لابد من الإشارة بداية إلى أن الدين ثلاث مراتب كما دل على ذلك حديث جبريل عليه السلام، وهي الإسلام والإيمان والإحسان، والمتدين ينتقل ويترقى في مراتب الدين من الإسلام شعيرة، إلى الإيمان عقيدة، إلى الإحسان سلوكا.
وقد بَيَّن الذكر الحكيم بأن الاستسلام والانقياد ظاهراً، ثُم الاكتفاء بأركان الإسلام في التدين (مِن: صلاة، وصيام، وزكاة، وحج) لا يفيد التحقق بالإيمان وذلك في القول المبين: “قَالَت الاَعْرَابُ ءامَنَّا قُلْ لَمْ تُومِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الاِِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ”[الحجرات، 14]؛ ففي هذه الآية جاء الإيمان مقترناً بالإسلام في أسلوب نفي واستدراك، حيث نفى الله عنهم أن تكون حلاوة الإيمان قد باشرت قلوبهم.
قال ابن كثير في تفسيره: “وقد استفيد من هذه الآية الكريمة أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حين سأل عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان، فتَرْقى مِن الأعم إلى الأخص ثم للأخص منه”.
وقال صاحب “التحرير والتنوير” في تفسيره للآية: “وإنما قال «وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا» تعليماً لهم بالفرق بين الإيمان والإسلام فإنَّ الإسلام مَقَرُّهُ اللسان والأعمال البدنية”.
فالدِّين إذاً ليس منحصراً في مقام الإسلام، وليس شيئا رتيبا مستقرا، وإنما هو سَيْرٌ وتنقل قلبي في مراتب ومقامات القرب؛ “وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى”، ولا منتهى في مقامات السَّيْر والقرب من الله عزَّ وجل…
و”مقام الإحسان” أشرف مقام في الدِّين، وعرّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه: “أن تعبد اللهَ كأنك تراه”، وهو ما يليق من الأدب بين يدي الله تعالى قلبا وقالبا؛ ومن ثَمّ فإننا نحتاج في تحقيقه إلى منهج سلوكي وتربوي لا يكفي فيه العمل بأركان الإسلام، ولا يكفي فيه إعمال الفكر في النصوص الشرعية، وإن كان لا شيء من أمر المكلف يخرج عن هذه النصوص، ولكن الفكر وحده إلى جانب عمل الجوارح فحسب لا يستطيعان الوصول إلى الكشف عن أذواقِ الإيمان وشعبه، ولا عن سلامة القلب وأنواره، ولا عن أغوار الروح وجُنْدِيتِه…
وقد اختص الفقهاء ببيان وضبط أحكام العمليات، وقام المتكلمون ببيان علم المعتقدات، واهتم الصوفية ببيان الأدبيات؛ لذلك فعلوم الدين منها ما يتعلق بظاهر العبد وحواسه، من طاعة أو معصية، وهو المسمى في الاصطلاح فقها، ومنها ما يتعلق بباطنه وقلبه، وهو علم المعتقدات، ويسمى إيمانا وتوحيدا، وهناك ما يتعلق بعلم الأدبيات ويسمى تصوفا وإحسانا.
والإحسان هو الإتقان، وتفسيره في الحديث بقوله: “أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، من باب تفسير الشيء بسببه توسُّعا؛ لأن من عمل وهو يشاهد الرقيب أو يعلم أن عليه في عمله رقيبا فإنه لا يدع شيئا من وجوه الأدب والإجادة والإتقان، إلا ويأتي به.
د. إسماعيل راضي