آخر الأخبار

جاري التحميل ...

العلم النافع

إن غاية العلم النافع الذي يكوِّن كُنه علم التصوف هي تزيين العبد بالزهد والتقوى والإحسان، ومن كان علمه على هذا النحو، صار علمه عندها معرفة، وصار صاحبه عارفًا.

ويقول مولانا جلال الدين الرومي: «إن العلماء الذين يقتصرون على الظاهر فقط يعلمون دقائق وتفاصيل الهندسة، والفلك، والطب، والفلسفة، كل حسب مجاله، لكن علمهم هذا ما هو إلا علم بهذه الحياة الفانية التي تُزال بطرفة عين، وهو علم لا يُري الإنسانَ طريق المعراج الذي يتجاوز السماء السابعة».
«ولا يمكن للغافلين الذين تحكمهم أنفسهم أن يعلموا الطريق إلى الله تعالى، ولا المنازل في هذا الطريق، ولا يمكن إلا للعارفين من أهل القلوب أن يعرفوا علوم الطريق إلى الله سبحانه، ليس بعقولهم بل بقلوبهم».


فإذا ما اختلط العلم بالقلب، ونضج فيه، أدرك حقيقة الوجود وسره الأعظم، وحكمته الإلهية، وكان في وصال مع الحق سبحانه. وتنعَّم صاحبه بالتجليات والفيوضات الربانية، وسرى نورُ العلم من أذنيه وعقله إلى قلبه وسلوكه وروحه، فتحول العلم من صورة إلى سيرة، ومن فضول إلى فضيلة، ومن أوراق إلى أخلاق، ومن سطور وزبور إلى نور.
يقول الله تعالى في الآية الكريمة: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه، 114)
وهذه الزيادة هي التي ترفع من منزلة العبد في التقوى والخشية، فالله -عز وجل- يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر، 28)
ويقول نبينا الكريم -صلي الله عليه وسلم-: «إنَّ أتقاكم وأعلمكم بالله أنا» (البخاري، الإيمان، 13؛ الأدب، 72)

وعن يزيد بن سلمة الجعفي -رضي الله عنه- قال، قال يزيد بن سلمة:يا رسول الله، إني قد سمعت منك حديثًا كثيرًا أخاف أن ينسيني أولَه آخرُه، فحدثني بكلمة تكون جماعًا، قال: «اتقِ الله فيما تعلم» (الترمذي، العلم، 19/2683)
وقد لخص النبي -صلي الله عليه وسلم- بهذه الكلمات غاية العلم ووضح طريقه الأمثل.
ويخاطب الإمام الغزالي قدس اللهُ سرَّه أولئك المشغولين بالعلوم الدنيوية المحضة، والذين يقضون عمرهم في «القيل والقال» متناسين ربهم -عز وجل-، قائلًا:
«يا بني، عارٌ عليك، إن لم يوصلك الكلام، والمنطق، والبلاغة، والشعر، والصرف، والنحو، وما شابهها من العلوم إلى العرفان، ماذا جنيت في عمرك الذي وهبك إياه الله -جل جلاله- لكي تعبده فيه سوى أنك ضيَّعته؟!»

إذًا، ما فائدة العلم الذي لا ينفع في إيصال العبد إلى الجنة، والنظر إلى جمال الله تعالى، لا بل يوصله إلى الخسران؟ وهل من الممكن أن نطلق اسم علم على العلوم التي تجعل من الإنسان شبيهًا بإبليس، وبلعم بن باعوراء، وقارون، وأولئك الذين «أضلهم الله على علم»، فكان العلمُ سببَ ضلالهم وهلاكهم، فلم يملأهم العلم نورًا؛ بل حشاهم غرورًا، حتى تطاول المخلوق الحقير على الخالق العزيز سبحانه، فأورثهم العلم جهلاً وحمقًا وهلاكًا، ولم يعطهم نورًا وهداية.

ويقول علماء الإسلام في ذلك:«العلم هو الإدراك، ودون الإدراك لا يتحقق العلم، ومنتهى الإدراك هو معرفة الله -عز وجل-، وبهذا تكون معرفة الله تعالى جوهر العلوم كلها، وبدرجة الاقتراب من هذه المعرفة تزداد قيمة هذه العلوم».
ويقول مولانا جلال الدين الرومي:
«الإنسان البارع المتعلم إنسان جيد، لكن خذ العبرة مما حصل مع إبليس ولا تعطه قيمة كبيرة، لأن إبليس أيضًا كان لديه علم، فقد رأى خلق آدم من التراب، ورأى وجهه الخارجي، لكنه لم يرَ حقيقته».
«إن أكثر أهل الجنة هم أهل القلوب الصافية، والإيمان المحض، وكم أضل العقلُ أهلَ العلم، وكم ضلت أفهام أهل العقل، وكم زلت أقدام الفلاسفة، فَانجُ بنفسك أيها الإنسان من هذا التيه، وتخلص من هذه الأرزاء، واحظَ بتنزلات رحمات ربك في كل حين».
فالطريق إلى الحقيقة لا يكون بالعقل وحده، فالعقل سبيله تحليل ألغاز الكون، وكشف أسرار الخلق، وتتوقف مهمته وقدراته عند مجرد الكشف عن وجود هذه الأسرار، والوقوف على عتبة الاندهاش والتعجب، والاستسلام عند نقطة التسبيح بقدرة الخالق سبحانه أما تجاوز هذه العتبات، والولوج إلى باب الأسرار، وكشف الأستار، فإنه بالإيمان والعشق.

فالعقل الذي تربى على منهاج الوحي الأمين بالقرآن والسنة، يوصلك إلى منتصف الطريق في الوصول إلى السر، ثم يأتي دور القلب ليكمل لك الطريق في كشف السر، وإدراك الحكمة من وراء الخلق.
وهذا العقل مجرد باب يمكنك فقط استخدامه لينفتح لك على عالم الحقائق والأسرار، لأنه مجرد درجة ترتقي بها في الدين إلى الدرجات الظاهرية الأولى.
أما الدخول إلى عالم الأسرار، والارتقاء في درجات الكمال، والوصول إلى «العرفان» فيكون بالعشق، كما قال مولانا جلال الدين الرومي في اجتياز هذه المراحل:«اجعل العقل قربانًا أمام المصطفى -صلي الله عليه وسلم-»

فعندما تنتهي طاقة العقل، لا تستطيع إكمال المسيرة وبلوغ الغاية إلا بطاقة القلب، بالمدد الإلهي عبر الفيوضات والوجد، لتصل إلى الله الحق.
وهذا هو طريق الأولياء، الذين عبروا بحر الوجود بالحب، واجتازوا إلى عالم الأسرار بالوجد، وتعالوا على دنيا الفناء والخراب بنشوة الإيمان، واحتضنتهم حالة الاستغراق والتفكر بنشوة العشق.
فأولياء الله تعالى هم الذين ورثوا مهمة الأنبياء واضطلعوا بأعباء مهمة الرسالة، وواصلوا طريق المرسلين في هداية البشرية، وتربية النفوس، وتزكية الأخلاق، وتلك هي الغاية الأساسية التي أرادوها، والتي وصلت بهم إلى ذروة عالم الروحانية.
وليست كل أحوال الأولياء كرامات، إنما هي علمٌ صار عرفانًا، وإيمانٌ ملأ القلبَ والروحَ فصار بصيرة ترى التجليات الإلهية في كل أرجاء الكون، عبر العشق الإلهي الذي تشربته خلايا قلوبهم.

ويرى أولياء الله تعالى هذا العالم في إطار تجليات القدرة الإلهية، وبالبصيرة التي كانت نتيجة العشق الإلهي، ويطَّلعون على أسرار وحقائق الإنسان والحياة والكون.
فإذا انحرف العلم عن مساره، وضل عن طريقه، ولم يتخذ سبيله في ينبوعه القلبي؛ صار في القلب شوكة لا وردة، وفي العقل ضلالاً وليس هدى، ولم يبصر عجائب المخلوقات والآيات التي يزخر بها الكون.
إن طعم الحياة يصير أكثر لذة وأعظم متعة لمن يفهم لغة الرياح والجبال والأنهار، ويتعلم من فنون الزهور والأشجار والطيور وحتى الوحوش والكواسر، ويحس بالفن الإلهي المبثوث في كل أرجاء الدنيا، فمن لم يدرك ذلك كله، أو شيئًا منه، فهو علامة على فراغ القلب وانعدام نضجه.
إنَّ الكون معرِضٌ للتجليات التي تفيض من ينبوع الأسماء الإلهية، والإنسان هذا السر الغامض، ما هو إلا تجلٍ كاملٌ للأسماء الإلهية، فمن يرد الوصول إلى الكمال في الدنيا، عليه أن يكون صاحب قلب يحمل أحاسيس سامية.
وجسم الإنسان الذي هو جُمَّاع لكل معجزات الخلق والكون، وأنموذج متفرد للدلالة على عظمة الخالق، عندما يقف أمامه الطبيب العالم، وينظر إليه من هذه الزاوية، زاوية الإبداع الإلهي، سيرى فيه كنزًا ضخمًا من كنوز الأسرار الربانية، عندها يدرك بالعلم النافع والنضج القلبي مقدار القدرة الإلهية، فينظر إلى مريضه بعين الشفقة والرحمة، لا بعين الكيمياء والعمل الروتيني.
فما بالنا بقلب المؤمن وروحه، وما بالنا بصاحب العلم الباطني، كيف يكون إدراكه لهذه العظمة. أما إذا لم يصل الإنسان إلى هذا الإدراك، ولم يبلغ ذاك الأفق، فقد سقط في هاوية من النقص والعجز لا يجبرها شيء من المناصب العلمية والدنيوية، فأي قيمة دنيوية يمكن قياسها بالنضح القلبي والكمال الأخلاقي.
ونفهم من كل ما سبق أن طريق العلم النافع يحتاج إلى التخلِّي والتحلِّي، التخلي عن خصال سلبية تصيب القلب والنفس مثل الرياء والتكبر والطمع والفخر وحب الرئاسة وغير ذلك….
والتحلي بملء القلب بالصفات الإيمانية التي تحيي الروح بالخلق المحمدي العظيم كالتقوى والخشوع والرحمة والصبر والشكر والتواضع والقناعة والزهد والورع والتوكل على الله تعالى.
فإذا تحقق تطهير القلب وتزكية النفس، وتحققت سلامة الاعتقاد وصلاح العلم والعمل، حينها يصل السلوك بالعبد إلى الكشف والوجد، فينال الفيوضات الإلهية، وحينها يصل العلم إلى درجة «العلم النافع»، ثم يصير معرفة بالله تعالى.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية