قال الله تعالى: " والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون " .
إن أخلاق أهل التصوف توصف بالمقام عند القوم إذا ثبتت وأقامت؛ فإن كانت عارضة فقط سميت حالا لسرعة زوالها. قال حجة الإسلام في الإحياء: “كما أن الصفرة تنقسم إلى ثابت كصفرة الذهب، وغير ثابت كصفرة الوجل وصفرة المريض، كذلك القلب، فالذي هو غير ثابت يسمى حالا؛ لأنه يحول على القرب“.
فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح . وهو حقيقة الصديقية . وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره .
وهو أصل الأصول، وعليه ينبني كل خير، وهو نورٌ يجعله الله في قلب العبد، وهو -كما في لطائف المنن- “عبارة عن استقرار العلم بالله في القلب، ومِن يَقِن الماء في الجبل إذا سكن فيه، فكل يقين إيمان، وليس كل إيمان يقينا، والفرق بينهما أن الإيمان قد تكون معه الغفلة، واليقين لا تجامعه الغفلة“.
أي كما يطلب من السالك تحلية جوارحه بما تقدم من الخصال الحميدة، يطلب منه كذلك تحلية باطنه بالخصال الإيمانية، وتسمى مقامات اليقين، وهي أخلاق أهل اليقين، فلابد للسالك في سيره من التخلي باطنيا عن الصفات المذمومة، والتحلي بالصفات المحمودة، والتحلي والتخلي هما حقيقة السلوك..
اليقين: وهو سكون القلب إلى الله بعلم لا يتغير ولا يتحول ولا يتقلب ولا يزول عند هيجان المحركات أو ارتفاع الريب في مشاهدة الغيب وعلامته ثلاث: رفع الهمة عن الخلق عند الحاجة وترك المدح في العطية والتنزه عن ذمهم عند المنعة . فيقين العامة: بتوحيد أفعاله، فسكنوا إليه في المنع والعطاء. ويقين الخاصة: بتوحيد صفاته، فرأوا الخلق موتى ليس بيدهم حركة ولا سكون. ويقين خاصة الخاصة: بتوحيد ذاته. فشاهدوه في كل شيء وعرفوه عند كل شيء ولم يشاهدوا معه شيئا. علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين. علم اليقين: ما كان ناشئا عن البرهان. وعين اليقين: ما نشأ عن الكشف والبيان. وحق اليقين: ما نشأ عن الشهود والعيان. فعلم اليقين لأرباب العقول من أهل الإيمان. وعين اليقين: لأرباب الوجدان من أهل الاستشراف على العيان. وحق اليقين: لأهل الرسوخ والتمكين في مقام الإحسان.
مراتب اليقين ثلاثة:
علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.
علم اليقين ، وهي انكشاف المعلوم للقلب ، بحيث يشاهده ولا يشك فيه كانكشاف المرئي للبصر .
عين اليقين ، أي مشاهدة المعلوم بالأبصار .
حق اليقين ، وهي أعلى درجات اليقين ، وهي مباشرة المعلوم وإدراكه الإدراك التام .
فالأولى : كعلمك بأن في هذا الوادي ماء ، والثانية : كرؤيته ، والثالثة : كالشرب منه.
والعلم في المراتب الثلاث صفة لازمة للنفس لا تغفل عنه، ومثالها من تيقن وجود البحر، يقينا غلب على قلبه، ومن رآه وشاهده عن بعد، ومن دخله وانغمس فيه، فلا شك أن من رأى ليس كمن علم، كما أن من دخله وانغمس في لجته ليس كمن رآه عن بعد، وإن اشترك الثلاثة في العلم به.
وقد تضمن حديث الإحسان “أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك“، المراتب الثلاث، فقوله: “أن تعبد الله كأنك تراه” شامل لعين اليقين وحق اليقين، وقوله: “فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك” إشارة إلى علم اليقين.
وكدلك حديث حارثة لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف أصبحت؟ قال: أصبحت مؤمناً بالله حقاً، وكأني بأهل الجنة يتزاورون وكأني بأهل النار يتعاوون وكأني بعرش ربي بارزاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبْتَ فالْزَمْ ".
أقوال في اليقين
قال أبو عبد الله الأنطاكي: إن أقل اليقين إذا وصل إلى القلب يملأ القلب نوراً، وينفي عنه كل ريب، ويمتلىء القلب به شكراً، ومن الله تعالى خوفاً.
وقال أبو عثمان الحيري اليقين: قلة الاهتمام لغد.
وقال سهل بن عبد الله: حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين وفيه سكون إلى غير الله تعالى.
قال دو النون المصري يقول: ثلاثة من أعلام اليقين: قلة المخالطة الناس في العشرة، وترك المدح لهم في العطية، والتنزه عن ذمهم عند المنع.
- قال الجنيد -رحمه الله-: "اليقين ارتفاع الريب في مشهد الغيب".
- وقال الجنيد: "من لم يصل علمه باليقين، ويقينه بالخوف، وخوفه بالعمل، وعمله بالإخلاص، وإخلاصه بالمجاهدة، فهو من الهالكين".
- سئل الجنيد عن اليقين فقال: "اليقين ارتفاع الشك".
- قال الجنيد: "اليقين ألاّ تهتم لرزقك الذي كفيته، وتُقبل على عملك الذي كُلفته، فإن اليقين يسوق إليك الرّزق سوقا حثيثا". - قال الجنيد: "حق اليقين ما يتحقق العبد بذلك، وهو أن يشاهد الغيوب كما يشاهد المرئيات مشاهدة عيان، ويحكم على الغيب فيخبر عنه بالصدق، كما أخبر الصدّيق حين قال لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا أبقيت لعيالك؟ قال: الله ورسوله".
وهذا عامر بن عبد القيس يقول: " لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً ".
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: “إنما هما كرامتان جامعتان عظيمتان: كرامة الإيمان بما يزيد الإيقان وشهود العيان، وكرامة العمل على الاقتداء والمتابعة ومجانبة الدعاوى والمخادعة. فمن أعطيهما ثم جعل يشتاق إلى غيرهما، فهو عبد مفتر كذاب، أو ذو خطأ في العلم والعمل بالصواب، كمن أكرم بشهود الملك على نعت الرضا، فجعل يشتاق إلى سياسة الدواب وخلع الرضا“.
وثلاثة من أعلام يقين اليقين: النظر إلى الله تعالى في كلِّ شيء، والرجوع إليه في كلِّ أمر ولا الاستعانة به في كل حال.
يقول ابن قيم الجوزية: أن اليقين له حقوق يجب على صاحبه أن يؤديها . ويقوم بها ، ويتحمل كلفها ومشاقها . فإذا فني في التوحيد حصل له أمور أخرى رفيعة عالية جدا . يصير فيها محمولا ، بعد أن كان حاملا ، وطائرا بعد أن كان سائرا ، فتزول عنه كلفة حمل تلك الحقوق . بل يبقى له كالنفس ، وكالماء للسمك . وهذا أمر التحاكم فيه إلى الذوق والإحساس . فلا تسرع إلى إنكاره .
وتأمل حال ذلك الصحابي الذي أخذ تمراته . وقعد يأكلها على حاجة وجوع وفاقة إليها . فلما عاين سوق الشهادة قامت . ألقى قوته من يده ، وقال : إنها لحياة طويلة ، إن بقيت حتى آكل هذه التمرات . وألقاها من يده ، وقاتل حتى قتل ، وكذلك أحوال الصحابة رضي الله عنهم . كانت مطابقة لما أشار إليه .