يَقُولُ العَبْدُ الفَقِيرُ إِلَى مَوْلَاهُ الغَنِيُّ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ أحمَد بن محمد بن عَجِيبَة الحَسَنِى لَطَفَ اللهُ بهِ وحَبَاه، وَبِحَضْرَتِهِ اجْتَبَاه.
إنَّ أَوْلَى مَا عَقَدَ عليه الجِنان ونَطقتْ به أَلْسِنَةُ الفَصَاحةِ والَبَيان، وخَطَّتْ بهِ أقلامُ البَنانِ، حَمْدُ الفَتَّاحُ العَليمِ الكَريمِ المَنَّانِ، الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي مَلأَ قُلوبَ أَوليائِهِ بِمَحَبَّتِهِ، واخْتصَّ أَرْواحَهُمْ بِشُهودِ عَظَمَتِهِ، وَهَيَّأَ أسرارَهُم لِحَملِ أعْباءَ مَعرفَتِهِ، فَقُلوبُهُم في رَوْضاتِ جَنَّاتِ مَعرفتهِ يُحْبَرُونَ، وأَرواحُهُم في رِياضِ مَلَكوتِهِ يَتَنَزَّهُونَ، وأسرارُهُم في بِحَارِ جَبَروتِهِ يُسَبِّحون، فاسْتَخْرَجتْ أفكاَرُهُم يَواقيتَ العُلومِ، ونَطَقََتْ أَلْسِنَتُهُم بِجَواهِرِ الحِكَمِ ونَتائِجِ الفُهُومِ، فَسُبْحَانَ مَنِ اصْطَفَاهُمْ لِحَضْرَتِهِ، واخْتَصَّهُمْ بِمَحَبَّتِهِ، فَهُمْ بَيْنَ سَالِكٍ ومَجْذُوب، وَمُحِبٍّ وَمَحْبُوب، أَفْنَاهُم فِي مَحَبَّةِ ذَاتِهِ، وأبَْفَاهُمْ بِشُهودِ آثارٍ صِفَاتِهِ، والصَّلاَةُ والسَّلامُ علَى سيِّدِنَا مُحمَّد مَنْبَعُ العُلُومِ وَالأَنْوارِ، وَمَعْدِنُ المَعارِفِ وَالأَسْرَارِ، ورَضِيَ اللهُ تَعَالى عَلَى أَصْحَابِهِ الأَبْرَارِ، وأَهلِ بَيْتِهِ الأَطْهَارِ.
أمَّا بعدَ كُلُّ شَيءٍ وقبلَهُ ومَعَهُ، فعِلْمُ التَّصَوُّفِ مِن أجَلِّ العُلومِ قَدْرًا، وأعَظَمُها مَحَلاً وفََخْراً، وأسْناها شَمساً وبَدراً، وكَيفَ لا وهُوَ لُبَابُ الشَّريعةِ، ومِنهاجُ الطَّريقَةِ، ومِنْهُ تَشْرُقُ أنوارُ الحَقيقَةِ، وكانَ أعظمُ ما صُنِّفَ فيهِ الحِكَمُ العًطائيَّةِ، التي هي مَواهِبٌ لَدُنِيَّة، وأسرارٌ ربَّانِيَّة، ولَقَدْ سَمِعْتُ شَيْخُ شَيْخِنَا مَولَاي العَرْبِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ : "ولقد سَمِعْتُُ الفقيه البناني يقول : كادَتْ حِكَمُ ابْنُ عَطَاءِ اللهِ أَنْ تَكُونَ وَحْيًا، وَلَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ تَجُوزُ بِغَيْرِ القُرْآنِ لَجَازَتْ بِكَلامِ الحِكَمِ"، أو كما قالَ.
ولَقَد طَلَبَ مِنِّي شَيخَنَا العارِفُ الواصِلُ المُحَقِّقُ الكامِلُ سَيِّدِي مُحمد البُوزيدي الحَسَني، أن أَضَعَ عليها شَرْحاً مَتَوَسِّطاً يَبَيِّنُ المَعْنى ويُحَقِّقُ المَبْنى، مُعَتَمِداً في ذلك على حَوْلِ اللهِ وقُوَّتِهِ، وَما يَفْتَحِ اللهَ بِهِ مِنْ خزائن عِلمِهِ وحِكْمَتِهِ، أو ما كانَ مُناسِبًاً لتلك الحِكمةِ من كَلامِ القَوْم، فأجَبْتُ طَلْبَتَهُ وأَسْعَفْتُ رَغْبتَهُ، رجاءً أن يقع به الإمتاع ويعم به الانتفاع، وما توفيقيَ إلا بالله عليه، توكلت وإليه أُنيبُ، وسَمَّيْتُهُ "إيقاظُ الهِمَمِ فِي شَرْحِ الحِكَمِ"، جَعَلَهُ الله خالصا لوجهه العظيم بجاه نبينا المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولِنُقَدِّمْ بَيْنَ يَدَيْ الكِتابِ مُقَدِّمَتَينِ، إِحْداهُمَا في حَدِّ التَّصَوُّفِ ومَوضوعِهِ وواضِعِهِ، واسْمِهِ واسْتِمْدادِهِ، وحُكْمُ الشَّارِعِ فِيهِ، وتَصَوُّرِ مَسائِلِهِ وفَضِيلَتِهِ، ونِسْبَتِهِ وَثَمْرَتِهِ، والمقدمة الثانية في ترجمة الشيخ وذِكْرِ محاسِنِه.
أمَّا حَدُّهُ، فَقالَ الجُنَيْدُ: "هُوَ أَنْ يُمِيتَكَ الحَقُّ عَنْكَ ويُحْيِيكَ بِِهِ"، وقالَ أيضاً: "أَنْ تَكُونَ مَعَ اللهِ بِلاَ عَلاقَة"، وقِيلَ: "الدُّخُولُ فِي كُلِّ خُلُقٍ سَنِيٍّ وَالخُرُوجُ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ دَنِيٍّ"، وقِيلَ : "التصوف مبني على ثلاث خصال، التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التدبير والاختيار"، وقيلَ: "الأَخذُ بِالحَقائِقِ والإِيَاسُ مِمَّا فِي أَيْدِى الخَلَائِق"، وقِيلَ: "ذِكْرٌ مَعَ اجْتِماعٍ، وَوُجْدٍ مَعَ اسْتِماعٍ، وعَمَلٍ مَعَ اتِّبَاعٍ"، وقِيلَ: "الإِنَاخَةُ عَلَى بَابِ الحَبِيبِ وَإِنْ طَرَِد"، وَقِيلَ : "صَفْوَةُُ القُرْبِ بعدَ كُدُورَةِ البُعد".وقِيلَ: "الجُلُوسُ مَعَ اللهِ بِلَا هَمٍّ"، وقيل : "هو العِصْمَة عن رُؤيَةِ الكَوْنِ" والصُّوفي الصَّادِقُ علامتُه أنْ يَفْتَقِرَ بَعْدَ الغِنَى، وَيُذَلُّ بَعْدَ العِزِّ، ويَخْفَى بَعْدَ الشُّهْرَةِ، وعَلامَةُ الصُّوفي الكَاذِبُ أنْ يَسْتَغْنِيَ بَعْدَ الفَقْرِ، وَيُعَزُّ بعد الذُّلِّ، ويَشْتَهِرُ بعدَ الخَفَاءِ" قاله أبو حمزة البغدادي. وقال الحسن بن منصور : "الصوفي وحداني الذات لا يقبله أحَدٌ ولا يقبل أحَداً"، وقيلَ : "الصوفي كالأرض يطرح عليه كلُّ قبيح ولا يخرج منه إلا كلُّ مليح، ويطؤُهُ البَرُّ والفاجِرُ"، وقالوا : "مِن أقبحِ كلِّ قَبِيحٍ صُوفِيٌ شَحِيح "، وقالَ الشَّبْلِيُّ: "الصُّوفِي مُنْقَطِعٌ عَنِ الخلْقِ، مُتَّصِلٌ بِالحَقِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي"، ثم قال أيضا : "الصوفية أطفال في حِجْرِ الحَقّ"، وقيل : "الصوفي لا تُقِلُّهُ الأَرْضُ ولا تُظِلُّهُ السَّمَاءُ" يعني لا يحصره الكون. وقال الشيخُ زَرُّوق رَضِيَ الله عنه : "قد حُدَّ التصوفُ ورَسِمَ وفُسِّرَ بِوُجُوهٍ تَبْلُغُ نحو الألفين، ترجع كلها لِصِدْقِ التَّوَجُّه إلَى اللهِ تَعالَى، وإنَّما هِيَ وُجُوهٌ فِيه. واللهُ أعْلََمْ.
ثم قال : "والاخْتِلافُ في الحَقِيقَةِ الواحِدَةِ إن كَثُرَ، دَلَّ على بُعْدِ إدراك جُمْلَتِها، ثم هو إن رجَعَ لأَصْلٍ واحِدٍ، يَتَضَمَّن جُمْلَةً ما قيل فيها كانت العبارة عنه بحَسَبِ ما فُهِمَ منه، وَجُمْلَة الأقوال واقعة على تفاصيلِه، واعتبارُ كُلُّ واحِدٍ على حَسَبِ مِثَالِهِ عِلْماً وعَمَلاً وحَالاً وَذَوْقاً وغَيْرُ ذَلِكَ.
والاختلافُ في التصوف مِنْ ذلك، فمن أجل ذلك أَلْحَق الحافظ أبو نَعيم رحمه الله بغالب أهل حِلْيَتِهِ عند تحلية كل شخص قولاً من أقوالهم يناسب حاله قائلاً، وقيل أن التصوف كذا، فاقتضى أنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ صِدْقِ التوجه، له نَصيبٌ من التصَوُّفِ، وأنَّ تَصَوُّفَ كُلُّ أَحَدٍ صِدْقَ تَوَجُّهِهِ، فافْهَمْ".
وقال أيضاً : قاعدة صدق التوجه مشروط بكونه من حيث يرضاه الحق تعالى وبما يرضاه، ولا يصِحُّ مشروط بدون شرطه ، "وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ" فلَزِِمَ تحقيق الإيمان، "وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ" فلَزِمَ العمل بالإسلام فلا تَصَوُّف إلّا بفِقهٍ، إذ لا تُعرَفُ أحكام الله تعالى الظاهرة إلا مِنْهُ، ولا فِقْهَ إلّا بِتَصََوُّف، إذ لا عَمَل إلّا بصِِدْقِ تَوَجُّهٍ، ولا هُمَا إلا بإيمان، إذ لا يَصِحُّ واحد منهما بدونه، فَلَزِمَ الجَمْع لِتَلازُمِهِمَا في الحُكم كَتَلَازُمِ الأرْواحِ للأجْسادِ، ومنه قَوْلُ مالِكٍ رحمه الله: "مَنْ تَصَوَّفَ ولَمْ يَتَفَقَّهْ فَقَدْ تَزَنْدَقَ، ومَنْ تَفَقَّهَ وَلم يَتَصَوَّفْ فَقد تَفَسَّقَ، ومَنْ جَمعَ بينهما فقد تَحَقَّقَ".
وأمَّا موضوعُهُ : فهو الذات العَليَّة لأنه يبحثُ عنها باعتِبَارِ معرفَتِها إِمَّا بِالبُرْهَانِ أَو بِالشُّهودِ والعِيان، فالأوَّل للطالبين، والثاني للواصلين، وقيلَ موضوعُهُ النُّفوس والقلوب والأرواح، لأنه يبحث عن تَصفيَتِها وتهذيبها وهو قريب من الأول، لأن من عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّه، وأما واضِعُ هذا العلم فهو النبي صلى اللهُ عليه وسلم، علَّمهُ الله لهُ بالوَحْيِ والإلهامِ، فنزَل جِبريلُ عليه السلام أولاً بالشريعة، فلمَّا تقرَّرَت نزَلَ ثانياً بالحقيقَةِ، فَخَصَّ بها بعضاً دونَ بعض، وأوَّل مَن تكلَّم فيه وأظهره سيدنا عَلِي كرَّمَ اللهُ وجهه، وأخذَهُ عنه الحسن البصْري وأمه اسمها "خيرة" مولاة لأم سلمة زوج النبي صلى اللهُ عليه وسلم، وأبوه مولى زيد بن ثابت، توفي الحسن سنة عشر ومائة، وأخذََهُ عن الحسن حبيب العجمي، وأخذَهُ عن حبيب أبو سليمان داوود الطائي، توفي سنة ستين ومائة، وأخذََهُ عن داوود أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي رضي الله عنه، وأخذََهُ عن معروف الكرخي أبو الحسن سرِّي بن مُغَلَّس السَّقَطي توفي سنة إحدى وخمسين ومائة، وأخذَهُ عن السِّرِّي إمام هذه الطريقة، ومظهر أعلام الحقيقة، أبو القاسم محمد بن الجُنَيد الخزار، أصله من نَهاوند ومنشؤه العراق، تفقهَ على أبي ثور وصحب الشافعي فكان يفتي على مذهب أبي ثور، ثم صَحِب خاله السِّرِّي وأبا الحارث المحاسبي وغيرهما، وكلامه وحقائقه مدون في الكتب، توفي رضي الله عنه سنة سبع وتسعين ومائتين وقبره ببغداد مشهور يُزار، ثم انتشر التصوف في أصحابه وهَلُمَّ جرًّا، ولا ينقطع حتى ينقطع الدين.
ومن رواية أخرى، أخذَه عن سَيِّدنا علي رضي الله عنه أول الأقطاب سيدنا الحسن ولده، ثم عنه أبو محمد جابر، ثم القطب سعيد الغزواني، ثم القطب فتح السعود، ثم القطب سعد، ثم القطب سعيد، ثم القطب سيدي أحمد المرواني، ثم إبراهيم البصري، ثم زين الدين القزويني، ثم القطب شمس الدين، ثم القطب تاج الدين، ثم القطب نور الدين أبو الحسن، ثم القطب فخر الدين، ثم القطب تقي الدين الفقير بالتصغير فيهما، ثم القطب سيِّدي عبد الرحمن المدني، ثم القطب الكبير مولاى عبد السلام بن مَشِيشٍ، ثم القطب الشهير أبو الحسن الشاذلي، ثم خليفته أبو العباس المُرْسِى، ثم العارف الكبير سيدي أحمد بن عطاء الله، ثم العارف الكبير سيدي داوود الباخلي، ثم العارف سيدي محمد بحر الصفا، ثم العارف ولده سيدي على ابن وفا، ثم الولي الشهير سيِّدي يحيى القادري، ثم الولي الشهير سيِّدي أحمد بن عقبه الحضرمي، ثم الولي الكبير سيِّدي أحمد زَرُّوق، ثم سيدي ابرهيم أفحام، ثم سيِّدي على الصنهاجي المشهور بالدوار، ثم العارف الكبير سيِّدي عبد الرحمن المجذوب، ثم الولي الشهير سَيِّدي يوسف الفاسي، ثم العارف سيِّدي عبد الرحمن الفاسي، ثم العارف سيِّدي محمد بن عبد الله، ثم العارف سَيِّدي قاسم الخصاصي، ثم العارف سيِّدي أحمد بن عبد الله، ثم العارف سيِّدي العربي بن عبد الله، ثم العارف الكبير سيِّدي على بن عبد الرحمن العمراني الحسني، ثم العارف الشهير شيخ المشايخ سيِّدي ومولاي العربي الدرقاوي الحَسَني، ثم العارف الكامل المحقق الواصل شيخنا سيِّدي محمد بن أحمد البوزيدي الحَسَني، ثم عبد ربه وأقل عبيده، أحمد ابن محمد بن عجيبة الحَسَني، ثم عنه خلق كثير والمنة لله العلي الكبير.
وأمَّا اسمه فهو علم التصوُّف، واختُلف في اشْتِقَاقه على أقوال كثيرة ومرجعها إلى خمس :
الأول: قول من قال: من (الصوفة) لأنه مع الله كالصوفة المطروحة لا تدبير له.
الثاني: أنه من (صوفة القَفَا) للينها والصوفي هين لين كهي.
الثالث: أنه من (الصفة)، إذ جملته إتصاف بالمحاسن وترك الأوصاف المذمومة.
الرابع: أنه من الصفاء، وصَحَّ هذا القول حتى قال أبو الفتح البستني رحمه الله تعالى :
تخالفَ الناس في الصوفي واختلفوا *** جَهْلًا وظنُّوا أَنَّهُ البعض مُشْتَقٌّ من الصُّوفْ
ولستُ أمنحُ هذا الاسم إلّا فَتَى *** صَافَهُ فصوفي حتى سُمِّيَ الصوفي
الخامس: أنه منقول من صُفَّةِ المسجد النبوي الذي كان منْزِلاً لأهل الصُّفَّةِ، لأن الصوفي تابع لهم فيما أثبت الله لهم من الوصف حيث قال : "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ" وهو الأصل الذي يرجع إليه كل قول فيه. قاله الشيخ زَرُّوق رضي اللهُ عنه.
وأمَّا استمداده فهو مستمد من الكتاب والسنة، وإلهامات الصالحين وفتوحات العارفين، وقد أدخلوا فيه شيْئًا من علم الفقه لِمَسِّ الحاجة إليه في علم التصوف، حررها الغزالي في الإحياء في أربعة كتب، كتاب العبادات، وكتاب العادات، وكتاب المهلكات، وكتاب المُنجيات، وهو فيه كمال لا شرط إلا ما لا بد منه في باب العبادات. والله تعالى أعلم.
وأمَّا حُكْمُ الشارع فيه فقال الغزالي : "إنه فرض عين إذْ لا يخلو أحد من عيب أو مرض إلا الأنبياء عليهم السلام" وقال الشاذلي: "من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر"، وحيث كان فرض عين يجب السفر إلى من يأخذه عنه إذا عُرفَ بالتربية واشتُهِرَ الدواء على يديه، وإن خالف والديه حسبما نص عليه غير واحد كالبلالي والسنوسي وغيرهما، قال الشيخ السنوسي : "النفس إذا غلبت كالعدو إذا فجأ تجب مجاهدتها والاستعانة عليها، وإن خالف الوالدين كما في العدو أذا برز" قاله في شرح الجزيري، وما أحسن قول القائل :
أُخاطِرُ فِي مَحَبَّتِكُمْ بِرُوحِي .... وأَرْكَبُ بَحْرَكُمْ إمَّا وإمَّا
وأَسْلُكُ كُلَّ فَجٍّ فِي هَوَاكُمُ ..... وأَشْرَبُ كَأْسَكُمْ لَوْ كَاَنَ سُماً
ولا أَصْغِي إلى مَنْ قَدْ نَهَانِي ... ولي أذْنٌ عنِ العُـذَّال صَـمَّـا
أُخاطِرُ بِخَواطِرٍ فِي هَوَاكُمُ .... وأَتْرُكُ فِي رِضَاكُمْ أبًا وأُمّا
وأمَّا تَصَوُّرِ مَسائلِه فهي معرفة اصطلاحاته والكلمات التي تتداول بين القوم كالإخلاص والصدق، والتوكل والزهد، والورع والرضى، والتسليم والمحبة، والفناء والبقاء، وكَالذَّاتِ والصفا، والقدرة والحكمة، والروحانية والبشرية، وكمعرفة حقيقة الحال والوارد والمقام وغير ذلك، وقد ذكر القشيري في أول رسالته جملة شافية، وقد كُنْتُ جَمَعْتُُ كِتَاباً فيه مائة حقيقة من حقائق التصوف، سَمَّيْتُهُ : "مِعراج التشوف، إلى حقائق التصوف" فَلْيُطَالعه من أراده ليستعين به على فهم كلام القوم.
وأمَّا فَضِيلَتُهُ فقد تقدَّم أن موضوعه الذات العالية وهي أفضل على الإطلاق، فالعلم الذي يتعلق بها أفضل على الإطلاق إذ هو دالٌّ بأوله على خشية الله، وبأوسطه على معاملته، وبِآخِرِه على معرفته والانقطاع إليه. ولذلك قال الجُنَيْد: "لو نعلَمُ أن تَحْتَ أَدِيمِ السَّماءِ أشْرَفُ مِنْ هَذا العِلْمِ الَّذِي نَتَكَلَّمُ فِيهِ مَعَ أَصْحَابِنَا لَسَعَيْتُ إِلَيْهِ"، وقال الشيخ الصقلي رحمه الله تعالى في كتابه المسمى بأنوار القلوب في علم الموهوب، قال : "وَكُلُّ مَنْ صَدَّقَ بِهَذَا العِلْمِ فَهُوَ مِنَ الخَاَّصَّة، وَكُلُّ مَنْ فََهِمَه فَهُوَ مِنْ خَاصَّةِ الخَاصَّة، وكُلُّ مَنْ عَبَّرَ عَنْهُ وتَكَلَّمَ فِيهِ فَهُوَ النَّجْمُ الَّذِي لَا يُدْرَك والبَحْرُ الَّذِي لَا يَنْزَف" وقَالَ آخر : "إذَا رَأَيْتَ مَنْ فُتِحَ لَهُ فِي التَّصْدِيقِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَة فَبَشِّرْهُ، وإِذا رَأَيْتَ مَنْ فُتِحَ لَهُ فِي الفَهْمِ فِيهِ فاغْتَبِطْهُ، وإذَا رَأَيْتَ مَنْ فُتِحَ لَهُ فِي النُّطْقِ فِيِه فَعَظِّمْهُ، وَإذَا رَأَيْتَ مُنْتَقِدًا عَلَيْهِ فَفِرْ مِنْهُ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ واهْجُرْهُ" ومَا من عِلْمٍ إلَّا وَقَدْ يَقَعُ الاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ فِي وَقْتٍ مَا، إلَّا عِلْمُ التَّصَوُّفِ فَلَا يَسْتَغْني عَنهُ أَحَدٌ فِي وَقْتٍ مَنَ الأَوْقَات.
وأَمَّا نِسبَتُهُ من العُلوم فهو كُلِّيٌ لها، وشرطٌ فيها، إذ لا علم ولا عمل إلَّا بصدق التوجه إلى اللِه تعالى، فالإخلاص شرط في الجميع هذا باعتبار الصِّحَّة الشرعية والجزاء والثواب، وأمَّا باعتبار الوجود الخارجي، فالعلوم توجد في الخارج بدون التصوف، لكنها ناقصة أو ساقطة، ولذلك قال السَّيُوطي : "نسبة التصوف من العلوم كعلم البيان مع النحو" يعني هو كمال فيها ومُحَسِّنٌ لها، وقال الشيخ زَرُّوق رضي الله عنه : " نسبة التصوف من الدين نسبة الروح من الجسد، لأنه مقام الإحسان الذي فسره رسول اللهُ صلى الله عليه وسلم لجبريل "أن تعبد اللهَ كأنك تراه" الحديث، اذ لا معنى له سوى ذلك، إذ مدارُهُ على مراقبة بعد مشاهدة، أو مشاهدة بعد مراقبة، وإِلّا لمْ يَقُمْ له وجود، ولم يظهر موجود، فافهم" ولعله أراد بالمراقبة بعد المشاهدة الرجوع للبقاء بشهود الأثر.
وأَمَّا فائدته فتهذيب القلوب ومعرفة علَّام الغيوب، أو تقول ثمرته سخاوة النفوس وسلامة الصدور وحسن الخُلُقِ مع كل مخلوق.
واعْلَمْ أَنَّ هذا العلم الذي ذكرنا ليس هو الَّلقلقة باللسان، وإنما هو أذواق ووجدان، ولا يؤخذ من الأوراق وإنما يؤخذ من أهل الأذواق، وليس يُنالُ بالقِيلِ والقال، وإنما يؤخذ من خدمة الرجال وصحبة أهل الكمال، واللهُ ما أفلحَ من أفلح إلا بصحبة من أفلح، وبالله التوفيق.