ثم ذكر الأدب الخامس وهو ترك الطلب من حيث هو قال فيما يأتي:
{ربما دلهم الأدب على ترك الطلب فقال طلبك منه إتهام له وطلبك له غيبة منك عنه وطلبك لغيره لقلة حيائك منه وطلبك من غيره لوجود بعدك منه}
طلبك منه يكون بالتضرع والابتهال
وطلبك له يكون بالبحث والاستدلال
وطلبك لغيره يكون بالتعرف والإقبال
وطلبك من غيره يكون بالتملق والسؤال.
وكلها مدخولة عند المحققين.
وكلها مدخولة عند المحققين.
أما طلبك منه فلوجود تهمتك له لأنك إنما طلبته مخافة أن يهملك أو يغفل عنك، فإنما ينبه من يجوز منه الإغفاء او الإهمال "وما الله بغافل عما تعلمون"،" أليس الله بكاف عبده" وقال صلى الله عليه وسلم:" من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" فالسكون تحت مجاري الأقدار أفضل عند العارفين من التضرع والابتهال وكان الشيخ مولاي العربي رضي الله عنه يقول:" الفقير الصادق لم تبق له حالة يطلبها وأن كان ولا بد من الطلب فليطلب المعرفة "، قلت وإذا ورد منهم الدعاء فإنما هو عبودية وحكمة لا طلباً للقسمة إذا ما قسم لك واصل إليك ولو سألته أن يمنعكه ما أجابك.
وفي المسألة خلاف بين الصوفية هل السكوت أولى أو الدعاء والتحقيق أن ينظر ما يتجلى فيه وينشرح له الصدر فهو المراد منه وأما طلبك له فهو دليل على غيبتك عنه بوجود نفسك فلو حضر قلبك وغبت عن نفسك ووهمك لما وجدت غيره.
أراك تسأل عن نجد وأنت بها
وعن تهامة هذا فعل متهم
قالوا أتنسى الذي تهوى فقلت لهم
يا قوم من هو روحي كيف أنساه
وكيف أنساه والأشياء به حسنت
من العجائب ينسي العبد مولاه
ما غاب عني ولكن لست أبصره
إلا وقلت جهاراً قل هو الله
وأما طلبك لغيره أي لمعرفة غيره فلقلة حيائك منه، وعدم أنسك به ،أما وجه قلة حيائك منه فلأنه يناديك إلى الحضرة وأنت تفر منه إلى الغفلة، ومثال ذلك كمن كان في حضرة الملك والملك مقبل عليه ثم يجعل هو يريد الخروج منها ويلتفت إلى غيره، فهذا يدل على قلة حيائه وعدم إعتنائه بالملك، فهو حقيق بأن يطرد إلى الباب أو إلى سياسة الدواب.
وأما وجه عدم أنسك به فلأنك لو أنست به لاستوحشت من خلقه فلا يتصور منك طلب معرفتهم وأنت تفر منهم فإذا آنسك به أوحشك من خلقه وبالعكس والاستئناس بالناس من علامة الإفلاس، إقبالك على الحق إدبارك عن الخلق وإقبالك على الخلق إدبارك عن الحق ،وقد عدوا من أصول الطريق الأعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار.
وأما طلبك من غيره فلوجود بعدك عنه إذ لو تحققت بقربه منك وهو كريم ما أحتجت إلى سؤال غيره وهو لئيم.
وفي بعض الكتب المنزلة يقول الله تبارك وتعالى:" إذا أنزلت بعبدي حاجة فرفعها إلي أعلم ذلك من نيته لو كادته السموات السبع والأرضون السبع لجعلت من أمره فرجاً ومخرجاً وإذا أنزلت بعبدي حاجة فرفعها إلى غيري أضحت الأرض من تحته وأسقطت السماء من فوقه وقطعت الأسباب فيما بيني وبينه"، أو كما قال لطول العهد به فتحصل أن الأدب هو الأكتفاء بعلم الله والتحقق بمعرفة الله والأستغناء به عما سواه والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الأدب السادس وهو التسليم والرضى بما يجري به القدر والقضاء فقال:
النَّفَس "عبارة عن ما يخرج من النفس ويرجع "، فإذا علمت أيها الأنسان أن أنفاسك قد عمها القدر ولا يصدر منك ولا من غيرك إلا ما سبق به علمه وجرى به قلمه لزمك أن ترضى بكل ما يجري به القضاء فأنفاسك معدودة وطرفاتك ولحظاتك محصورة فإذا أنتهى آخر أنفاسك رحلت إلى آخرتك وإذا كانت الأنفاس معدودة فما بالك بالخطوات والخطوات وغير ذلك من التصرفات .
وحقيقة الرضى هو تلقي المهالك بوجه ضاحك ،وحقيقة التسليم أستواء النقمة والنعيم، بحيث لا يختار في أيهما يقيم، وهذا هو مقام أهل الكمال الذين تحققوا بالزوال.
ثم ذكر الأدب السابع وهو دوام المراقبة ومواصلة المشاهدة فقال:
" لا تترقب فراغ الأغيار فإن ذلك يقطعك عن وجود المراقبة له فيما هو مقيمك فيه"
الترقب هو الأنتظار والأغيار جمع غير بكسر الغين وهو ما يغير القلب عن حاله ،و كل ما يشغل عن الحضرة ويغير القلب عنها فهو غير، والمراقبة هي العسة على القلب لئلا يخرج من حضرة الرب والمراد بها في كلام الشيخ مطلق العسة، فتصدق بمراقبة القلب كما تقدم وتصدق بمراقبة الروح وهي عسها على دوام الشهود وبمراقبة السر، وهي عسته على دوام الترقي والأدب.
إذا أقامك الحق تعالى في حال يغلب فيها وجود الأغيار لغلبة الحس فيها، كما إذا أقامك في شغل دنيوي في الظاهر لا محيد لك عنه فجاهد قلبك في العسة عليه في الحضور لئلا تسرقك الغفلة، أو جاهد روحك في العسة عليها في دوام الشهود لئلا يسرقك الحس، أو جاهد سرك في أستمداد الموهب والعلوم لئلا يحصل ذلك فتور، ولا تترقب أي تنتظر فراغ شغل يدك من تلك الأغيار فتؤخر حضور قلبك إلى تمام شغل يدك فيفوتك وجود المراقبة في تلك الحال التي أقامك الحق فيها فيكون في حقك سوء أدب، وفيه أيضاً تضييع ذلك الوقت وخلوه من معاملة الحق وصرف الأوقات لا يمكن قضاؤها،وهذا شأن أهل الاعتناء من العارفين وهذا هو جمع الجمع والله تعالى أعلم.
تنبيه : ليس هذا تكراراً مع ما تقدم في قوله إحالتك الأعمال على وجود الفراغ الخ لأن ذلك في عمل الجوارح وهذا في عمل القلوب يدلك على ذلك تعبيره هنا بالمراقبة وتعبيره ثم الأعمال والإفادة خير من الأعادة وبالله التوفيق.
وإذا حصلت لك المراقبة أو المشاهدة في حال الأغيار فلا تستغرب ما تراه من الأكدار لئلا يحصل لك الأنكار وإلى هذا أشار بقوله:
{لا تستغرب وقوع الأكدار ما دمت في هذه الدار فإنها ما أبرزت إلا ما هو مستحق وصفها وواجب نعتها}
من آداب العارف أن لا يستغرب شيئاً من تجليات الحق ولا يتعجب من شيء منها كائنة ما كانت جلالية أو جمالية، فإن نزلت به نوازل قهرية أو وقعت في هذه الدار أكدار وأغيار جلالية، فلا يستغرب وقوع ذلك، لأن تجليات هذه الدار جلها جلالية، لأنها دار أهوال ومنزل فرقة وانتقال، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في بعض خطبه :"أيها الناس إن هذه الدار دار التواء أي هلاك لا دار استواء ومنزل ترح أي حزن لا منزل فرح فمن عرفها لم يفرح لرخائها ولم يحزن لشقائها إلا وأن الله خلق الدنيا دار بلوى والآخرة دار عقبي فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي وأنها لسريعة التوي وشيكة الانقلاب فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها واهجروا لذيذ عاجلها لكربة آجلها ولا تسعوا في عمران دار قد قضي الله خرابها ولا تواصلوها وقد أراد لله منكم أجتنابها فتكونوا لسخطه متعرضين ولعقوبته مستحقين"، وقال الجنيد رضي الله عنه :"ليس أستبشع مما يرد على من العالم لأني أصلت أصلاً وهو أن الدار دارهم وغم وبلاء وفتنة وأن العالم كله شر ومن حكمه أنه يتلقاني بكل ما أكره فإن تلقاني بما أحب فهو فضل وإلا فالأصل هو الأول".
فلا تستغرب أيها العارف ما يقع بك أو لغيرك من الأكدار ما دمت مقيماً في هذه الدار لأنها ما برز فيها من التجليات الجلالية إلا ما هو مستحق أن تتصف به، وواجب أن تنعت به فلا تستغرب شيئاً ولا تتعجب من شيء، بل الواجب عليك أن تعرف الله في الجلال والجمال والحلوة والمرة، وأما أن كنت لا تعرفه إلا في الجمال فهذا هو مقام العوام، والمعرفة في الجلال هو السكون والأدب والرضى والتسليم فينبغي للفقير أن يكون كعشب السمار إذا جاءت حملة الوادي حني رأسه وإذا ذهبت رفع رأسه، وكما لا تستغرب وقوع الأكدار بحيث لا تحزن ولا تخف ولا تجزع، كذلك لا تتعجب من وقوع المسار وهو الجمال، بحيث لا تفرح ولا تبطر فإن الجلال مقرون بالجمال والجمال مقرون بالجلال يتعاقبان تعاقب الليل والنهار.
والعارف يتلون مع كل واحد منهما لا يستغرب شيئاً ولا يتعجب من شيء، إذ كل ما يبرز من عنصر القدرة كله واحد وبهذا وقع التفريق بين الصادق والصديق لأن الصديق لا يتعجب من شيء ولا يتردد في شيء وعد به، بخلاف الصادق فقط ،فإنه مهما رأى شيئاً مستغرباً تعجب منه وإذا وعد بشيء قد يتردد في أمتثاله، وقد وصف الله تعالى السيدة مريم بالصديقية ولم يصف السيدة سارة بها لأنها لما بشرت بالولد على وجه خرق العادة أستغربت وقالت :"أن هذا لشيء عجيب" فلذلك قالت لها الملائكة:" أتعجبين من أمر الله "بخلاف مريم فلم تتعجب وإنما سألت سؤال أستفهام فقط أو سألت عن وقت ذلك أو كيفيته هل بالتزوج أو بغيره والله تعالى أعلم.