{ وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ } * { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ }
قلت: الصبر: هو حبس القلب على حكم الرب، فيحتمل أن يراد به ظاهره، أو يراد به هنا الصوم، لأن فيه الصبر عن الشهوات. والخشوع في الجوارع: سكونها وذُلها،
والخضوع في القلب: انقياده لحكم الرب.
الصبر فطم النفس عن المألوفات، والصلاة التعرُّض لحصول المواصلات، فالصبر يشير إلى هجران الغَيْر، والصلاة تشير إلى دوام الوقوف بحضرة الغيب، وإن الاستعانة بهما لخصلة شديدة إلا على من تجلَّى الحق لِسِرِّه فإِن في الخبر المنقول :" إن الله تعالى إذا تجلَّى لشيءٍ خشع له " وإذا تجلَّى الحق، خَفَّ وسَهُلَ ما توقَّى الخلْق؛ لأن التوالي للطاعات يوجب التكليف بموجب مقاساة الكلفة، والتجلي بالمشاهدات - بحكم التحقيق - يوجب تمام الوصلة ودوام الزلفة .
يقول الحقّ جلّ جلاله: يا مَن ابتلي بالرئاسة والجاه، واستكبر عن الانقياد لأحكام الله؛ التي جاءت بها الرسل من عند الله، استعن على نفسك { بالصبر } على قطع المألوفات، وترك الحظوظ والشهوات، وأصل فروعها حب الرئاسة والجاه، فمن صبر على تركهما فاز برضوان الله .
{ وَٱسْتَعِينُواْ } اطلبوا المعونة على أموركم { بِٱلصَّبْرِ } الحبس للنفس على ما تكره { وٱلصَّلَوٰةِ } أفردها بالذكر تعظيما لشأنها وفي الحديث " كان صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمر بادر إلى الصلاة " وقيل.الخطاب لليهود لمّا عاقهم عن الإيمان الشَّرَهُ وحب الرياسةأمروا بالصبر وهو الصوم لأنه يكسر الشهوة، والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر { وَإِنَّهَا } أي الصلاة { لَكَبِيرَةٌ } ثقيلة { إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ } الساكنين إلى الطاعة.
فقوله تعالى: { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ }. أي مشقة ثقيلة، إلا على الخاشعين. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني المصدقين بما أنزل الله، وقال مجاهد: المؤمنين حقاً، وقال أبو العالية: إلا على الخاشعين الخائفين، وقال مقاتل بن حيان: إلا الخاشعين يعني به المتواضعين. وقال الضحاك: وإنها لكبيرة، قال: إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطوته، المصدقين بوعده ووعيده.
وقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ } هذا من تمام الكلام الذي قبله، أي: وإن الصلاة، أو الوصاة، لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم، أي: يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة، معروضون عليه، وأنهم إليه راجعون، أي: أمورهم راجعة إلى مشيئته، يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء، سهل عليهم فعل الطاعات، وترك المنكرات.
يقول ابن عجيبة: يا من رام الدخول إلى حضرة الله، تذلل وتواضع لأولياء الله، وتجرّع الصبر في ذلك كي يدخلوك حضرة الله، كما قال القائل:
تَذللْ لِمنْ تهْوى؛ فَلَيْسَ الهوَى سَهْلُ
إذا رَضِي المَحْبُوبُ صَحَّ لكَ الوَصْلُ
إذا رَضِي المَحْبُوبُ صَحَّ لكَ الوَصْلُ
فإن منعك من ذلك حب الرئاسة والجاه، فاستعن على ذلك بالصبر والصلاة، فإن الصبر عنوان الظفر، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. فأدمن قرع الباب حتى تدخل مع الأحباب، فالإدمان على عبادة الصلاة أمره كبير، إلا مَن خلص إلى مناجاة العلي الكبير، وتحقق بملاقاة الشهود والعيان، ورجع إلى مولاه في كل أوان، فإن الصلاة حينئذٍ تكون له من قرّة العين. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.