يقول العلامة الصوفي أبو سليمان الداراني :" القلب الصوفي قد رأى الله وكل شيء يرى الله لا يموت فمن رأى الله فقد خلد".
وكل كلمة خطها الصوفيه كانت خالدة كالقلب الصوفي خالدة لا تموت لأنها ارتبطت بالله واستهدفت رضاه واقتبست من هداه وأشرقت بحبه وأضاءت بنوره.
ومادة التصوف سواء أكانت أخلاقا أو معرفه أو سلوكا أو تعبيرا عن مشاهدة او تصويرا لمناجاه أو تذوقا لتجليات أو تحليقا حول أشرافات فهي مادة موصله بالله قائمة به وله فانية فيه سبحانه ،ولهذا آمن الصوفيه بأنهم أحباب الله وأصفياؤه وأولياؤه وصفوه عباده وحراس ينابيعه وآياته كما آمنوا بأن أعمالهم وحركاتهم ومعارفهم وأذواقهم ومقاماتهم كلها هبات الله وفيض عطاياه.إن مولاهم سبحانه هو مربيهم ومعلمهم وهاديهم ومرشدهم إنه الحبيب القريب المجيب الآخذ بنواصيهم إلى وجهه الكريم قيل لمعروف الكرخي أخبرنا عن المحبة أى شئ هي قال: يا أخي ليست المحبة من تعليم الناس المحبة من تعليم الحبيب.
وبهذا الارتباط المشتعل بالوجد والحب وملهمات الأنس والقرب أصبح الصوفي أينما تولى فثم وجه الله لايرى سواه وكل شئ في الوجود مرآه يرى فيها الصوفي وجه الله وآياته وقدرته ورحمته يقول ذو النون في مناجاته:"إلهي ما أصغيت الى صوت حيوان ولا إلى حفيف شجر ولا خرير ماء و لا ترنم طائر ولا تنغم طل ولا دوى ريح ولا قعقعة رعد إلا وجدتها شاهدة بوحدانيتك داله على أنه ليس كمثله شئ "،ومن هنا لم تتحدث طائفه من الناس عن الحب الإلهي وعن الفناء في الله كما تحدث الصوفيه والفناء الصوفي فوق سموه الإيماني مذهب في التربية والأخلاق لا يماثله مذهب آخر من مذاهب التربية والأخلاق وعلى ضوء علم النفس الحديث وعلى هدى المذاهب العلمية التربوية يجب أن ننظر إلى الفناء الصوفي على أنه منهج للكمال والتسامي لا يطاوله غيره ولا يغني عنه سواه إنه إفناء المشاعر والرغبات الأرضية في شئ أكبر وأعظم من المثل الأعلى المصطلح عله خلقيا وتربويا إنه إفناء هوى النفوص وشهواتها وعواطفها وكل ما تحب فيما يحبه الله ويريده ويأمر به ليعيش الصوفي متخلقا بخلق الله أو كما يقول الإمام الجنيد فتكون كل حركاته في موافقه الحق دون مخالفاته فيكون فانيا عن المخالفات باقيا في الموافقات إنه إذن استبدال خلق بشري بخلق رباني وذلك ارتفاع بالبشرية لا نعرفه ولا تعرفه الدنيا لغير الصوفية.
فالفناء الصوفي ليس فناء جسد في جسد ولا فناء روح في روح إنه فناء إرادة في إرادة وفناء أخلاق في اخلاق وصفات في صفيات أو كما يقول الصوفية فانيا عن أوصافه باقيا بأوصاف الحق إنه لتصعيد للكمال تصعيد تخفق أجنحته في أفق قدسي علوى ثم تخفق صاعدة صاعدة حتى تنال شرف التخلق بأخلاق الصفات الإلهية وهذا الفناء هو الذي عبر عنه الحديث النبوى: (تخلقوا بأخلاق الله ) الحديث القدسي كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به. وبهذا الفناء يحس الصوفي إحساس ذوق ووجدان وقلب وروح بإذن الله سبحانه معه وفي ضميره وحركاته وكلماته.
ومن فناء الحظوظ حديث عبد الله بن مسعود قال :"ما علمت أن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من يريد الدنيا حتى قال الله تعالى :" منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة" فكان عبد الله في هذا المقام فانيا عن إرادة الدنيا.
لقد فنى الصوفيه في حب مولاهم وتخلقوا باخلاقه وتأدبوا بآدابه وتربوا في محاربيه وعاشوا في ذكره ومناجاته فعلمهم وطهرهم وزكاهم واصطفاهم واجتباهم وأحبهم ورضى عنهم ففتح لقلوبهم ملكوت وأسرار خليقته وأفاض عليهم هداياه وعطاياه علوما وأذواقا أو كما يقول الصوفيه: أخذتم علمكم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت.
ومن هذا الفناء جاءهم الخلود وبهذا التخلق أصبحوا ائمة يهدون إلى الله بأمره ويقفون حراسا على آياته ومشاهده مبشرين بكلماته متحدثين عن حضراته داعين إلى محبته ومناجاته مترنمين في آفاقه وجدا وشوقا بتسبيحه وذكره.