{ وَقُلْنَا يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ } * { فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ } * { فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَٰتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }
يقول الله تعالى إخباراً عما أكرم به آدم، بعد أن أمر الملائكة بالسجود له: فسجدوا إلا إبليس، وأنه أباح له الجنة، يسكن منها حيث يشاء، ويأكل منها ما شاء رغداً، أي: هنيئاً واسعاً طيباً. وعن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله أرأيت آدم أنبياً كان؟ قال: " نعم نبياً رسولاً كلمه الله قبلاً " - يعني عياناً - فقال: { ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } وقد اختلفوا في الجنة المذكورة في هذه الآية، هل كانت في الأرض أو في السماء؟ وبتقدير أنها كانت في السماء فهل هي الجنة التي هي دار الثواب أو جنة الخلد أو جنة أخرى؟ فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصفهاني: هذه الجنة كانت في الأرض، وحملا الإهباط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى:
[البقرة: 61] واحتجا عليه بوجوه أحدها: أن هذه الجنة لو كانت هي دار الثواب لكانت جنة الخلد ولو كان آدم في جنة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله:
وقيل فى قوله { ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } قال السكنى: تكون مدة ثم تنقطع فيكون دخولهما فى الجنة دخول سكنى لا دخول ثواب.
فأما سبب وصوله إلـى الـجنة حتـى كلـم آدم بعد أن أخرجه الله منها وطرده عنها فقد قال ابن عبـاس: أنه خـلص إلـى آدم وزوجته بسلطانه الذي جعل الله له لـيبتلـي به آدم وذريته، وأنه يأتـي ابن آدم فـي نومته وفـي يقظته، وفـي كل حال من أحواله، حتـى يخـلص إلـى ما أراد منه حتـى يدعوه إلـى الـمعصية، ويوقع فـي نفسه الشهوة وهو لا يراه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا }.
قال أبو جعفر: وأما تأويـل قوله: { فَأَخْرَجَهُمَا } فإنه يعنـي: فأخرج الشيطان آدم وزوجته مـما كانا، يعنـي مـما كان فـيه آدم وزوجته من رغد العيش فـي الـجنة، وسعة نعيـمها الذي كانا فـيه. وقد بـينا أن الله جل ثناؤه إنـما أضاف إخراجهما من الـجنة إلـى الشيطان، وإن كان الله هو الـمخرج لهما لأن خروجهما منها كان عن سبب من الشيطان، وأضيف ذلك إلـيه لتسبـيبه إياه كما يقول القائل لرجل وصل إلـيه منه أذى حتـى تـحوّل من أجله عن موضع كان يسكنه: ما حوّلنـي من موضعي الذي كنت فـيه إلا أنت، ولـم يكن منه له تـحويـل، ولكنه لـما كان تـحوّله عن سبب منه جاز له إضافة تـحويـله إلـيه.
قال الرازي: أعلم أن في هذه الآية تهديداً عظيماً عن كل المعاصي.
يقول ابن عجيبة: " أكْرِمْ بها معصيةً أورثت الخلافة! " ، فكل ما ينزل بالروح إلى قهرية العبودية، فهو سبب إلى الترقي لشهود نور الربوبية، وربما قضي عليك بالذنب فكان سبب الوصول، فلما أراد الحق تعالى أن ينزلها إلى أرض العبودية بالسلوك بعد الجذب، قال لها ولمن يحاربها من الشيطان والهوى والدنيا وسائر الحظوظ: اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم - أيها العارفون بعد جهاد أعدائكم - في أرض العبودية، استقرار وتمتعٌ بتجليات أنوار الربوبية، إلى حين الملاقاة الحقيقية. فتلقت الروح من ربها كلمات الإنابة، وهبَّ عليها، نسيم الهداية، بما سبق لها من عين العناية، فتاب عليها، وقرَّبها إلى حضرة الشهود، ومعاينة طلعة الملك الودود، إنه تواب رحيم جواد كريم.