يقول سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه:
الطريق طريقان طريق خاصَّة وطريق عامة وأعني بالخاصَّة المحبوبين الذين هم أبدال الأنبياء.
فأما طريق الخاصة فهو طريق علوي تضمحلُّ العقول في أقل القليل من شرحها ولكن عليك بمعرفة طريق العامة وهو طريق الترقِّي من منزل إلى منزل إلى أن ينتهي إلى منزل هو مقعد صدق عند مليكٍ مقتدر.
فأول منزل يطؤه المحب للترقي منه إلى العليّ هو النفس فيشتغل بسياستها ورياضتها إلى أن ينتهي إلى معرفتها فإذا عرفها وتحقق بها فهنالك تُشْرق عليه أنوار الثاني وهو القلب فيشتغل بسياسته ومعرفته فإذا صحَّ له ذلك ولم يبق عليه منه شيء رُقَّي إلى المنزل الثالث وهوالروح.
فإذا تمت له المعرفة به هَبَّت عليه أنوار اليقين شيئًا فشيئًا حتى إذا آنست بصيرته بترادف الأنوار عليها برز اليقين عليه [بروزًا] لا يعقل فيه شيئًا مما تقدم له من أمر المنازل الثلاثة فهناك يهيم ما شاء الله ثم يمدُّه الله بنور العقل الأصلي في أنوار اليقين فيشهد موجودًا لا حدَّ له ولا غاية بالإضافة إلى هذا العبد وتضمحلُّ جميعُ الكائنات فيه فتارة يشهدها فيه كما يشهد الينابيب في الهواء بواسطة الشمس فإذا انحرف نور الشمس عن الكُوَّة فلا يشهد للينابيب أثرًا فالشمس التي يبصر بها هو العقل الضروري بعد المادة بنور اليقين.
فإذا اضمحلَّ هذا النور ذهبت الكائنات كلها وبقي هذا الموجود فتارة يفنى وتارة يبقى حتى إذا أريد له الكمال نودي منه نداءً خفيًّا لا صوت له فيُمد بالفهم عنهم إلا أن الذي تشهده غير الله ليس من الله في شيء فهناك ينتبه من سكرته فيقول أي ربِّ أغثني فإني هالك فيعلم يقينًا أن هذا البحر لا ينجيه منه إلا الله.
فحينئذ يقال له إن هذا الموجود هو العقل الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما خلق الله العقل وفي خبر آخر قال له أقبل فأقبل الحديث فأُعطي هذا العبد الذل والانقياد لنور هذا الموجود إذ لا يقدر على حَدِّه وغايته فعَجَز عن معرفته.
فقيل له هيهات لا تعرفه بغيره فأمدَّه الله عز وجل بنور أسمائه فقطع ذلك كلمح البصر أو كما شاء الله نرفع درجاتٍ من نشاء فأمدَّه الله بنور الروح الرباني فعرف به هذا الموجود فرُقِّي إلى ميدان الروح الرباني فذهب جميع ما تحلَّى به هذا العبد تخلَّى عنه بالضرورة وبقي كلا شيء موجود ثم أحياه الله بنور صفاته فأدرجه بهذه الحياة في معرفة هذا الموجود الرباني.
فلما استنشق من مبادئ صفاته كاد يقول هو الله فلحقته العناية الأزلية فنادته ألا إن هذا الموجود هو الذي لا يجوز لأحدٍ أن يصفه ولا أن يعبِّر عن شيء من صفاته لغير أهله لكن بنور غيره يعرفه فأمده الله بنور سرّ الروح فإذا هو قاعد على باب ميدان السرِّ فنظر فعرف أوصاف الروح الرباني بنور السر فرفع هِمَّته ليعرف هذا السر فعَمِي عن إدراكه فتلاشت جميع أوصافه كأنه ليس بشيء ثم أمدَّه الله بنور ذاته فأحياه به حياة باقية لا غاية لها فنظر جميع المعلومات بنور هذه الحياة فصار أصل الموجودات نوره شائع في كل شيء لا يُشهد غيره.
فنودي من قريب لا تغتر بالله فإن المحجوب من حُجِب بالله إذ محال أن يحجب غيره فحي بحياة استودعها الله فيه فقال أي ربِّ بك منك إليك أقِل عثرتي فإني أعوذ بك منك حتى لا أرى غيرك.
فهذه سبيل الترقِّي إلى حضرة العليِّ الأعلى وهي طريق المحبين أبدال الأنبياء والذي يُعْطَى أحدهم من بعد هذا لا يقدر أحد أن يصف منه ذَرَّة.
قال وأما الطريق المخصوص بالمحبوبين فهو منه إليه إذ محال أن يتوصل إليه بغيره.
فأول قدم لهم بلا قدم أن ألقى إليهم من نور ذاته فغَيَّبهم بين عباده وحبَّب إليهم الخلوات وصغَّر الأعمال الصالحات وعظَّم عندهم رب الأرض والسموات فبينا هم كذلك إذ ألبسهم ثوب العدم فنظروا فإذا هُمْ بلا هَمّ.
ثم أردف عليهم ظلمةً غيبتهم عن نظرهم بل صار عدمًا لا علة له فانطمست جميع العلل وزال كل حادث فلا حادث ولا وجُود بل ليس إلا العدم الذي لا علة له وما لا علة له فلا معرفة تتعلق به.
اضمحلَّت المعلومات وزالت المرسومات زوالاً لا علة فيه وبقي من أشير إليه لا وصفَ له ولا صفةَ ولا ذات فاضمحلَّت النعوتُ والأسماءُ والصفات فلا اسم ولا صفة ولا ذات فهناك ظهر من لم يَزَلْ ظهورًا لا علَّةَ له بل ظهر بسِرِّه لذاته في ذاته ظهورًا لا أوليَّةَ له بل نظر من ذاته لذاته بذاته في ذاته فحَيِيَ هذا العبد بظهوره حياةً لا علة لها فظهر بأوصافٍ جميلة كلُّها لا علة لها فصار أولاً في الظاهر فلا ظاهر قبله فوجدت الأشياء بأوصافه فظهر بنوره في نوره.