ثم ذكر الأدب الثامن وهو أن يكون تصرفه بالله ولله ومن الله وإلى الله وهو مقام الصدق الذي هو لب الأخلاص وأخلاص خواص الخواص فقال:
{ ما توقف مطلب أنت طالبه بربك ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك }
إذا عرضت لك حاجة من حوائج الدنيا والآخرة وأردت أن تقضي لك سريعاً فأطلبها بالله ولا تطلبها بنفسك فإنك إذا طلبتها بالله تيسر أمرها وسهل قضاؤها، وإن طلبتها بنفسك صعب قضاؤها وتعسر أمرها، ولا يتوقف ويحبس أمر طلبته بربك ولا يتيسر ويسهل أمر طلبته بنفسك، قال تعالى حاكياً عن سيدنا موسى عليه السلام: قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ " .
فكل من أستعان بالله وصبر في طلب حاجته كانت العاقبة له وكان من المتقين،وقال تعالى:" ومن يتوكل على الله فهو حسبه " أي كافيه كل ما أهمه، وقال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه وهو سويد بن غفلة: "لا تطلب الإمارة فإنك أن طلبتها وكلت إليها وأن أتتك من غير مسألة أعنت عليها" وعلامة الطلب بالله هو الزهد في ذلك الأمر والاشتغال بالله عنه، وعلامة الطلب بالنفس هو الحرص والبطش إليه، فإذا تعذر عليه أنقبض وتغير عليه، فهذا ميزان من كان طلبه بالله وطلبه بنفسه، فمن طلب حوائجه بالله قضيت معنى وأن لم تقض حساً، ومن طلب حوائجه بنفسه خاب سعيه وضاع وقته وأن قضيت مهمته وحاجته، و هنا ضابط يعرف به أهل العناية من أهل الخذلان وأهل الولاية من أهل الخسران ذكره الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه فقال:"إذا أكرم الله عبداً في حركاته وسكناته نصب له العبودية لله وستر عنه حظوظ نفسه وجعله يتقلب في عبوديته والحظوظ عنه مستورة مع جري ما قدر له ولا يلتفت إليها كأنه في معزل عنها وإذا أهان الله عبداً في حركاته وسكناته نصب له حظوظ نفسه وستر عنه عبوديته فهو يتقلب في شهواته وعبودية الله عنه بمعزل وأن كان يجري عليه شيء منها في الظاهر قال وهذا باب من الولاية والأهانة وأما الصديقية العظمي والولاية الكبرى فالحظوظ والحقوق كلها سواء عند ذوي البصيرة لأنه بالله فيما يأخذ ويترك".والحاصل أن تصرفات العارف كلها بالله وتصرفات غيره كلها بالنفس.
فالعمل بالله يوجب القربة والعمل لله يوجب المثوبة العمل بالله صاحبه داخل الحجاب في مشاهدة الأحباب والعمل لله يوجب الثواب من وراء الباب العمل بالله من أهل التحقيق والعمل لله من أهل التشريع العمل لله من أهل قوله تعالى:" إياك نعبد" والعمل بالله من أهل قوله تعالى:" وإياك نستعين".ومن كان علمه بالله كان راجعاً إليه في كل شيء ومعتمداً عليه في كل حال وإليه أشار بقوله:
{ من علامة النجح في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات }.
قلت إذا توجهت همتك أيها المريد إلى طلب شيء أي شيء كان وأردت أن ينجح أمره وتبلغ مرادك فيه وتكون نهايته حسنة وعاقبته محمودة، فأرجع إلى الله في بداية طلبه وأنسلخ من حولك وقوتك وقل كما قال عليه السلام:" إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ"، فلا تحرص عليه ولا تهتم بشأنه فما شاء الله كان وما لم يشأ ربنا لم يكن، فلو إجمعت الأنس والجن على أن ينفعوك بشيء لم يقدره الله لك لم يقدروا على ذلك، ولو أجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يقدره الله عليك لم يقدروا على ذلك جفت الأقلام وطويت الصحف كما في الحديث، فإذا طلبت شيئاً وكنت فيه معتمداً على الله ومفوضاً أمرك إلى الله تنظر ما سبق في علم الله كان ذلك علامة نجح نهايتك وحصول مطلبك قضيت في الحس أو لم تقض لأن مرادك مع مراد الله لا مع مراد نفسك.
قد إنقلبت حظوظك حقوقاً لا تشتهي إلا ما قضي الله ولا تنظر إلا ما يبرز من عند الله قد فنيت عن حظوظك وشهواتك، وإن طلبت شيئاً بنفسك معتمداً على حولك وقوتك حريصاً على قضائها جاهداً في طلبها كان ذلك علامة على عدم قضائها وخيبة الرجاء فيها، وعدم نجح نهايتها، وإن قضيت في الحس وكلت إليها فتعبت بسببها ولم تعن على شؤونها ومآربها، وهذا كله مجرب صحيح عند العام والخاص ،وهذه الحكمة تتميم لما قبلها وشرح لها والله تعالى أعلم.
ثم كمل هذه المسئلة بقاعدة كلية تصدق بما تقدم وبغيره فقال:
{ من أشرقت بدايته أشرقت نهايته }
قلت إشراق البداية هو الدخول فيها بالله وطلبها بالله والأعتماد فيها على الله مع السعي في أسبابها والأعتناء في طلبها قياماً بحق الحكمة وأدباً مع القدرة، ويعظم السعي في السبب بقدر عظمة المطلب فبقدر، المجاهدة تكون بعدها المشاهدة:﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
وقال الشيخ سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه:
لا تحسبوها رخيصة
راه كل معشوق غالي
ما تنحصد صابت الصيف
إلا ببرد الليالي
فمن رأيناه في بدايته جاداً في طلب الحق معرضاً عن الأنس بالخلق مستغرقاً في خدمة مولاه ناسياً لحظوظه وهواه ،علمنا أن نهايته مشرقة وعاقبته محمودة ومآربه مقضية، ومن رأيناه مقصراً في طلب مولاه لم يخرج عن نفسه وهواه علمنا أنه كاذب في دعواه، فنهايته الحرمان وعاقبته الخذلان، إلا أن يتداركه الكريم المنان.
هذا في طريق الوصول إلى حضرة الحق وأما إشراق البداية في طلب حوائج الدنيا أو المقامات أو المراتب أو الخصوصية مثلاً فهو بالزهد فيها والأعراض عنها والأشتغال بالله عنها قال بعضهم:" لا تدرك المراتب إلا بالزهد فيها".
قال الشيخ أبو الحسن:" كنت أنا وصاحب لي نعبد الله في مغارة ونقول في هذا الشهر يفتح الله علينا في هذه الجمعة يفتح الله علينا فوقف علي باب المغارة رجل عليه سماء الخير فقال السلام عليكم فرددنا عليه السلام وقلنا له كيف أنت فنهض علينا وقال كيف يكون حال من يقول في هذا الشهر يفتح الله في هذه الجمعة يفتح الله لا فتح ولا فلاح هلا عبدنا الله كما أمرنا ثم غاب عنا ففهمنا من أين أخذنا فرجعنا على أنفسنا باللوم ففتح الله علينا" ،بالمعنى ذكره في التنوير، فمن طلب الخصوصية كان عبد الخصوصية وفاته حظه من الله حتى يتوب ومن كان عبد الله نال حظه من العبودية وأدركته الخصوصية من غير التفات إليها ولا طلب والله تعالى أعلم.