آخر الأخبار

جاري التحميل ...

رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه


وأما رؤيته - صلى الله عليه وسلم - لربه - جل وعز - فاختلف السلف فيها ، فأنكرته عائشة - رضي الله عنها - عن عامر عن مسروق أنه قال لعائشة - رضي الله عنها - يا أم المؤمنين ، هل رأى محمد ربه ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت . ثلاث من حدثك بهن فقد كذب : من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : لا تدركه الأبصار [ الأنعام : 103 ] ، وذكر الحديث . 

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه رآه بعينه . وروى عطاء عنه أنه رآه بقلبه . 
وعن أبي العالية ، عنه : رآه بفؤاده مرتين . 
وذكر ابن إسحاق أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - يسأله : هل رأى محمد ربه ؟ فقال : نعم . 
والأشهر عنه أنه رأى ربه بعينه ، روي ذلك عنه من طرق ، وقال : إن الله - تعالى - اختص موسى بالكلام ، وإبراهيم بالخلة ، ومحمدا بالرؤية ، وحجته قوله - تعالى - : ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى [ النجم : 11 ] . 

قال الماوردي : قيل : إن الله - تعالى - قسم كلامه ، ورؤيته بين موسى ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ، فرآه محمد مرتين ، وكلمه موسى مرتين . 
وروى عبد الله بن الحارث ، قال : اجتمع ابن عباس ، وكعب ، فقال ابن عباس : أما نحن بنو هاشم فنقول : إن محمدا قد رأى ربه مرتين ، فكبر كعب حتى جاوبته الجبال ، وقال : إن الله قسم رؤيته ، وكلامه بين محمد وموسى ، فكلمه موسى ورآه محمد بقلبه. 

وروى شريك عن أبي ذر - رضي الله عنه - في تفسير الآية ، قال : رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه . 
وحكى السمرقندي ، عن محمد بن كعب القرظي ، وربيع بن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : هل رأيت ربك ؟ قال : رأيته بفؤادي ، ولم أره بعيني . 
وروى مالك بن يخامر ، عن معاذ ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : رأيت ربي . . . وذكر كلمة ، فقال : يا محمد ، فيم يختصم الملأ الأعلى الحديث . 
وحكى عبد الرزاق أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه . 
وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة . هل رأى محمد ربه ؟ فقال : نعم . 
وحكى النقاش ، عن أحمد بن حنبل : أنه قال : أنا أقول بحديث ابن عباس بعينه رآه رآه حتى انقطع نفسه يعني نفس أحمد . 
وقال سعيد بن جبير : لا أقول رآه ، ولا لم يره . 
وقد اختلف في تأويل الآية عن ابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، وابن مسعود ، فحكي عن ابن عباس ، وعكرمة : رآه بقلبه . وعن الحسن ، وابن مسعود : رأى جبريل . وحكى عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه ، أنه قال : رآه . 
وعن ابن عطاء في قوله - تعالى - : (ألم نشرح لك صدرك)  [ الشرح : 1 ] قال : شرح صدره للرؤية ، وشرح صدر موسى للكلام . 
وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري - رضي الله عنه - ، وجماعة من أصحابه أنه رأى الله - تعالى - ببصره ، وعيني رأسه ، وقال : كل آية أوتيها نبي من الأنبياء - عليهم السلام - فقد أوتي مثلها نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وخص من بينهم بتفضيل الرؤية . 
ووقف بعض مشايخنا في هذا وقال : ليس عليه دليل واضح ، ولكنه جائز أن يكون . 

قال القاضي أبو الفضل وفقه الله : والحق الذي لا امتراء فيه أن رؤيته - تعالى - في الدنيا جائزة عقلا ، وليس في العقل ما يحيلها . 
والدليل على جوازها في الدنيا سؤال موسى - عليه السلام - لها . ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله ، وما لا يجوز عليه ، بل لم يسأل إلا جائزا غير مستحيل ، ولكن وقوعه ، ومشاهدته من الغيب الذي لا يعلمه إلا من علمه الله ، فقال له الله - تعالى - : (لن تراني) [ الأعراف : 142 ] ، أي لن تطيق ، ولا تحتمل رؤيتي ، ثم ضرب له مثلا مما هو أقوى من بنية موسى ، وأثبت ، وهو الجبل . 
وكل هذا ليس فيه ما يحيل رؤيته في الدنيا ، بل فيه جوازها على الجملة ، وليس في الشرح دليل قاطع على استحالتها ، ولا امتناعها ، إذ كل موجود فرؤيته جائزة غير مستحيلة . 
ولا حجة لمن استدل على منعها بقوله - تعالى - : (لا تدركه الأبصار)  [ الأنعام : 103 ] ، لاختلاف التأويلات في الآية ، وإذ ليس يقتضي قول من قال في الدنيا الاستحالة . 
وقد استدل بعضهم بهذه الآية نفسها على جواز الرؤية ، وعدم استحالتها على الجملة . 
وقد قيل : لا تدركه أبصار الكفار ، وقيل : (لا تدركه الأبصار)  [ الأنعام : 103 ] لا تحيط به ، وهو قول ابن عباس . وقد قيل : لا تدركه الأبصار ، وإنما يدركه المبصرون . 
وكل هذه التأويلات لا تقتضي منع الرؤية ، ولا استحالتها . وكذلك لا حجة لهم بقوله - تعالى - : (لن تراني) [ الأعراف : 142 ] . وقوله : (تبت إليك)  [ الأعراف : 143 ] لما قدمناه ، ولأنها ليست على العموم ، ولأن من قال : معناها : لن تراني في الدنيا إنما هو تأويل . 
وأيضا فليس فيه نص الامتناع ، وإنما جاءت في حق موسى ، وحيث تتطرق التأويلات ، وتتسلط الاحتمالات ، فليس للقطع إليه سبيل . 
وقوله : تبت إليك أي من سؤالي ما لم تقدره لي . 
وقد قال أبو بكر الهذلي في قوله : لن تراني أي ليس لبشر أن يطيق أن ينظر إلي في الدنيا ، وأنه من نظر إلي مات . 
وقد رأيت لبعض السلف ، والمتأخرين ما معناه : أن رؤيته - تعالى - في الدنيا ممتنعة ، لضعف تركيب أهل الدنيا وقواهم وكونها متغيرة غرضا للآفات ، والفناء ، فلم تكن لهم قوة على الرؤية ، فإذا كان في الآخرة ، وركبوا تركيبا آخر ، ورزقوا قوى ثابتة باقية ، وأتم أنوار أبصارهم وقلوبهم قووا بها على الرؤية . 
وقد رأيت نحو هذا لمالك بن أنس - رحمه الله - ، قال : لم ير في الدنيا ، لأنه باق ، ولا يرى الباقي بالفاني ، فإذا كان في الآخرة ، ورزقوا أبصارا باقية رئي الباقي بالباقي . 
وهذا كلام حسن مليح ، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القدرة ، فإذا قوى الله - تعالى - من شاء من عباده ، وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم تمتنع في حقه وقد تقدم ما ذكر في قوة بصر موسى ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ، ونفوذ إدراكها بقوة إلهية منحها لإدراك ما أدركاه ، ورؤية ما رأياه . والله أعلم . 

وقد ذكر القاضي أبو بكر في أثناء أجوبته عن الآيتين ما معناه : إن موسى - عليه السلام - رأى الله ، فلذلك خر صعقا ، وأن الجبل رأى ربه فصار دكا بإدراك خلقه الله له ، واستنبط ذلك ، والله أعلم ، من قوله : (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني)  [ الأعراف : 143 ] . ثم قال : (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا)  [ الأعراف : 143 ] . 
وتجليه للجبل هو ظهوره له حتى رآه على هذا القول . 
وقال جعفر بن محمد : شغله بالجبل حتى تجلى ، ولولا ذلك لمات صعقا بلا إفاقة . 
وقوله هذا يدل على أن موسى رآه . 
وقد وقع لبعض المفسرين في الجبل أنه رآه ، وبرؤية الجبل له استدل من قال برؤية محمد نبينا له ، إذ جعله دليلا على الجواز . ولا مرية في الجواز ، إذ ليس في الآيات نص بالمنع . 
وأما وجوبه لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ، والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه قاطع أيضا ، ولا نص إذ المعول فيه على آيتي [ النجم ] ، والتنازع فيهما مأثور ، والاحتمال لهما ممكن ، ولا أثر قاطع متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك . 
وحديث ابن عباس خبر عن اعتقاده لم يسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيجب العمل باعتقاد مضمنه . 
ومثله حديث أبي ذر في تفسير الآية . 
وحديث معاذ محتمل للتأويل ، وهو مضطرب الإسناد ، والمتن . 
وحديث أبي ذر مختلف محتمل مشكل . فروي : [ نور أنى أراه ] . 
وحكى بعض شيوخنا أنه روي [ نوراني أراه ] . 
وفي حديثه الآخر : سألته ، فقال : [ رأيت نورا ] ، وليس يمكن الاحتجاج بواحد منها على صحة الرؤية ، فإن كان الصحيح رأيت نورا فهو قد أخبر أنه لم ير الله ، وإنما رأى نورا منعه ، وحجبه عن رؤية الله . 
وإلى هذا يرجع قوله : [ نوراني أراه ] أي كيف أراه مع حجاب النور المغشي للبصر ، وهذا مثل باقي الحديث الآخر : حجابه النور . 
وفي الحديث الآخر : لم أره بعيني ، ولكن رأيته بقلبي مرتين ، وتلا : (ثم دنا فتدلى)  [ النجم : 8 ] والله قادر على خلق الإدراك الذي في البصر في القلب ، أو كيف شاء ، لا إله غيره . 
فإن ورد حديث نص بين في الباب اعتقد ووجب المصير إليه ، إذ لا استحالة فيه ، ولا مانع قطعي يرده ، والله الموفق للصواب . 


كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية