آخر الأخبار

جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم(5)

و لما كان الانهماك في التدبير و الاختيار يدل على انطماس البصيرة و تركهما و فعلهما باللّه يدل على فتح البصيرة، ذكر علامة أخرى أظهر و أشهر منهما على فتح البصيرة أو طمسها فقال:


5 - اجتهادُكَ فيما ضَمِنَ لكَ، وتقصيرُكَ فيما طَلَبَ منكَ دليلٌ على انْطماسِ البصيرةِ منْكَ.


قلت: الاجتهاد في الشي‌ء استفراغ الجُهْدِ و الطاقة في طلبه، والتقصير هو التفريط والتضييع، و البصيرة ناظر القلب كما أن البصر ناظر القالب، فالبصيرة لا ترى إلا المعاني و البصر لا يرى إلا المحسوسات، أو تقول البصيرة لا ترى إلا اللطيف، و البصر لا يرى إلا الكثيف، أو تقول البصيرة لا ترى إلا القديم و البصر لا يرى إلا الحادث، أو تقول البصيرة لا ترى إلا المُكون، و البصر لا يرى إلا الكون، فإذا أراد اللّه فتح بصيرة العبد أشغله في الظاهر بخدمته و في الباطن بمحبته، فكلما عظمت المحبة في الباطن و الخدمة في الظاهر قوي نور البصيرة حتى يستولي على البصر، فيغيب نور البصر في نور البصيرة فلا يرى إلا ما تراه البصيرة من المعاني اللطيفة و الأنوار القديمة و هذا معنى قول شيخ شيوخنا المجذوب:


غيّبت نظري في نظر

و أفنيت عن كل فاني‌

حقّقت ما وجدت غير

و أمسيت في الحال هاني‌


     و إذا أراد اللّه خذلان عبده أشغله في الظاهر بخدمة الأكوان و في الباطن بمحبتها، فلا يزال كذلك حتى ينطمس نور بصيرته فيستولي نور بصره على نور بصيرته فلا يرى إلا الحس و لا يخدم إلا الحس، فيجتهد في طلب ما هو مضمون من الرزق المقسوم و يقصر فيما هو مطلوب منه من الفرض المحتوم و لو كان بدل الاجتهاد استغراق، و بدل التقصير تركا، لكن بدل الطمس عمي و هو الكفر و العياذ باللّه، لأن الدنيا كنهر طالوت لا ينجو منها إلا من لم يشرب أو اغترف غرفة بيده لا من شرب على قدر عطشه فافهم قاله الشيخ زروق رضي اللّه تعالى عنه. و قال الشيخ أبو الحسن رضي اللّه تعالى عنه: البصيرة كالبصر أدنى شي‌ء يقع فيه يمنع النظر، و إن لم ينته إلى العمى، فالخطرة من الشي‌ء تشوش النظر، و تكدر الفكر و الإرادة له تذهب بالخير رأسا، و العمل به يذهب عن صاحبه سهما من الإسلام فيما هو فيه و يأتي بضده، فإذا استمر على الشر تفلت منه الإسلام، فإذا انتهى إلى الوقيعة في الأمة و موالاة الظلمة حبّا في الجاه و المنزلة و حبّا للدنيا على الآخرة فقد تفلت منه الإسلام كله، و لا يغرنك ما توسم به ظاهرا فإنه لا روح له، إذ الإسلام حبّ اللّه و حبّ الصالحين من عباده، انتهى. 

     و لما كان الاجتهاد في المضمون كله مذموم كان بالفعل كما تقدم أو بالقول و هو الاستعجال في تحصيله قبل إبانه بالدعاء أو بغيره أشار إلى ذلك بقوله:


6 - لا يَكُنْ تأَخُّرُ أَمَدِ العَطاءِ مَعَ الإلْحاحِ في الدُّعاءِ مُوْجِباً لِيأْسِكَ. فَهُوَ ضَمِنَ لَكَ الإِجابةَ فيما يَخْتارُهُ لَكَ لا فيما تَخْتارُهُ لِنَفْسِكَ. وَفي الوَقْتِ الَّذي يُريدُ لا فِي الوَقْتِ الَّذي تُرْيدُ.


قلت: الإلحاح في الشي‌ء هو تكرره من وجه واحد، و الدعاء: طلب مصحوب بأدب في بساط العبودية لجناب الربوبية، و الموجب للشي‌ء ما كان أصلا في وجوده، و اليأس قطع المطامع. اعلم أن من أسمائه تعالى القيوم و هو مبالغة في القيام فقد قام تعالى بأمر خلقه من عرشه إلى فرشه و عين لكل مظهر وقتا محدودا و أجلا معلوما و لكل واحد شكلا معلوما و رزقا مقسوما فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ‌ [الأعراف: 34]، فإذا تعلق قلبك بحاجة من حوائج الدنيا و الآخرة فارجع إلى وعد اللّه و اقنع بعلم اللّه و لا تحرص ففي الحرص تعب و مذلة. قال شيخ شيخنا مولاي العربي رضي اللّه تعالى عنه:

"الناس تقضي حوائجهم بالحرص فيها و الجري عليها و نحن تقضي حوائجنا بالزهد فيها و الاشتغال باللّه عنها" انتهى.

و إن كان و لا بد من الدعاء فليكن دعاؤك عبودية لا طلبا للحظ فإن تركت الحظوظ صبت عليك الحظوظ و إن غلب عليك وارد الطلب و طلبت شيئا ثم تأخر عنك وقت العطاء فيه فلا تتهم اللّه في وعده حيث قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ‌ [غافر: 60]، و لا تيأس من نواله و رفده فإن اللّه قد ضمن لك الإجابة فيما يريد من خير الدنيا و خير الآخرة، و قد يمنعك لطفا بك لكون ذلك المطلب لا يليق بك كما قال الشيخ أبو الحسن: اللهم إنا قد عجزنا عن دفع الضر عن أنفسنا من حيث نعلم بما نعلم فكيف لا نعجز عن ذلك من حيث لا نعلم بما لا نعلم. و قد قال بعض المفسرين: في قوله تعالى: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص: 68]، ما موصولة أي و يختار الأمر الذي لهم فيه خيرتهم، و قد يكون أجابك و عين لذلك وقتا هو أصلح لك، و أنفع فيعطيك ذلك في الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد و قد يؤخر لك ذلك لدار الكرامة و البقاء و هو خير لك و أبقى. و في الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم: «ما من داع إلا و هو بين إحدى ثلاث: إما أن تعجل‌ له طلبته، و إما أن يدخر له ثوابها، و إما أن يصرف عنه من السوء مثلها» الحديث. و قال الشيخ عبد العزيز المهدوي رضي اللّه تعالى عنه: من لم يكن في دعائه تاركا لاختياره راضيا باختيار الحق تعالى له فهو مستدرج ممن قيل له:

«اقضوا حاجته فإني أكره أن أسمع صوته»، فإن كان مع اختيار الحق تعالى لا مع اختياره لنفسه كان مجابا و إن لم يعط و الأعمال بخواتهما انتهى. 

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية