أهل هذا العلم يغرفون من فيض بحر إلهي ومدد رباني لا يوصف بالعبارة وإنما تقربه الإشارة، ومن معاني علومهم ما تدركه العقول ويطابق المعقول والمنقول ومنها ما لا تفهمه العقول لأنه وراء طورها فتوكل إلى أربابها ولا تنكر عليهم بمجرد سماعها وذلك أن هذا العلم الروحي القلبي ذاتي المنهج فرداني التوجه وأهله أرباب أحوال لا أرباب أقوال، ومعرفة حقائقه من جهة الذوق والوجدان لا من جهة الدليل والبرهان، لأنها معانِي منطبعةٌ في الأرواح من يوم الميثاق، فيَنبثق في الصدر شعاعها وتنكشف للقلب سرائرها وبالتالي فهي أذواق شهودية وأسرار ربوبية لا يفهمها إلا أربابها وإفشاؤها لمن لا يفهمها ولا يعلمها جهل بقدرها فهي أمانات عند من يفهم عن الله ويجب كتمانها عن غير أهلها ولا يحل ذكرها لغير المتأهلين لها قال تعالى:"ولا تأتوا السفهاء أموالكم" [النساء: 5] فكتم الأسرار من شأن الأخيار وهتك حرمات الأسرار حال الأشرار أهلِ النار والعار فقد قال الروذابادي: "علمنا هذا إشارة فإذا صار عبارة خفي" وقال الإمام الغزالي: "قد تضر الحقائق بأقوام كما يتضرر الجُعَل بالورد والمسك".
وكما تقدم فهذا العلم لا يغاير العلم الشرعي الظاهر الذي يلزم المكلف في أمر دينه عبادة ومعاملة لأنه ضياء ونور وهداية ورشد بل هو ثمرته وحكمته ولبه وجوهره حيث يشرق ويتجلى على قلب العبد ويسطع عليه عند انحسار وانقشاع سحائب الحجب الظلمانية الكثيفة قال تعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)[الإسراء: 36] فهو مطلوب لذاته لأنه يتوصل به إلى سعادة الدنيا والآخرة ويُنال بقدر الرزق لا بقدر الجهد مع عدم الغنى عن المجاهدة لأن المجاهدة مفتاح الهداية لا مفتاح لها سواها. قال تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين"[العنكبوت: 69]. ومن هنا كان سبيل العلم الشرعي العام هو الدرس والنظر العقلي ووسيلته الأبصار، وسبيل علم الحقائق الخاص ارتفاع الريب وحصول اليقين ووسيلته البصائر، ولأجل ذلك سمي هذا الأخير علم القلوب لأن القلب هو موضع المعرفة، وعلم الحقائق للدلالة على أن صاحبه يجد الحقائق الإيمانية التوحيدية، وعلم المكاشفة والأسرار وهي أسرار إلهية وأنوار ومعارفُ ربانية باطنية تنكشف للسالك إلى الله انكشافا وتنقدح له انقداحا إلى غير ذلك من التسميات والألقاب الكثيرة التي اصطلح عليها كعلم الأخلاق وعلم الأحوال وعلم السلوك فكلها إذن تصب في قالب أو بوتقة أحوال النفس السالكة والتغلب على الحس والشهوات؛ ومعناها في جملتها فيضان هذا العلم على العبد من حضرة القدس امتنانا محضا واختصاصا واجتباء (قل إن الفضل بيد الله يوتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) [آل عمران: 74] (الله يجتبي إليه من يشاء) [الشورى: 13] وقد نوه الله تعالى بشأنه في قولـه: "يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" [البقرة: 269]، وقال في مقابله:(وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) [الإسراء: 85] فالحكمة نور في القلب تدرك به الأشياء كما هي عليه يعطيها الحكيم الكريم لمن شاء من عباده وقد جعل بابها مفتوحا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فقال: "والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم"[البقرة: 247] وهي ضالة المؤمن يأخذها ممن سمعها ولا يبالي من أي وعاء خرجت. والحكمة: مصدر من الإحكام الذي هو الإتقان في القول أو الفعل، وهي عبارة عن العلم بأسرار الأشياء وحقائقهما وارتباط الأسباب بمسبباتها واختلف في تحديدها فقيل: الحكمة العلم والعمل، وقيل المعرفة والأمانة، وقيل الكشف والفراسة؛ والحكمة: منها الحكمة الجامعة وهي معرفة علم الحقيقة ومنها الحكمة المنطوقة وهي ما ينتفع به السامع، ومنها الحكمة المسكوتة وهي ما يَدِق عن العوام فهمه، ومنها الحكمة المجهولة وهي ما خفي عن العباد وجهه. قال الله تعالى: (وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكان فضل الله عليك عظيما)[النساء: 113]. وقال: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمُ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 151].وقال: (وَلَقَدَ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَن اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [لقمان: 12]. وقال في حق يوسف عليه السلام: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ءاتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 22]. وقال في وصف داود عليه السلام: (وَءاتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ)[البقرة: 251]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: "اللهم علمه الحكمة" [رواه البخاري]، والفرق بين الحكمة والعلم: أن العلم حده الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، والحكمة هي تمكن حقيقة العلم بالمعلوم.
بيد أن علم الحكمة حيث هو ينقسم إلى قسمين:
1.علم بالله : وهو علم الحكمة البـاطـنة في القلب لأنه علم أحوال القلب وأخلاق النفس وينقسم إلى: مذموم وإلى محمود.
2. علم بأحكام الله : وهو علم الشرائع المتعلق بالأحكام الظاهرة وهو ينقسم إلى عبادات ومعاملات وعادات، يقول ابن جزي في القوانين الفقهية: ويتفرع من الكتاب والسنة علمان أصول الدين وفروع الفقه وينخرط التصوف في سلك الفقه لأنه في الحقيقة فقه الباطن كما أن الفقه أحكام الظاهر.
فالأول إذا طريقه الثاني لأن متعلقه معرفة الله من خلال دوائر أسمائه وصفاته وذاته، والثاني ثمرته الأول لأن متعلقه معرفة الحلال والحرام وكلاهما لا بد منه للعبد بطبيعة الحال.
وأيضا منه ما هو اكتسابي ومنه ما هو إلهامي وهذا الأخير منه ينقسم إلى: العلم لله، وإلى العلم بالله.
- فالعلم لله يتعلق بعلم المعاملة والسلوك والأحوال والمقامات وحقيقة النظر في تصفية القلب من الأدناس والأرجاس حتى يستنير بسواطع الأنوار والأسرار فتتهذب نفسه من الرذائل والعيوب والنقائص والقبائح التي ذمها الشرع فيتطهر ظاهرا وباطنا من الأوساخ الحسية والمعنوية فيتخلى عن العلائق الجسمانية ويتحلى بالفضائل الروحية فيتصف بالأخلاق الرحمانية تحقيقا لقوله تعالى: (قد أفلح من زكاها) [الشمس: 9] وبالصيانة والطهارة من تلك الأمراض الباطنة الفتاكة التي تصيب النفس والقلب معا ولا تنفك عنهما إلا بالتخلي والتحلي تتلاشى وتضمحل الشواهد والعوائد والعلائق والعوارض وكل ما يتعلق بذلك من أوهام وأعواض وأغراض وأغيار فتزول الأسوار وتُشرِق الأنوار فيتطهر العبد من جنابة الغفلة ويستحق الوصول فهناك يكون التجلي ويحصل العلم لله.
- أما العلم بالله فهو علم الحقائق والتجليات الإلهية وهو إلهام رباني يتحصل عند تزكية النفس ومجاهدتها في ردها عن غيها وجلاء البصيرة وتصفيتها، وبه تحصل المعرفة الحقيقية وتتجلى المعاني الربانية السامية فتنكشف الأستار عن عالم الأنوار فتبدو الحقائق منطبقة في نفس العبد مترائية في مرآة قلبه.
وإذا فالعلم لله صاحبه مريد مقرّب والعلم بالله صاحبه مراد محبوب، فالأول ينظر بنور الله والثاني ينظر بالله لأنه انقطع بالكلية عما سواه، والأول مخلص بكسر اللام بمعنى أنه تجرّد عن إرادته في عبادته لربه، والثاني مخلص بفتح اللام بمعنى أن الله اصطفاه واجتباه فحفظ الله ظاهره من المخالفات والمعاصي وسائر الذنوب وطهر باطنه من الوساوس والهواجس بحيث قام بتوفية حقوق الحق والخلق جميعا، والأول مجرِّد، والثاني مفرِّد، لأن التجريد هو تجريد القلب عن كل وصف ذميم وتحليته بكل وصف كريم إذ لا حجاب سوى الصور الكونية المنطبعة على القلب، أما التفريد فهو بالحقائق لأن ما بعد إماطة الحجب عن القلب والسر إلا الوقوف مع الحق، فالتجريد إذا هو إسقاط التدبير مع الله بانقطاعك عما سواه والتفريد غيبتك عن رؤية كل ما سواه، وبالتالي فالتفريد إفراد الله تعالى بالعبادة والتوحيد بحيث يكون العبد بحال العبودية لا بحال نفسه فيتجرد عن الأغيار والأغراض والحظوظ العاجلة والآجلة فيما يفعله ويقوم به بل يؤدي عبادة ربه حسب جهده عبودية وانقيادا ويرى ذلك منة إلهية عليه فيبقى مع الله ولله وبالله وفي الله.
وقيل: هناك تجريد الظاهر وهناك تجريد الباطن فتجريد الظاهر هو ترك كل ما يشغل الجوارح عن طاعة الله، وتجريد الباطن هو ترك العلائق النفسانية والعوائق الوهمية، أو ترك العلائق النفسانية والعوائق الوهمية، أو ترك كل ما يشغل القلب عن الحضور مع الله. وعليه فيكون تجريدهما معا هو إفراد القلب والقالب لله تعالى.
وبالتالي فهذا العلم بنوعيه هو المسمى علم التصوف وهو طب القلوب والأرواح المتوصل به إلى حياة أبدية تدوم أبد الآباد وهو فرض عين باعتباره علم الإخلاص وآفات النفوس وتمييز لمة الملك من لمة الشيطان ونحو ذلك، ولا تأثير للشيطان على أهله الحقيقيين لأن الله أمّنهم منه بالحفظ كما قال جل ذكره: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) [الحجر: 42] وقال حكاية عن الشيطان نفسه: (لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلَصين) [الحجر: 40]، وهو غاية العمل بالعلم الشرعي الظاهر لأنه زبدته المقصودة منه، وذلك أن العبد إذا حافظ على آداب الشريعة وامتثل واجتنب استضاء قلبه لا محالة بأنوار الإيمان وحقائق التوحيد والعرفان فليس بالتقشف والزهد المفرط ينال تقويم الإرادة وإنما بالصبر على الأوامر والثبات في اليقين قال تعالى:( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدين) [الأنبياء: 73]. وقد نص أئمة الصوفية على أنه لا يحكم بالحقيقة ظاهرا لأنها علم خاص باطني تخلقي اتصافي، والأنبياء والأولياء فيه ليسوا سواء فمن الأنبياء من بعثه الله ليحكم بالشريعة فقط ويعمل بها ولم يؤذن لـه أن يحكم بالحقيقة ولا أن يعمل بها وإن علمها، والولي التابع للنبي إذا اطلع على حقيقة ما لا يجوز له أن ينفذها بمقتضى الحقيقة وإنما عليه أن ينفذ الحكم الظاهر فقط. ومن حكمه صلى الله عليه وسلم بالحقيقة ما أخرجه الطبراني في معجمه عن زيد ابن ثابت قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هذا الأعرابي سرق هذا البعير فرَغَا البعيرُ ساعة وأنصَتَ لـه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال للرجل "انصرف عنه فإن البعير شهد عليك أنك كاذب" وفي مستدرك الحاكم من حديث ابن عمر قال: "شُكِيَ أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سرق ناقة فقالت الناقة من خلف الباب والذي بعثك بالكرامة إن هذا ما سرقني ولا ملكني أحد سواه".