الإشارة :
اعلم أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم سلم ومعراج الوصول إلى الله؛ لأن تكثير الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم توجب محبته ، ومحبته عليه الصلاة والسلام توجب محبة الله تعالى ، ومحبته تعالى للعبد تجذبه إلى حضرته ، بواسطة وبغيرها .
وأيضا : الرسول صلى الله عليه وسلم وزير مقرب ، ومن رام دخول حضرة الملوك يخدم الوزير ، ويتقرب إليه ، حتى يدخله على الملك . فهو صلى الله عليه وسلم حجاب الله الأعظم ، وبابه الأكرم ، فمن رام الدخول من غير بابه طرد وأبعد ، وفي ذلك يقول ابن وفا :
وأنت باب الله ، أي امرىء ... وفاه من غيرك لا يدخل
وقال الشيخ الجزولي رضي الله عنه في دلائل الخيرات : وهي من أهم المهمات لمن يريد القرب من رب الأرباب . وقال شارحه : ووجه أهميتها من وجوه ، منها : ما فيها من التوسل إلى الله سبحانه بحبيبه ومصطفاه . وقد قال تعالى : { وابتغوا إليه الوسيلة }( المائدة : 35)، ولا وسيلة إليه أقرب ، ولا أعظم ، من رسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم .
ومنها : أن الله تعالى أمر بها ، وحضنا عليها ، تشريفا له وتكريما ، وتفضيلا لجلاله ، ووعد من استعملها حسن المآب ، وجزيل الثواب ، فهي من أنجح الأعمال ، وأرجح الأقوال ، وأزكى الأحوال ، وأحظى القربات ، وأعم البركات ، وبها يتوصل إلى رضا الرحمن ، وتنال السعادة والرضوان ، وتجاب الدعوات ، ويرتقي إلى أرفع الدرجات . وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : يا موسى أتريد أن أكون أقرب إليك من كلامك إلى لسانك ، ومن وسواس قلبك إلى قلبك ، ومن روحك إلى بدنك ، ومن نور بصرك إلى عينيك؟ قال : نعم يا رب ، قال : فأكثر من الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم .
ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم محبوب لله عز وجل ، عظيم القدر عنده ، وقد صلى عليه وهو وملائكته ، فوجبت محبة المحبوب ، والتقرب إلى الله تعالى بمحبته ، وتعظيمه ، والاشتغال بحقه ، والصلاة عليه ، والاقتداء بصلاته ، وصلاة ملائكته ، وصلاة ملائكته عليه . قلت : وهذا التشريف أتم وأعظم من تشريف آدم عليه السلام ، بأمر الملائكة بالسجود له؛ لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة في ذلك التشريف . فتشريف يصدر عنه مع ملائكته أبلغ من تشريف تختص به الملائكة .
ومنها : ما ورد في فضلها ، ووعد عليها من جزيل الأجر وعظيم القدر ، وفوز مستعملها برضا الله ، وقضاء حوائج آخرته ودنياه .
ومنها : ما فيها من شكر الواسطة في نعم الله علينا المأمور ، بشكره ، وما من نعمة لله علينا ، سابقة ولا لا حقة؛ من نعمة الإيجاد والإمداد ، في الدنيا والآخرة ، إلا وهو السبب في وصولها إلينا ، وإجرائها علينا ، فوجب حقه علينا ، ووجب علينا في شكر نعمته ألا نفتر عن الصلاة عليه ، مع دخول كل نفس وخروجه .
ومنها : ما فيها من القيام برسم العبودية ، بالرجوع لما يقتضي الأصل نفيه ، فهو أبلغ في الامتثال ، ومن أجل ذلك كانت فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على كل عمل . والذي يقتضي الأصل نفيه ، هو كون العبد يتقرب إلى الله بالاشتغال بحق غيره؛ لأن قولنا :
« اللهم صل على محمد » هو الاشتغال بحق محمد صلى الله عليه وسلم ، وأصل التعبدات : ألا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالاشتغال بحقه . ولكن لما كان الاشتغال بالصلاة على محمد بإذن من الله تعالى ، كان الاشتغال بها أبلغ في امتثال الأمر ، فهي بمثابة أمر الله تعالى للملائكة بالسجود لآدم ، فكان شرفهم في امتثال أمر الله ، وإهانة إبليس في مخالفة أمره سبحانه .
ومنها : ما جرب من تأثيرها ، والنفع بها في التنوير ورفع الهمة ، حتى قيل : إنها تكفي عن الشيخ في الطريق ، وتقوم مقامه ، حسبما نقله الشيخ السنوسي ، والشيخ زروق ، وغيرهما .
ومنها : ما فيها من سير الاعتدال ، الجامع لكمال العبد وتكميله ، ففي الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الله ورسوله ، ولا كذلك عكسه ، فلذلك كانت المثابرة على الأذكار والدوام عليها يحصل به الانحراف ، وتكسب نورانية تحرق الأوصاف ، وتثير وهجا وحرارة في الطباع ، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تذهب وهج الطباع ، وتقوي النفوس؛ لأنها كالماء البارد ، فكانت تقوم مقام شيخ التربية . انتهى كلامه .
والحق الذي لا غبار عليه : إن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ، والإكثار منها ، تدل صاحبها على من يأخذ بيده ، وتوصله إلى شيخ التربية ، الذي هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن كان صادق الطلب ، وأما كونها تقوم مقام الشيخ في دخول مقام الفناء والبقاء ، حتى تعتدل حقيقته وشريعته فلا؛ إذ لا تنقطع رعونات النفوس إلا بآمر وناه من غيره ، يكون عالما بدسائس النفوس وخدعها ، وغاية ما توصل إليه الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يظفر بالشيخ الفناء في الصفات ، وينال مقام الصلاح الأكبر ، ويظهر له كرامات وخوارق ، ويكون من أرباب الأحوال ، وإن وصل إلى مقام الفناء تكون شريعته أكبر من حقيقته .
هذا ما ذقناه ، وشهدناه ، وسمعناه من أشياخنا ، والطريق التي أدركناهم يستعملونها ، وأخذناها منهم ، أنهم يأمرون المريد إن رأوه أهلا للتربية أن يلتزم الاسم المفرد ، ويفنى فيه ، حتى تنهدم به عوالمه ، فإذا تحقق فناؤه وغاب عن نفسه ورسمه ، ردوه إلى مقام البقاء ، وحينئذ يأمرونه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لتكون صلاته عليه كاملة ، يصلي على روحه وسره بلا حجاب ، ويشاهده في كل ساعة كما يشاهدونه . وبالله التوفيق .