{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
قوله جلّ ذكره: { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً }.
سخر لهم جميع المخلوقات على معنى حصول انتفاعهم بكل شيء منها، فعلى الأرض يستقرون وتحت السماء يسكنون، وبالنجم يهتدون، وبكل مخلوق بوجه آخر ينتفعون، لا بل ما من عين وأثر فكروا فيه إلا وكمال قدرته وظهور ربوبيته به يعرفون.
وقال ابن عطاء: { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } ليكون الكون كله لك وتكون لله كلاً تشتغل عمن أنت له.
قوله جلّ ذكره: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
فالأكوان بقدرته استوت، لا أن الحق سبحانه بذاته - على مخلوق - استوى، وأَنَّى بذلك! والأحدية والصمدية حقه وما توهموه من جواز التخصيص بمكان فمحال ما توهموه، إذ المكان به استوى، لا الحق سبحانه على مكانٍ بذاته استوى.
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ } * { قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } * { قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }
لمّا أراد الله تعالى عمارة الأرض، بعد أن عمَّر السماوات بالملائكة، أخبر الملائكة بما هو صانع من ذلك؛ تنويهاً بآدم وتشريفاً لذريته، وتعليماً لعباده أمر المشاورة، فقال لهم: { إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } يخلفني في أرضي وتنفيذ أحكامي، { قَالُوا } على وجه الاستفهام، أو من الإدلال، إن كان من المقربين، بعد أن رأوا الجن قد أفسدوا وسفكوا الدماء: { أَتَجْعَلُ مَن يُفْسِدُ فِيهَا } ، وشأن الخليفة الإصلاح، { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } ، أي: نسبح ملتبسين بحمدك، { ونُقَدِّسُ لَكَ } ، أي: نطهر أنفسنا لأجلك، أو ننزهك عما لا يليق بجلال قدسك، فنحن أحق بالخلافة منهم.
قال الحقّ جلّ وعلا: { إنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ }؛ فإني أعلم أنه يكون منهم رسل وأنبياء وأولياء، ومن يكون مثلكم أو أعظم منكم.
فصل: ولم يكن قول الملائكة: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } على وجه الاعتراض على التقدير ولكن على جهة الاستفهام، فإن حَمْلَ الخطاب على ما يُوجِب تنزيه الملائكة أَوْلى لأنهم معصومون.. قال تعالى:
{ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ }
ثم وَجَّهَ الحق تعالى استحقاقه للخلافة؛ وهو تشريفه بالعلم، فقال: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } ، أي مسميات الأسماء؛ بأن ألقى في رُوعه ما تحتاج إليه ذريته من اللغات والحروف، وخواص الأشياء ومنافعها، ثم عرض تلك المسميات على الملائكة، إظهاراً لعجزهم، وتشريفاً لآدم بالعلم. { فقال }: أخبروني { بأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ } المسيمات { إن كنتم صادقين } في ادعائكم استحقاق الخلافة، فلما عجزوا عن معرفة تلك الأسماء { قَالُوا سُبْحَانَكَ } أي: تنزيهاً لك عن العبث، { لا عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ } بكل شيء، { الْحَكيمُ } لإتقانك كل شيء، وهذا اعتراف منهم بالقصود والعجز، وإشعار بأن سؤالهم كان استفهاماً وطلباً لتفسير ما أشكر عليهم، ولم يكن اعتراضاً.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِم } ، وعيِّن لهم اسم كل مسمى، فلما أخبرهم بذلك بحيث قال مثلاً: هذا فرس وهذا جمل، وعين ذلك لهم، وظهرت ميزته عليهم بالعلم حتى استحق الخلافة، قال الحقّ تعالى: { أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } أي: ما غاب، وأعلم ما تظهرونه من قولكم: { أَتَجْعَلُ فِيهَا... } الخ، وما تكتمونه من استحقاقكم الخلافة، وقولكم: لن يخلق الله تعالى أحداً أعلم منا لتقدمنا، والفضل لمن صدق لا لمن سبق.
قال البيضاوي: اعلم أن هذه الآيات تدل على شرف الإنسان، ومزية العلم وفضله على العبادة، وأنه شرط في الخلافة، بل العمدة فيها، وأن التعليم يصح إطلاقه عليه تعالى، وإن لم يصح إطلاق المعلم عليه؛ لاختصاصه بمن يحترف به، وأن اللغات توقيفية - عملها الله بالوحي -، وأن آدم عليه السلام أفضل من هؤلاء الملائكة؛ لأنه أعلم منهم، والأعلم أفضل لقوله تعالى: