التصوف الحقيقى المبنى على الكتاب والسنة هو ذلك المشرب القلبى والروحى الجميل الذى ينبغى للمسلم أن يأخذ بحظه منه ، وليس للصوفية الحقيقيين شغل سوى القيام بحقه سبحانه ، والرجوع إليه من كل زلة ، وأول طريق التصوف الصدق مع الله تعالى ، وبناؤه على فراغ القلب من سوى الله تعالى .
وإذا كان التصوف بهذه المثابة فما كل هذا الجدل الذى دار حوله بين المتخصصين وغير المتخصصين ؟ بين المصلحين ومدعى الإصلاح ؟
الحق أنه لعلو شأن التصوف انتسب إليه كثير ممن لا يستحقون شرف هذه النسبة ، وقاموا بالكثير من الممارسات الخاطئة البعيدة عن الكتاب والسنة ، فشابوا التصوف وأساءوا إليه عامدين أو جاهلين .
وهذه الممارسات الخاطئة كما أثارت من هاجم التصوف بسببها ، أثارت وبصورة أشد وأقوى أئمة الصوفية أنفسهم ، وقاموا بحملات صادقة على هؤلاء المدعين المتمحلين للتصوف .
وليست هذه الاتجاهات المغلوطة التى نسبت إلى التصوف الإسلامى وليدة العصر الحالى ، بل هى قديمة ترجع إلى القرون الأولى ، فهذا هو الإمام القشيرى يؤلف رسالته المشهورة لكشف هذا الزيغ ، وإظهار التصوف الحقيقى ، ومما قاله فى مقدمته : (… مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء وقل الشباب الذين كان لهم بسيرتهم وسنتهم اقتداء ، وزال الورع وطوى بساطه ، واشتد الطمع وقوى رباطه ، وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة ، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام ، ودانوا بترك الاحترام ، وطرح الاحتشام ، واستخفوا بأداء العبادات ، واستهانوا بالصوم والصلاة … ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الفعال حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال وادعوا أنهم تحرروا من رق الأغلال … ولما طال الابتلاء فيما نحن فيه من الزمان بما لوحت ببعضه … والبلوى بالمخالفين لهذه الطريقة والمنكرين عليها شديدة … ولما أبى الوقت إلا استصعابا ، وأكثر أهل العصر بهذه الديار إلا تماديا فيما اعتادوه … أشفقت على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر على هذه الجملة بنى قواعده وعلى هذا النحو سار سلفه فعلقت هذه الرسالة …) .
وها هو الإمام العارف الكبير الشيخ عبد الوهاب الشعرانى (ت 973 هـ) تلميذ السيوطى قد امتلأت كتبه بنقد مرير ولاذع لمدعى التصوف فى عصره ، وفضلا عن الإشارات التى لا تحصر فى مؤلفاته عن ذلك ، فقد خصص مؤلفا مستقلا لهذه القضية سماه : (تنبيه المغترين أواخر القرن العاشر على ما خالفوا فيه سلفهم الطاهر) ، وقد وصفه فى المقدمة بأنه (كالسيف القاطع لعنق كل مدع للمشيخة فى هذا الزمان بغير حق لأنه يفلسه حين يرى نفسه منسلخة من أخلاق القوم كما تنسلخ الحية من ثوبها ، وإنى أعرف بعض جماعة بلغهم أمر هذا الكتاب فتكدروا ، ولو أمكنهم سرقته وغسله لفعلوا خوفا أن ينظر فيه أحد ممن يعتقدهم فيتغير اعتقاده فيهم حين يراهم بمعزل عن التخلق بأخلاق القوم … ، وأرجو من فضل الله تعالى أن يكون هذا الكتاب كالمبين لما اندرس من أخلاق القوم رضى الله عنهم بعد الفترة التى حصلت بعد موت الأشياخ الذين أدركناهم فى النصف الأول من القرن العاشر ، فقد أدركنا بحمد الله تعالى نحوا من مائة شيخ كان كل واحد منهم يستسقى به الغيث : كسيدى على المرصفى ، وسيدى محمد الشناوى ، وسيدى أبى السعود الجارحى ، وسيدى تاج الدين الذاكر ، وسيدى على الخواص ، وغيرهم ممن ذكرناهم فى كتاب طبقات العلماء والصوفية . فكل هؤلاء كانوا على قدم عظيم فى الزهد والعبادة والورع ، وكف الجوارح الظاهرة والباطنة عن استعمالها فى شىء مما نهاهم الله تعالى عنه ، وكان أحدهم لا يقبل شيئا من أموال الولاة ، ولو كان فى غاية الضيق بل يطوى ويجوع حتى يجد الحلال ، ولم يكن أحد منهم يعانى ركوب الخيل ولا الملابس الفاخرة ولا الأطعمة النفيسة … إلا إن وجد ذلك من حلال فى نادر الأوقات .
… فإياك يا أخى أن تظن بالمشايخ الذين أدركناهم أنهم كانوا مثل هؤلاء فى قلة الورع والقناعة فتسىء الظن بهم ، وإياك يا أخى أن تتظاهر بالمشيخة فى هذا الزمان إلا إن كنت محفوظ الظاهر والباطن من التخليط … فإن تظاهرت بذلك وظاهرك غير محفوظ فقد خنت الله ورسوله وأهل الطريق … ، وأول خلق ذكره بعد المقدمة التمسك بالكتاب والسنة يقول الشعرانى : (من أخلاق السلف الصالح رضى الله عنهم ملازمة الكتاب والسنة كلزوم الظل للشاخص … .
وإذا كانت هذه الدراسة ليست محلا لتتبع النقد الداخلى الذى قام به أئمة القوم لتنقية التصوف مما شابه ، فإننا نؤكد على أن ذلك استمر ليس فقط إلى عصر السيوطى ، بل إلى عصرنا الحديث .
وكان للإمام السيوطى دوره أيضا فى العمل على تنقية التصوف مما شابه سواء بما كتبه من مصنفات أو بما اتخذه من مواقف حيال مدعى التصوف فى عصره .
ومن مواقفه المشهودة فى إنكاره على المدعين ، موقفه من صوفية الخانقاه البيبرسية ، وكان قد قال لهم : (لستم بصوفية وإنما الصوفى من يتخلق بأخلاق الأولياء ، كما يشهد لذلك كتاب الحلية لأبى نعيم ، ورسالة القشيرى ، وغيرها من الكتب ، ومن يأكل المعلوم من غير تخلق بأخلاقهم أكل حراما) . فقام عليه صوفية الخانقاه ، ولما اشتد الأمر سعوا فى قتله عند السلطان ، فقال السيوطى : (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنى أنى منصور عليهم) ، ولم تتغير فيه شعرة واحدة . يقول الشعرانى : (ثم إن جميع من قام على الشيخ حصل له مقت بين العباد ، ومات على أسوأ حال ، وقد رأيت أنا بعينى من صار ينصب على من يبيع الدجاج والمأكل ويدخل بها بيته فلا يعود …) . يقول الشعرانى : (وأخبرنى الشيخ بدر الدين بن الطباخ أنه لما قام الصوفية البيبرسية على الشيخ جلال الدين صنف فيهم كتابا فسألونى أن أعارضه بكتاب فشرعت تلك الليلة فيه فإذا بورقة وقعت بحجرى مكتوب فيها : عبدى يا مؤمن لا تؤذ أحدا ممن حمل علم نبـيى . فرجعت عن التأليف وعلمت أن الشيخ جلال الدين على حق) .
إذن الإمام السيوطى كان يسعى جهده إلى إصلاح الممارسات الصوفية الخاطئة ، والعودة بها إلى التصوف الأصيل المبنى على الكتاب والسنة ، ولم يكن يبالى بشىء فى سبيل نصرة الحق وبيانه .
هذا هو التصوف الحقيقى الذى أخذ الإمام السيوطى بحظ وافر منه علما وعملا ، شهودا وذوقا ، وكان فى مشربه على طريقة أهل السنة ، بعيدا عما شاب كثيرا من الاتجاهات الصوفية من البدع والطامات .
هذا هو التصوف كما ينقله الإمام السيوطى : العمل بالأحوط والأشد والأورع ، وترك التساهل فى دين الله ، وليس هذا قطعا هو التصوف الذى يمارسه الأدعياء ، ويجلبون به التهم والهجوم على التصوف ككل .