وفي أرض نفوس العارفين آيات :
منها : أن الأرض تحمل كل شيء، ولا تستثقل شيئاً، فكذلك نفس العارف، تحمل كُلَّ كَلٍّ وثقيل، ومَن استثقل حملاً، أو تبرّم من أحد، أو من شيء، ساقته القدرة إليه، فلغيبته عن الحق، ومطالعته الخلق بعين التفرقة، وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة.
ومنها : أنها يلقى عليها كل قذارة وقمامة فتُنبت كل زهر ونَور وورد، فكذلك العارف يُلقى عليه كل جفاء، ولا يظهر منه إلا الصفاء. ومنها أن الأرض الطيبة تُنبت الطيب، وينصع نباتها، والأرض السبخة لا تُنبت شيئاً، كذلك القلوب الطيبة تُنبت كل ما يلقى فيها من الخير، والقلوب الخبيثة لا تعي شيئاً، ولا ينبت فيها إلا الخبيث.
وقوله تعالى: {وفي أنفسكم..} قال القشيري: يُشير إلى أن النفس مرآة جميع صفات الحق، لهذا قال عليه الصلاة والسلام: «مَن عرف نفسه فقد عرف ربه» فلا يعرف أحد نفسه إلا بعد كمالها، وكمالُها: أن تصير مرآةً كاملةً تامة مصقولة، قابلة لتجلِّي صفات الحق لها، فيعرف نسفه بالمرآتية، ويعرف ربه بالتجلِّي فيها، كما قال تعالى: {سَنُرِيِهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الأَفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ...} [فصلت: 53] الآية.
قلت: حديث: «مَن عرف نفسه» أنكره النووي، وقال إنه من كلام يحيى بن معاذ وقد اشتهر عند الصوفية حديثاً، ومعناه حق؛ فإنَّ مَن عرف حقيقة نفسه، وأنها مظهر من مظاهر الحق، وغاب عن حس وجوده الوهم، فقد عرف ربه وشَهِدَه، فاطلب المعرفة في نفسك، ولا تطلبها في غيرك، فليس الأمر عنك خارجاً، ولله در الششتري في بعض أزجاله، حيث قال:
وإليْك هو السّيْرُ وأنْت مَعْنَى الخَيْر
وما دونَك غيْرُ يا محَلَّ الْفقر الذَّاتِي
وقال أيضاً:
يا قاصداً عَيْنَ الْخَبرْ غطَّاهُ أَيْنَكُ
ارجع لذاتكَ واعْتَبِر ما ثمَّ غيْرَك
الخيرُ منك والخبَرْ والسر عندك
وقوله تعالى: {وفي السماء رزقكم} قال الورتجبي:* وفي سماء صفاتي رزق أرواحكم، من مشاهدة النور، وغذاء العلم الرباني، وما توعدون من مشاهدة الذات وكشف عيانه*.
قلت: هذا قوت الأرواح، أمّا قوت الأشباح فتجب الغيبة عنه، ثقةً بالله، وتوكلاً عليه. قال في قطب العارفين: اعلم أنه عزّ وجل قسَّم الأرزاق في الأزل، وجزّأه على عمر العبد، ووقَّت أوقاته، وحدَّ للعبد ما يأتيه منه في السنة، والشهر، واليوم، والساعة، فكل ما حدّ لك أن تناله من رزقك عند صلاة العصر، مثلاً، لا تناله عند صلاة الصبح، ولو طلبته بكل حِيلة في السموات والأرض، فإن الطلب لا يجمع، والتوكل لا يمنع.
وقال فيه أيضاً: العارف يجد في نفسه الاعتماد على الله، وإن كانت السماء لا تُمطر، والأرض لا تُنبت... إلخ كلامه، ومثله قول ذي النون:* لو كانت السماء من زجاج، والأرض من نحاس لا تُنبت شيئاً، ومصر كلها عيالي، ما اهتممتُ لهم برزقٍ؛ لأنَّ مَن خلقهم هو الذي تكفّل برزقهم*. وقال في القطب أيضاً: ومن علامة جهل قلب العالم: خوف شدائد السنيين الآتيات، والاستعداد لها قبل مجيئها، بمصاحبة الاضطراب، وفقد الطمأنينة القسمة السابقة، فمَن اتصف بهذه الصفة فقد نازع الربوبية، وانسلخ من العبودية.