراك، فأي شيء تقوله في رقص السيد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ـ إن صح ذلك ـ حسبما جاء في بعض الأحاديث لما قال له عليه الصلاة والسلام: (أشبهت خَلْقي وخُلُقي ) فقام يرقص بحضرته عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه ولم ينهه، وهلاَّ يفيدك هذا إباحةً في الحكم؟؟ وهل يصح التطبيق بين رقص السيد جعفر وبين الرقص المشار إليه في قصيدة ابن وهبان؟؟ ألم تعلم أن التخصيص يقيد الإطلاق وهل ترى أن الصوفية يقولون بتحليل الرقص مطلقاً؟؟ كما قلت أنت بتحريمه مطلقاً؟ كلا، وإنما هم أوسع منك نظراً، لا يقولون في دين الله بغير علم، ولا يتناولون النصوص بغير فهم، ولكن الأغبياء تظن أن من جمع شيئاً من النصوص وأضاف إليها نصيباً من قلة الحياء يُعَدُّ عالماً!!
أو لم تعلم يا هذا أن محرِّمَ الحلالَ كمستحِلّ الحرام؟؟ كما هو في الحديث، وقد فضحك الله بما جمعته فكفاك مقتاً أن لا تميز الحلال من الحرام، وهل تظن أن العلم عبارة عمن يحمله { كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } كلا إنما العلم هو عبارة عن نور يحدث في الملَكة، فيبصر به المعلومات كما يبصر بالبصر المحسوسان، لأن العلم صفة إدراك لا مجمع أوراق، قال تعالى لنبيه {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } وعلى هذا يتعين على العالم أن لا يحكم على الرقص قبل أن يعلم ما هو الداعي فيه، لئلا يحرم ما حلل الله، ولهذا قال الشيخ مصطفى بن إسماعيل حبش: "وإن كان ظاهر الوهبانية تحريم الرقص مطلقاً فالمعتمد ما ذكره ابن كمال باشا ونقله الصفوة ونصه:
ما في التواجد إن حققت من حرج *** ولا التمايل إن أخلصت من باس
فقمت تسعى على رجل وحقـ لمن *** دعاه مولاه أن يسعى على الرأس
ثم أقول: إن ما قررناه في هاته النازلة ليس هو مجرد انتصار لجانب الرقص، كلا، وإنما هو إظهار الحكم، وانتصار للأمة المحمدية التي قضيت بالكفر على الجل منها، لأن الغالب فيها يعتقد جواز الاهتزاز، وأما المنتسبون يعتقدون مطلوبيته لقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس بكريم من لم يهتز عند ذكر الحبيب) نقله صاحب النصرة النبوية.
ومثله أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام {سيروا سبق المفرِّدون المهتزّون بذكر الله } ذكره في الجامع الصغير، وما يدريك أن يكون رقص الصّوفية بالذكر هو ذاك الاهتزاز المخبَر عنه في الحديث لأنّه صريح في حركة الذّاكر، ولهذه المناسبة رأى بعض الصّوفية الاهتزاز عند ذكر الله {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه } وبالطّبع كل حبيب يرتعد عند ذكر حبيبه، وإني على علم من أن الحجّة لا تقوم عندك بما ذكرناه لأنك لم تذق طعم المحبّة، ولو دبت في مفاصلك لأشتهيت أن تسمع ذكر الله ولو من كافر، ثم تقول كما قال السلطان العاشقين:
ولي ذكرها يحلوا على كل صيغة *** وإن مزجـوه عذّلي بخـصام 
وحينئذ تعرف معنى الوجل وتنظر هل تملك نفسك أم لا؟
ألم يبلغك في كتاب الله خبر النسوة الّلاتي قطعن أيديهن لما خرج علين يوسف عليه السّلام وقلن حاش لله ما هذا بشراً، فإن كان مثل هذا يقع بمشاهدة جمال مخلوق، فلِمَ لا يقع ما يقرب منه عند مشاهدته جمال خالقه، إذا ظهر بسلطان كبريائه. 

ثم إني رأيتك لا تبالي بتضليل المؤمن، ولا بتقسيقه ولا بتبديعه، بل ولا بتكفيره، فكل ذلك أهون عندك من شربة ماء، ولم تدر ما حرمة المؤمن عند الله، ولا عند رسول الله. ألم تعلم أنك إذا قلت بكفر مؤمن فقد حكمت بإباحة ماله ودمه، وبخلوده في النار، وهل ترى هذا مما يرضي الله ورسوله ؟ أو ليس في علمك أن الخضر عليه السلام استهون قتل النفس على تكفير مؤمن ؟ قال تعالى فيما أخبر عنه : {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} ألم تعلم أن حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة ؟وأن هدمها عنده أهون من تكفير المؤمن المطن بكلمة الإخلاص، المردد لها في سائر الأنفاس ؟ وإني أحذرك الله أن تتقيه في أهل لا إله إلا الله، ولا تقل فيهم برأيك، فإنهم أقوام خلقهم الله لذكره، واختارهم في سابق علمه، فعلى الأقل أن تراقبهم لله، وتحترمهم في الله، والإضافة تعنيك، والله يلهمك ويهديك، انتهى ما يتعلق بالرقص.


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية