آخر الأخبار

جاري التحميل ...

تفسير قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }

{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}

يقول ابن عجيبة: هذه الأوصاف تتضمن ثلاثة أعمال، الأول: عمل قلبي وهو الإيمان، والثاني: عمل بدني، وهو الصلاة، والثالث: عمل مالي، وهو الإنفاق في سبيل الله، وهذه الأعمال هي أساس التقوى التي تدور عليها.
أما العمل القلبي: فهو الإيمان أولاً، والمعرفة ثانياً، فما دام العبد محجوباً بشهود نفسه، محصوراً في الأكوان وفي هيكل ذاته فهو مؤمن بالغيب، يؤمن بوجود الحق تعالى، وبما أخبر به من أمور الغيب، يستدل بوجود أثره عليه، فإذا فني عن نفسه وتلطفت دائرة حسه، وخرجت فكرته عن دائرة الأكوان، أفضى إلى الشهود والعيان، فصار الغيب عنده شهادة، والملك ملكوتاً، والمستقبل حالاً، والآتي واقعاً.
وإنما اقتصر الحق تعالى على الإيمان بالغيب لأنه هو المكلف به؛ إذ هو الذي يطيقه جلّ العباد، بخلاف المعرفة الخاصة فلا يطيقها إلا الخصوص، والله تعالى أعلم.
وأما العمل البدني: فهو إقامة الصلاة، والمراد بإقامتها إتقان شروطها وأركانها وخشوعها، وحفظ السر فيها، قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: (كل موضع ذكر فيه المصلّون في معرض المدح فإنما جاء لمن أقام الصلاة، إما بلفظ الإقامة، وإما بمعنى يرجع إليها.

{ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ } يراقِبون اوقاتَ الصّلاة لاستنشاقِ نفحات الصفات واقامة الصلاة حفظ أداب العبوديّة في جناب الربوبيّة بنعت الافتقار الى مشاهَدة الملك الجبار لان في الصّلاة قرّة عيون العارفين ومناجاة المحبين ومشاهدة الحق للشائقين.
وأما العمل المالي فهو الإنفاق في سبيل الله واجباً أو مندوباً، وهو من أفضل القربات، يقول الله - تبارك وتعالى: " يا ابنَ آدم أنفِقْ، أنفقْ عليك " ، وفي حديث آخر: " أنفِقْ ولا تخَفْ مِنْ ذي العرشِ إقْلالاً ".
يقول ابن عربي في تفسيره: { الذين يُؤمنونَ بالغَيبِ ويقيمُونَ الصلاةَ } أي: بما غاب عنهم الإيمان التقليديّ، أو التحقيقيّ العلميّ، فإنّ الإيمان قسمان: تقليديّ وتحقيقيّ. والتحقيقيّ قسمان: استدلالي وكشفيّ، وكلاهما إمّا واقف على حدّ العلم والغيب، وإما غير واقف. والأول هو الإيقان المسمّى علم اليقين. والثاني: إمّا عيني، وهو المشاهدة المسمى عين اليقين، وإما حقيّ، وهو الشهود الذاتي المسمّى حق اليقين. والقسمان الأخيران لا يدخلان تحت الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب يستلزم الأعمال القلبية التي هي التزكية، وهي تطهير القلب عن الميل إلى السعادات البدنية الخارجية، الشاغلة عن إحراز السعادة الباقية. فإن السعادات ثلاث: قلبية، وبدنية، وما حول البدن. فالقلبية هي المعارف، والحكم، والكمالات العلمية والعملية الخلقية. والبدنية هي الصحة والقوّة واللّذات الجسمانية والشهوات الطبيعية. وما حول البدن هي الأموال والأسباب.

يقول ابن عجيبة : يا من غرق في بحر الذات وتيار الصفات { ذلك الكتاب } الذي تسمع من أنوار ملكوتنا، وأسرار جبروتنا { لا ريب فيه } أنه من عندنا، فلا تسمعه من غيرها،{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ } [القيامة: 18]، فهو هاد لشهود ذاتنا، ومرشد للوصول إلى حضرتنا، لمن اتقى شهود غيرِنا، وغرق في بحر وحدتنا، الذي يؤمن بغيب غيبنا، وأسرار جبروتنا، التي لا تحيط بها العلوم، ولا تسمو إلى نهايتها الأفكار والفهوم، الذي جمع بين مشاهدة الربوبية، والقيام بوظائف العبودية، إظهاراً لسر الحكمة بعد التحقق بشهود القدرة، فهو على صلاته دائم، وقلبه في غيب الملكوت هائم، ينفق مما رزقه الله من أسرار العلوم ومخازن الفهوم، فهو دائماً ينفق من سعة علمه وأنوار فيضه، فلا جرم أنه على بينة من ربه.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية