التوكل تفويضُ الأمور إلى الله. وحقُّه وأصْلُهُ عِلْمُ العبدِ بأنَّ الحادثاتِ كلّها حاصِلةٌ من الله تعالى، وأنه لا يقدر أحدٌ على الإيجاد غيرُه.
فإذا عَرَفَ هذا فهو فيما يحتاج إليه - إذا عَلِمَ أن مرادَهُ لا يرتفع إلا مِنْ قِبَلِ الله - حصل له أصل التوكل. وهذا القَدْرُ فَرْضٌ، وهو من شرائط الإيمان، فإن الله تعالى يقول:
{ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }[المائدة: 23]
فإن تقرَّرَ هذا فالناس في الاكتفاء والسكون على أقسام، ولكلِّ درجةٍ من هذه الأقسام اسم: إمَّا من حيث الاشتقاق، أو من حيث الاصطلاح.
فأول رتبة فيه أن يكتفي بما في يده، ولا يطلب زيادة عليه، ويستريح قلبه من طلب الزيادة.. وتسمى هذه الحالة القناعة، وفيها يقف صاحبها حيث وقف، ويقنع بالحاصل له فلا يستزيد ثم اكتفاءُ كلِّ أحدٍ يختلف في القلة والكثرة، وراحة قلوب هؤلاء في التخلص من الْحِرصِ وإرادة الزيادة.
ثم بعد هذا سكونُ القلب في حالة عَدَمِ وجود الأسباب، فيكون مجرداً عن الشيء، ويكون في إرادته متوكلاً على الله. وهؤلاء متباينون في الرتبة، فواحد يكتفي بوعده لأنه صَدَقَه في ضمانه، فيسكن - عند فقد الأسباب - بقلبه ثقةً منه بوعد ربه.. ويسمى هذا توكلاً، ويقال على هذا: إن التوكل سكون القلب بضمان الربِّ، أو سكون الجأش في طلب المعاش، أو الاكتفاء بوعده عند عدم نَقْدِه، أو الاكتفاء بالوعد عند فقد النقد.
وألطف من هذا أن يكتفي بِعِلْمِ أنه يعلم حاله فيشتغل بما أمره الله؛ ويعمل على طاعته؛ ولا يراعي إنجاز ما وَعَدَهَ؛ بَل يِكِلُ أمرَه إلى الله.. وهذا هو التسليم.
وفوق هذا التفويض، وهو أنْ يَكِلَ أمرَه إلى الله. ولا يقترح على مولاه بحالٍ، ولا يختار؛ ويستوي عند وجودُ الأسباب وعَدَمُها؛ فيشتغل بأداء ما ألزمه الله؛ ولا يفكر في حال نَفْسِه؛ ويعلم أنه مملوكٌ لمولاه؛ والسيِّدُ أوْلَى بِعَبْدِهِ من العبد بنفسه.
فإذا ارتقى عن هذه الحالة وَجَدَ راحةً في المَنْع؛ واستعذب ما يستقبله من الرَّدِّ.. وتلك هي مرتبة الرضا؛ ويصلح له في هذه الحالة من فوائد الرضا ولطائفه ما لا يحصل لِمَنْ دونَه من الحلاوة في وجود المقصود.
وبعد هذا الموافقة؛ وهي ألا يجد الراحة في المَنْعِ، بل يجد بَدَلَ هذا عند نسيم القربِ زوائد الأُنْس بنسيان كلِّ أرَبٍ، ونسيان وجود سبب أو عدو وجود سبب؛ فكما أنَ حلاوة الطاعة تتصاغر عند بَرْدِ الرضا - وأصحاب الرضا يعدون ذلك حجاباً - فكذلك أهل الأُنْسِ بالله.
بنسيانِ كلِّ فَقْدٍ ووَجْدٍ، وبالتغافل عن أحوالهم في الوجود والعدم يعدون النزول إلى استلذاذ المنع، والاستقلال بلطائف الرضا نقصاناً في الحال.
ثم بعد هذا استيلاءُ سلطان الحقيقة فيؤخذ العبد عن جملته بالكلية، والعبارة عن هذه الحالة أنه يحدث الخمود والاستهلاك والوجود والاصطلام والفناء.. وأمثال هذا، وذلك هو عين التوحيد، فعند ذلك لا أُنْسَ ولا هيبة، ولا لذة ولا راحة، ولا وحشة ولا آفة.
هذا بيان ترتيبهم فأمّا دون ذلك فالخبر عن أحوال المتوكلين - على تباين شِرْبِهم. - يختلف على حسب اختلاف على حسب اختلاف محالِّهم.
فيقال شرط التوكل أن يكون كالطفل في المهد؛ لا شيء مِنْ قِبَلِه إلا أن يرضعه مَنْ هو في حضانته.
ويقال التوكل زوال الاستشراف، وسقوط الطمع، وفراغ القلب من تعب الانتظار.
ويقال التوكل السكون عند مجاري الأقدار على اختلافها.
ويقال إذا وثق القلب بجريان القسمة لا يضره الكسب، ولا يقدح في توكله.
ويقال عوام المتوكلين إذا أُعْطُوا شكروا، وإذا مُنعُوا صبروا. وخواصُّهم إذا أَعْطُوا آثروا، وإذا مٌنِعُوا شكروا.
ويقال الحقُّ يجود على الأولياء - إذا توكلوا - بتيسير السبب من حيث يُحْتَسَبُ ولا يُحْتَسَبُ، ويجود على الأصفياء بسقوط الأرب.. وإذا لم يكن الأرَبُ فمتى يكون الطلب؟
ويقال التوكل في الأسباب الدنيوية إلى حدٍّ، فأمَّا التوكل على الله في إصلاحه - سبحانه - أمورَ آخرِة العبد فهذا أشدُّ غموضاً، وأكثرُ خفاءً. فالواجبُ في الأسباب الدنيوية أن يكون السكونُ عن طلبها غالباً، والحركةُ تكون ضرورةً. فأمَّا في أمور الآخرة وما يتعلَّقُ بالطاعةِ فالواجبُ البِدارُ والجِدُّ والانكماشُ، والخروجُ عن أوطان الكسل والجنوح إلى الفشل.
والذي يتَّصِفُ بالتواني في العبادات، ويتباطؤ في تلافي ما ضيَّعَه من أرضاء الخصوم والقيام بحقِّ الواجبات، ثم يعتقد في نفسه أنه متوكِّلٌ على الله وأنه - سبحانه - يعفو عنه فهو مُتَّهَمٌ معلولُ الحالِ، ممكورٌ مُسْتَدْرَجٌ، بل يجب أن يبذل جهده، ويستفرغ وسعه. ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته، ولا يستنِدُ إلى سكونه وحركته، ويتبرأُ بِسِرِّه من حَوْلِهِ وقوَّتِه. ثم يكون حَسَنَ الظنِّ بربِّه، ومع حُسْنِ ظنه بربه لا ينبغي أن يخلوَ من مخافته، اللهم إلا أن يَغْلِبَ على قلبه ما يشغله في الحال من كشوفات الحقائق عن الفكرة في العواقب؛ فإن ذلك - إذا حَصَلَ - فالوقتُ غالِبٌ، وهو أحد ما قيل في معاني قولهم: الوقت سيف.
* تفسير لطائف الإشارات / القشيري