ثم ذكر الأدب الثالث وهوإقامته حيث أقامه الله فقال:
( لا تطلب منه أن يخرجك من حالة ليستعملك فيما سواها فلو أرادك لأستعملك من غير إخراج
من آداب العارف الاكتفاء بعلم الله والإستغناء به عما سواه فإذا أقامه الله تعالى في حالة من الأحوال فلا يستحقرها ويطلب الخروج منها إلى حالة أخرى، فلو أراد الحق تعالى أن يخرجه من تلك الحالة ويستعمله فيما سواها لاستعمله من غير أن يطلب منه أن يخرجه، بل يمكث على ما أقامه فيه الحق تعالى حتى يكون هو الذي يتولى أخراجه كما تولى أدخاله، "وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ" فالمدخل الصدق هو أن تدخل فيه بالله والمخرج الصدق هو أن تخرج منه بالله، وهذا هو الفهم عن الله وهو من علامة تحقق المعرفة بالله فالعارف بالله إذا كان فقيراً لا يتمنى الغنى وإذا كان غنياً لا يتمنى الفقر وإذا كان صحيحاً لا يتمنى المرض، وإذا كان مريضاً لا يتمنى الصحة، وإذا كان عزيزاً لا يتمنى الذل وإذا كان ذليلاً لا يتمنى العز. وإذا كان مقبوضاً لا يتمنى البسط وإذا كان مبسوطاً لا يتمني القبض وهكذا باقي الأحوال ينظر ما يفعل الله به ولا ينظر ما يفعل بنفسه لتحقق زواله بل يكون كالميت بين يدي الغاسل أو كالقلم بين الأصابع.
قال تعالى:"وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ" وقال تعالى:{ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}وأوحى الله تعالى إلى داوود عليه السلام فقال:" يا داوود تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد فإن سلمت لي ما أريد أتيتك بما تريد وإن لم تسلم لي ما أريد أتعبتك فيما تريد ولا يكون ألا ما أريد"وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة:"جف القلم بما أنت لاق" وفي حديث آخر:"جفت الأقلام وطويت الصحف" وقال شيخ شيوخنا سيدي أحمد اليماني رضي الله عنه حين سأله وأصحابه عن حقيقة الولاية فقال:" لهم حقيقة الولاية هو إذا كان صاحبها جالساً في الظل لا تشتهي نفسه الجلوس في الشمس وإذا كان جالساً في الشمس لا تشتهي نفسه الجلوس في الظل" وقد تقدم قول شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه من أوصاف الولي الكامل أن لا يكون محتاجاً إلا على الحال الذي يقيمه مولاه فيه في الوقت يعني ماله مراد إلا ما يبرز من عنصر القدرة لا تشتهي نفسه غيره.
فإذا تجلى في العارف شيء من هذه الأمور أعني الإنتقال من حال إلى حال فليتأن وليصبر حتى يفهم أنه من الله بإشارة ظاهرة أو باطنة أو هاتف حسي أو معنوي، ولينصت إلى الهواتف فإن الله تعالى يخاطبه بما يفعل، وهذا أمر مجرب صحيح عند العارفين، حتى أنهم لا يتصرفون إلا بإذن من الله ورسوله، إذ لا فرق عند أهل الجمع جعلنا الله منهم آمين. وهذا كله إذا كان الحال الذي هو فيه موافقاً للشريعة، وإلا فليطلب الخروج منه بما يمكن.
ثم ذكر الأدب الرابع وهو رفع الهمة عن الأكوان ودوام الترقي في مقامات العرفان فقال:
( ما أرادت همة سالك أن تقف عند ما كشف لها إلا ونادته هواتف الحقيقة الذي تطلب أمامك ولا تبرجت ظواهر المكونات إلا ونادته حقائقها إنما نحن فتنة فلا تكفر )
همة السالك هي القوة الباعثة له على السير ووقوفها مع الشيء هو اعتقادها أن ما وصلت إليه هو الغاية، أو فيه كفاية ،وهواتف الحقيقة هي لسان حال الكشف عن عين التحقيق وتبرج الشيء ظهوره في حال الزينة لقصد الإمالة، وظواهر المكونات هو ما كساها من الحسن والحكمة، وتزيينها هو خرق عوائدها له وأنقيادها لحكمه ،وحقائقها نورها الباطني وهو تجلي المعنى فيها.
السالك هو الذي يشهد الأثر، فإن كان يشهده في نفسه سالك فقط ،وهو في حالة السير، وإن كان يشهده بالله فهو سالك مجذوب، والمقامات التي يقطعها ثلاث:" فناء في الأفعال وفناء في الصفات وفناء في الذات" أو تقول فناء في الإسم وفناء في الذات وفناء في الفناء وهو مقام البقاء،ثم الترقي ما لا نهاية له. فإذا كشف للسالك عن سر توحيد الأفعال وذاق حلاوته وأرادت همته أن تقف مع ذلك المقام، نادته هواتف حقيقة الفناء في الصفات، الذي تطلب أمامك، وإذا ترقي إلى مقام الفناء في الصفات وكشف له عن سر توحيد الصفات واستشرف على الفناء في الذات وأرادت همته أن تقف مع ذلك المقام، نادته هواتف حقيقة الفناء في الذات، الذي تطلب أمامك، وإذا ترقي إلى الفناء في الذات وكشف له عن سر توحيد الذات وأرادت همته أن تقف مع ذلك المقام، نادته هواتف حقيقة فناء الفناء أو حقيقة البقاء، الذي تطلب أمامك، وإذا وصل إلى البقاء نادته هواتف العلوم الغيبية، "وقل رب زدني علماً" وقد قال عليه السلام:" لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"أو تقول: إذا كشف للمريد عن الفناء في الإسم وذاق حلاوة العمل والذكر وأرادت همته أن تقف معها، نادته هواتف حقائق الفناء في الذات، الذي تطلب أمامك، فإذا ترقي إلى مقام الفناء في الذات وذاق حلاوته ولم يتمكن وقنع بذلك وأرادت همته أن تقف مع ذلك، نادته هواتف حقيقة التمكين، الذي تطلب أمامك، وإذا تمكن ولم يطلب زيادة الترقي نادته هواتف الترقي، الذي تطلب أمامك، وهكذا كل مقام ينادي على ما قبله" يا أهل يثرب لا مقام لكم"وإذا تبرجت أي ظهرت بزينتها وحللها للسالك أو للعارف ظواهر المكونات، بخرق عوائدها وانقيادها له وتصرفه فيها بهمته، كالمشي على الماء والطيران في الهواء ونبع الماء وجلب الطعام وغير ذلك من الكرامات الحسية، وأرادت همة السالك أن تقف مع ظواهرها وتشتغل بحلاوة حسها، نادته هواتف المعاني الباطنة" إنما نحن فتنة لك نختبرك هل تقنع بها دون معرفة مالكها ومنشيها المتجلي فيها أو تعرض عنها وتنفذ إلى نور معانيها وشهود مالكها ومجريها فلا تكفر وتجحد المتجلي بها، فتنكره فتكون من الجاهلين.