وأَمَّا ترجمة الشيخ : فهو الشيخ الإمام تاج الدين، وترجمان العارِفِين، أبو الفضل أحمد بن محمد، بن عبد الكريم، بن عبد الرحمان، بن عبد الله، بن أحمد، بن عيسى، بن الحسين، بن عطاء الله، الجذامي نَسَباً، المالكي مَذْهَباً، الإسكندري داراً، القِرافي مزاراً، الصوفي حَقِيقََةً، الشاذلي طَرِيقَةً، أعجوبة زمانه، ونخبة عصره وأوانِه، المتوفى في جُمادى الأخيرة سنة تسع بتقديم التاء وسبعمائة، قاله الشيخ زَرُّوقَ.
وقال في «الديباج المُذَهَّب»: كان جامِعًا لأنواع العلوم من تفسير، وحديث، ونحو، وأصول، وفِقْهٍ، وغير ذلك.
كان رَحِمَهُ الله مُتَكَلِّماً على طَريقِ أهل التصوف واعظا، انتفع به خلق كثير وسلكوا طريقه.
قُلْتُ : وقد شَهِدَ له شيخه أبو العباس المرسي بالتقديم، قال في لَطَائِفِ المِنَنِ: قال لي الشيخ الْزَمْ، فَوَاللهِ لَئِنْ لَزِمْتَ لَتَكُونَنَّ مُفْتِياً في المَذْهَبَيْنِ، يريد مَذْهبَ أهلُ الشريعة أهلُ العِلم الظاهر، ومذهب أهل الحقيقة أهل العِلْمِ الباطن.
وقال فيه أَيْضًا : والله لا يموتُ هذا الشاب حتى يكون داعيًا يَدْعُو إلى الله، وقال له أَيْضًا : واللهِ ليَكونَنَّ لَكَ شَأْنٌ عظيمٌ، واللهِ ليَكونَنَّ لَكَ شَأْنٌ عَظيمٌ، قال : فكان بِحَمْدِ اللهِ مَا لا أُنْكِرُه.
وله من التَّؤاليف خمسة : "التنوير في إسقاط التدبير" و"لَطَائِف المِنَن" في مناقب شيخه أبي العباس، وشيخه أبي الحسن، و"تاج العروس ومفتاح الفَلَاح في الذكر وكيفية السلوك" وله أَيْضاً : "القول المجرد في الاسم المفرد" و"الحِكَمِ" الذي أردنا أن نتكلم عليه.
ومضمنه من علوم القوم أربعة : الأول : علم التذكير والوعظ، وقد حاز منه أوفر نصيب وهو لمقام العوام، وتستفاد مواده من كتب ابن الجوزي، وبعض تأليف المحاسبي، وصدور كتب الإحياء والقوت وتحبير القشيري، وما جرى مجراها، والله أعلم.
الثاني : تصفية الأعمال وتصحيحِ الأحوال بتحلية الباطن بالأخلاق المحمودة، وتطهيره من الأوصاف المذمومة، وهذا حظ المتوجهين من الصادقين، والمبتدئين من السالكين، وقد حاز منها جملة صالحة، ومادتها من كتب الغزالي والسهروردي ونحوهما.
الثالث : تحقيق الأحوال والمقامات وأحكام الأذواق والمنازلات، وهو نصيب المستشرفين من المريدين، والمبتدئين من العارفين، وهذا النوع من أكثر ما وقع فيه، ومادته من مثل كتب الحاتمي في المعاملات، والبوني في المنازلات، إلى غير ذلك.
الرابع : المعارف والعلوم الإلهامية، وفيه منها ما لايخفى، لكن كتبه ملئت بشرحها، لا سيما "التنوير" وَ"لَطَائِفِ المِنَنِ" اللذان هما كالشرح لجملة هذا الكتاب.
وبالجملة، فهو جامع لما في كتب الصوفية المُطَوَّلَةِ والمختصرة مع زيادة البيان واختصار الألفاظ، والمسلك الذي سلك فيه مسلك توحيدي لا يسع أَحَداً إنكاره ولا الطعن فيه، ولا يدع للمعتني به صفة حميدة إلا أكسبه إياها، ولا صفة ذميمة إلَّا أزالها عنه بإذن الله، كما قال الشيخ ابن عباد في وصف التنوير، وهما إخوان من أب واحد وأم واحدة، قاله سيدي أحمد زَرُّوق في بعض شروحه.
ولَمَّا كان علم التصوف إنما هو نتائج الأعمال الصحيحة، وثمرات الأحوال الصَّافِيَةِ، " مَنْ عَمِلَ بِما عَلِمَ أَوْرَثَهُ الله عِلْمُ ما لَمْ يَعْلَمْ" بدأ بالكلام على العمل فقال :
"مِنْ عَلامَةِ الاعْتِمادِ عَلى العَمَلِ: نُقْصانُ الرَّجاءِ عِنْدَ وُجودِ الزَّلَلِ".
الاعتماد على الشيء هو الاستناد عليه، والركون إليه، والعمل حركة الجسم أو القلب، فإن تَحَّرَك بما يوافق الشريعة سُمِّيَ طاعة، وإن تَحَرَّكَ بما يخالف الشريعة سُمِّيَ معصية، والأعمالُ عند أهل الفن على ثلاثة أقسام : عملُ الشريعة وعملُ الطريقة وعملُ الحقيقة، أو تقول : عَمَلُ الإسلام وعَمَلُ الإيمان وعَمَلُ الإحسان أو تقول : عَمَلُ العبادة وَعَمَلُ العُبودِيَّة وعَمَلُ العُبُودَة أي الحريَّة، أو تقول عمل أهل البداية وعَمَلُ أهل الوسط وعَمَلُ أهل النهاية، فالشريعةُ أن تعبده، والطريقةُ أن تقصده، والحقيقةُ أن تشهده. أو تقول : الشريعةُ لإصلاح الظواهر، والطريقةُ لإصلاح الضمائر، والحقيقةُ لإصلاح السرائر، أو تقول : الشريعةُ لإصلاح الجوارح من لَوْثِ الهفوات، والطريقةُ لتطهير القلوب من الغفلات، والحقيقةُ لتطهير الأسرار من الفترات.
وإصلاحُ الجوارح بثلاثة أمور بالتوبة، والتقوى، والاستقامة، وإصلاحُ القلوب بثلاثة أمور، بالاخلاص، والصدق، والطمأنينة، وإصلاحُ السرائر بثلاثة أمور، بالمراقبة، والمشاهدة، والمعرفة، أو تقول : إصلاح الظواهر باجتناب النواهي وامتثال الأوامر، وإصلاح الضمائر بالتخلية من الرذائل، والتحلية بأنواع الفضائل، وإصلاح السرائر وهي هنا الأرواح، بِذُلِّهَا وانكسارِها حتى تتهذب وترتاض بالأدب، والتواضع وحُسْنُ الخُلُقِ.
واعلم أن الكلام هنا، إنما هو في الأعمال التي توجب تصفية الجوارح أو القلوب أو الأرواح، وهي ما تَقَدَّمَ تَعِيينُهَا لِكُلِّ قِسْمٍ، وأما العلوم والمعارف فإنما هي ثمرات التصفية والتطهير، فإذا تطهرت الأسرار مُلِئَتْ بالعلوم والمعارف والأنوار، ولا يَصِحُّ الانتقال من مقام إلى مقام حتى يُحَقِّقَ ما قبلهُ، فمَنْ أشرقت بدايته أشرقت نهايته، فلا ينتقل إلى عمل الطريقة حتى يُحَقِّقَ عمل الشريعة وترتاض جوارحه معها بأن يُحَقِّقَ التوبة بشروطها، ويحقق التقوى بأركانها، ويُحَقِّقَ الاستقامة بأقسامها. وهي متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، فإذا تَزَكَّى الظاهر، وتَنَوَّرَ بالشريعة انتقل من عمل الشريعة الظاهرة إلى عمل الطريقة الباطنة، وهي التصفية من أوصاف البشرية، على ما يأتي، فإذا تطهر من أوصاف البشرية تحلى بأوصاف الروحانية، وهي الأدب مع الله في تجلياته، فحينئذ ترتاح الجوارح من التَّعَبِ، وما بَقِيَ إلا حُسْنُ الأدب.
قال بعض المحققين : "من بلغ إلى حقيقة الإسلام لم يقدر أن يفتر عن العمل، ومن بلغ إلى حقيقة الإيمان لم يقدر أن يلتفت إلى العمل بسوى الله، ومن بلغ إلى حقيقة الإحسان لم يقدر أن يلتفت إلى أحد سوى الله".
ولا يعتمد المريد في سلوك هذه المقامات على نفسه، ولا على عمله، ولا على حوله وقوته، وإنما يعتمد على فضل ربه وتوفيقه وهدايته وتسديده، قال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ، مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)، وقال تعالى : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ)
قال صلى الله عليه وسلم: " لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ. قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: لا، ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ". فالاعتماد على النفوس من علامة الشقاء والبؤس، والأعتماد على الأعمال من عدم التحقق بالزوال، والاعتماد على الكرامة والأحوال من عدم صحبة الرجال، والاعتماد على الله من تحقق المعرفة بالله.
وعلامة الاعتماد على الله،أنه لا ينقص رجاؤه إذا وقع في العصيان،ولا يزيد رجاؤه إذا صدر منه إحسان،أو تقول لا يَعْظُمُ خوفه إذا صدرت منه غفلة، كما لا يزيد رجاؤه اذا وقعت منه يقظةً، قد استوى خوفه ورجاؤه على الدوام لأن خوفه ناشئٌ عن شهود الجلال، ورجاؤه ناشئ عن شهود الجمال،وجلال الحق وجماله لا يتغيران بزيادة ولا نقصان، فكذا ما ينشأ عنهما، بخلاف المعتمد على الأعمال إذا قَلَّ عمله قل رجاؤه،وإذا كَثُرَ عمله كَثُرَ رجاؤه لشركه مع ربه وتَحَقُّقِهِ بجهله،ولو فنى عن نفسه،وبقي بربه،لاستراح من تعَبِهِ، وتَحَقَّقَ بمعْرِفَةِ رَبِّهِ.
ولابُدَّ من شيخ كامل يُخْرِجُكَ من تَعَبِ نفسك إلى راحتك بشهود ربك، "فالشيخ الكامل هو الذي يريحك من التعب، لا الذي يَدُلُّكَ على التعب، من دَلَّكَ على العمل فقد أتعبك، ومن دَلَّكَ على الدنيا فقد غَشَّك، ومن دَلَّكَ على الله فقد نصحك" كما قال الشيخ ابن مَشِيش رضي الله عنه.
والدلالة على الله هي الدلالة على نسيان النفس، فإذا نسيتَ نفسك ذَكرتَ ربك، قال تعالى: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ )، أي ما سِوَاهُ، وسبب التعب هو ذكر النفس والاعتناء بشؤنها وحظوظها، وأما من غاب عنها فلا يَلْقَى إلا الراحة، وأما قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)، في تعب، فهو خاص بأهل الحجاب، أو تقول : خاص بأحياء النفوس، وأمّا مَن مات فقد قال تعالى فيه : (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أي روح الوصال، وريحان الجمال، وجَنَّة الكمال. وقال تعالى : (لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) أي تعب، ولكن لا تُدْرَكُ الراحة إلا بعد التعب، ولا يحصل الظفر إلا بالطلب، حُفَّتْ الجَنَّةُ بِالمَكَارِه.
أيها العاشـق معنى حُسنِنا
مَهْرُنَا غاَلٍ لِمَنْ يَــــطْلُبُنَا
جَسَدٌ مُضْنَى وَرُوحٌ فِي العَنَا
وجُفُونٌ لا تَذُوقُ الوَسَـَنا
وفَُــــــؤادٌ لَيْـــسَ فِيـهِ غَـْيـرَنَا
فَإِذَا مَا شِئْتَ أدِّ الـــثَّمَنَا
فَافْنَِ إِنْ شِئْتَ فَنَاءً سَــرْمَداً
فالفنا يُدْنِي إلى ذاكَ الفِنا
وَاخْلَعِ النَّعْلَيْنِ إِنْ جِئْـتَ إلى
ذلك الحَيِّ فَفيهِ قُدْسُنَا
وَعَنِ الكَوْنَيْنِ كُــــنْ مُنْخَـلِعًا
وَأَزِلْ مَا بَيْنَنَا، مِـــنْ بَيْنِنَا
وَاِذَا قِيلَ مَنْ تَهْـَــوى فَقُلْ أَنَا
مَنْ أَهْوَى وَمَنْ أَهْوَى أَنَا
وقال في حل الرموز : "ثم اعلم أنك لا تصل إلى منازل القُرُبات، حتى تقطع ست عقبات :
العقبة الأولى فَطْمُ الجوارح عن المخالفات الشرعية، العقبة الثانية فطم النفس عن المألوفات العادية، العقبة الثالثة فطم القلب عن الرعونات البشرية، العقبة الرابعة فطم النفس عن الكُدُورات الطبيعية، العقبة الخامسة فطم الروح عن البُخُورات الحسية، العقبة السادسة فطم العقل عن الخيالات الوهمية، فتشرف من العقبة الأولى على ينابيع الحكم القلبية، وتَطَّلِعُ من العقبة الثانية على أسرار العلوم اللدنية، وتَلُوحُ لك في العقبة الثالثة أعلام المناجات الملكوتية، ويَلْمَعُ لك في العقبة الرابعة أنوار المنازلات القربية، وتطلع لك في العقبة الخامسة أنوار المشاهدات الحبية، وتهبط من العقبة السادسة على رياض الحضرة القدسية، فهنالك تغيب بما تشاهده من اللطائف الأُنسية، عن الكثائف الحسية.
فإذا أرادك لخصوصيته الإصطفائية، سَقَاك بكأس محبته شربة، فتزداد بتلك الشربة ظمأ، وبالذوق شوقاً، وبالقرب طَلَباً، وبالسُّكْرِ قََلَقاً.
المراد منه تَتْميم أَشْكَلَ على بعض الفضلاء قوله تعالى: "ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" مع قوله صلى الله عليه وسلم : "لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمْ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ"، والجوابُ : أن الكتاب والسنة وَرِدَا بين شريعة وحقيقة، أو تقول بين تشريع وتحقيق، فقد يَشَرِّعَانِ في موضع، ويُحَقِّقَانِ في آخر في ذلك الشيء بعينه، وقد يُحَقِّقانِ في موضع، ويُشَرِّعان فيه في آخَر، وقد يَشَرِّعُ القرآن في موضع وتُحققه السُّنَّة، وقد تُشَرِّعُ السُّنَّة في موضع ويُحَقِّقُهُ القُرْآن.
فالرسول عليه السلام مُبَيِّنٌ لِما أنزل الله، قال تعالى: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" فقوله تعالى: "ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ".
هذا تشريع لأهل الحكمة وهم أهل الشريعة، وقوله صلى الله عليه وسلم:" لَنْ يَدْخُلَ أَحَدَكُمْ الجَنَّةَ بِعَملِهِ" هذا تحقيق لأهل القدرة وهم أهل الحقيقة، كما أنَّ قوله تعالى: " وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ " تحقيق، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَة" تشريع.
والحاصل، أن القُرْآن تُقَيِّدُهُ السُّنَّة، والسُّنَّة يقيدها القُرْآن، فالواجب على الإنسان أن تكون له عينان، إحداهما تنظر إلى الحقيقة والأخرى تنظر إلى الشريعة، فإذا وجد القُرْآن قد شَرَّعَ في موضع فلا بد أن يكون قد حَقَّقَ في موضع آخَر، أو تُحَقِّقُهُ السنة، وإذا وجد السنة قد شَرَّعَت في موضع فلا بد أن تكون قد حَقَّقَتْ في موضِعٍ آخَر، أو حَقَّقَها القرآن، ولا تعارض حينئذ بين الآية والحديث ولا إشكال.
وهنا جواب آخَر وهو أن الله تعالى لما دعا الناس إلى التوحيد والطاعة على أنهم لا يدخلون فيه من غير طمع فوعدهم بالجزاء على العمل، فلما رَسَخَتْ أقدامهم في الإسلام أخرجهم عليه السلام من ذلك الحرف ورقَّاهم إلى إخلاص العبودية، والتحقق بمقام الإخلاص فقال لهم:" لن يدخل أحدكم الجنة بعمله" والله تعالى أعلم.
وهنا أجوبة لأهل الظاهر لا تجدي شيئاً.