جعل الله سبحانه الطمأنينة في قلوب المؤمنين ونفوسهم ، وجعل الغبطة والمدحة والبشارة بدخول الجنة لأهل الطمأنينة وفي قوله تعالى :" ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك..."دليل على أنها لا ترجع إليه إلا إذا كانت مطمئنة.
الطمأنينة : سكون يقويه أمن صحيح ، شبيه بالعيان .
وهي على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى : طمأنينة القلب بذكر الله .
الدرجة الثانية : طمأنينة الروح في القصد إلى الكشف ، وفي الشوق إلى العدة . وفي التفرقة إلى الجمع .
طمأنينة الروح أن تطمئن في حال قصدها . ولا تلتفت إلى ما وراءها .
والمراد بالكشف : كشف الحقيقة ، لا الكشف الجزئي السفلي . وهو ثلاث درجات .
كشف عن الطريق الموصل إلى المطلوب . وهو الكشف عن حقائق الإيمان . وشرائع الإسلام .
وكشف عن المطلوب المقصود بالسير : وهو معرفة الأسماء والصفات . ونوعي التوحيد وتفاصيله.ومراعاة ذلك حق رعايته.
وليس وراء ذلك إلا الدعاوى والشطح والغرور .وقوله : وفي الشوق إلى العدة .
يعني أن الروح تظهر في اشتياقها إلى ما وعدت به ، وشوقت إليه ، فطمأنينتها بتلك العدة : تسكن عنها لهيب اشتياقها . وهذا شأن كل مشتاق إلى محبوب وعد بحصوله إنما يحصل لروحه الطمأنينة بسكونها إلى وعد اللقاء .وعلمها بحصول الموعود به.
قوله : وفي التفرقة إلى الجمع أي وتطمئن الروح في حال تفرقتها إلى ما اعتادته من الجمع ، بأن توافيها روحه فتسكن إليه وتطمئن به ، كما يطمئن الجائع الشديد الجوع إلى ما عنده من الطعام . ويسكن إليه قلبه . وهذا إنما يكون لمن أشرف على الجمع من وراء حجاب رقيق . وشام برقه . فاطمأن بحصوله . وأما من بينه وبينه الحجب الكثيفة: فلا يطمئن به .
الدرجة الثالثة : طمأنينة شهود الحضرة إلى اللطف . وطمأنينة الجمع إلى البقاء . وطمأنينة المقام إلى نور الأزل .
هذه الدرجة الثالثة تتعلق بالفناء والبقاء ، فالواصل إلى شهود الحضرة : مطمئن إلى لطف الله . وحضرة الجمع يريدون بها الشهود الذاتي .
فإن الشهود عندهم مراتب بحسب تعلقه . فشهود الأفعال : أول مراتب الشهود . ثم فوقه: شهود الأسماء والصفات . ثم فوقه : شهود الذات الجامعة إلى الأفعال والأسماء والصفات . والتجلي عند القوم : بحسب هذه الشهود الثلاثة .
فأصحاب تجلي الأفعال : مشهدهم توحيد الربوبية . وأصحاب تجلي الأسماء والصفات: مشهدهم توحيد الإلهية : وأصحاب تجلي الذات : يغنيهم به عنهم .
وقد يعرض لبعضهم بحسب قوة الوارد وضعف المحل عجز عن القيام والحركة . فربما عطل بعض الفروض ، وهذا له حكم أمثاله من أهل العجز والتفريط ، والكاملون منهم قد يفترون في تلك الحال عن الأعمال الشاقة . ويقتصرون على الفرائض وسننها وحقوقها . ولا يقعد بهم ذلك الشهود والتجلي عنها . ولا يؤثرون عليه شيئا من النوافل والحركات التي لم تعرض عليهم ألبتة . وذلك في طريقهم رجوع وانقطاع .
وأكمل من هؤلاء : من يصحبه ذلك في حال حركاته ونوافله . فلا يعطل ذرة من أوراده. والله سبحانه قد فاوت بين قوى القلوب أشد من تفاوت قوى الأبدان . وفي كل شيء له آية . وصاحب هذا المقام آية من آيات الله لأولي الألباب والبصائر .
والمقصود : أنه لولا طمأنينته إلى لطف الله لمحقه شهود الحضرة وأفناه جملة . فقد خر موسى صعقا لما تجلى ربه للجبل . وتدكدك الجبل وساخ في الأرض من تجليه سبحانه هذا ولا يتوهم متوهم أن الحاصل في الدنيا للبشر كذلك ، ولا قريب منه أبدا . وإنما هي المعارف ، واستيلاء مقام الإحسان على القلب فقط .
وأما طمأنينة الجمع إلى البقاء فمشهد شريف فاضل . وهو مشهد الكمل . فإن حضرة الجمع تعفي الآثار ، وتمحو الأغيار . وتحول بين الشاهد وبين رؤية القلب للخلق . فيرى الحق سبحانه وحده قائما بذاته . ويرى كل شيء قائما به ، متوحدا في كثرة أسمائه وأفعاله وصفاته . ولا يرى معه غيره ولا يشهده عكس حال من يشهد غيره . وليس الشأن في هذا الشهود ، فإن صاحبه في مقام الفناء . فإن لم ينتقل منه إلى مقام البقاء وإلا انقطع انقطاعا كليا . ففي هذا المقام : إن لم يطمئن إلى حصول البقاء وإلا عطل الأمر . وخلع ربقة العبودية من عنقه . فإذا اطمأن إلى البقاء طمأنينة من يعلم أنه لا بد له منه ، وإن لم يصحبه وإلا فسد وهلك - كان هذا من طمأنينة الجمع إلى البقاء . والله أعلم .
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين