محاسبة النفس على الأنفاس والخواطر؛ والأنفاس أزمنة دقيقة تتعاقب على العبد ما دام حيّا، وأما الخواطر فكل ما يخطر على قلبه وبباله من خواطر دينية أو دنيوية فيترك أثرا في القلب؛ فمنها ما هو ربّاني ومن لَـمَّة الـمَلك، ومنها ما هو نفساني ومن لَـمَّة الشيطان.
فالخواطر مبدأ الخير والشر، ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم، فمن راعى أنفاسه وخواطره مَلَك زمام نفسه، ومن استهان بها قادته قهرا إلى المهلكات؛ قال الشافعي: صحبت الصوفية فلم أستفد منهم سوى حرفين، أحدهما: “ونفسك إن لم تشغلها بالحق، وإلا شغلتك بالباطل”[1]، لذلك يُعِد الصوفية الغفلة من أنواع الردة ولو خطرة على سبيل المبالغة كما قال :
ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي
والصوفية الكرام يستحضرون قول الله تعالى: “يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ” [ الطارق، 9]، أي يومَ تختبر وتمتحن، والسرائر: جمع سريرة، وهي ما يُسِره الإنسان ويخفيه من نواياه، وهو كناية عن الحساب عليها والجزاء. ولو لم يكن من مبادئ طريق التصوف إلا مبدأ محاسبة النفس على الأنفاس والخواطر وعلى الصغيرة قبل الكبيرة لكان فيه اكتفاء.
إن النفس آية من آيات الله تعالى، لذلك أقسم بها بنص القرآن، فقال: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا“ [الشمس، 7-8]، ومُحاسبتها أمرٌ واجبٌ على المؤمن التقي السالك، لقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ” [الحشر، 18]، فالآيةُ الكريمةُ أَصْلٌ في محاسبةِ العبد لنفسه، وأنَّهُ ينبغي له أن يتفقَّدَها في الأنفاس والخواطر، وفي الصغائر قبل الكبائر؛ لأن النّفْس كالبصر يقع فيها أدنى شيء فيُعطل النظر، وقد ينتهي الأمر به إلى العمى، قال تعالى: “فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ“ [الحج، 44].
لذلك أمر الله بتفقد النفس ومحاسبتها حتى تصير خالصة له تعالى، قال عمر بن الخطاب: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم”[2]، وقال الصوفية الكرام: “لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبته شريكه”[3].
فالنفْس تَدْعُو الإنسان إلى الطُّغيان واتِّباعِ الهَوَى وإيثار الحياةِ الدُّنيا على الأُخْرَى، والمؤمنُ صاحب القلب الحَيٌّ، كثيرُ المحاسبةِ لنفسِهِ، يحاسبها أولا على الفرائض، ثُم على المنَاهِي والمحَارِم، ثُم على الغَفْلَةِ والنِّسيان، ثُم على ما يرد من الخواطر على القلب والوجدان؛ قال تعالى: “اِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا” [الاِسراء، 36]، وقال: “يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا، وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ اَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا” [آل عمران، 30].
ومحاسبة النفس في حركاتها وسكناتها، وخواطرها وخطواتها، حتى تخرج من عالم الخلق إلى عالم الحق، هو السبيل لأن تتعرض لتجليات ونفحات الحق عز وجل، لأن العبد مطلوب بحق العبودية في كل نفَس؛ قال تعالى “وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ” [البقرة، 233]، وقال: “وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ” [الاَنبياء، 47]؛ وهذا هو مراد الناظم بقوله: “ويزن الخاطر بالقسطاس“؛ والقسطاس بضم القاف وكسرها هو الميزان بلغة الروم، فما من نفَسِ نفَس، وما من خاطرٍ خاطر إلا وينظر هل هو لله أو فيه رياء وسمعة.. فتدقيق الحساب مع النفس أهم كثيرا من تدقيقه في أرباح الدنيا الحقيرة الفانية.
قال ابن عطاء الله في “تاج العروس”: “اجعل نفسك كدابتك، كلما عدَلتْ عن الطريق ضربتها فرجعت إليها، ولو فعلت مع نفسك كما تفعل في ملابسك كلما توسخت غسلتها، وكلما تقطع شيء منها رقعته وجدّدته، كان لك السعادة، فَرُبَّ رجل ابيضت لحيته، وما جلس مع الله جلسة يحاسب فيها نفسه”[4].
فأنفاس الإنسان هي أجزاء عمره، وكل نفَس جوهرة نفيسة، إذا فاتته في ما لا يرضي الله فاته من السعادة بقدرها ولا عوض له منها، فكيف بالعاقل أن يغفل عن محاسبة أنفاسه؛ قال عليه الصلاة والسلام: “الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله“[5]، وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: “بقية عمر المرء مالَها ثمن، يدرك فيها ما فات، ويحيي ما أمات”[6]، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه “إذا جَنَّ عليه الليل حاسب نفسه، وربما ضرب نفسه بالدرة”[7].
لذلك جعل السالكون العمر والأوقات كلها وقتا واحدا لله، ولم يجعلوا شيئا منه لغيره، ففي صحيح البخاري: “أن معاذا، قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي“[8].
وقال الشيخ أبو العباس المرسي: “أوقات العبد أربعة لا خامس لها: النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية. ولله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية، فمن كان وقته الطاعة فسبيله شهود المنة من الله عليه..، ومن كان وقته المعصية، فسبيله الاستغفار والتوبة، ومن كان وقته النعمة فسبيله الشكر..، ومن كان وقته البلية فسبيله الرضا بالقضاء والصبر..”[9].
ولا تتأتى محاسبة النفس على الأنفاس والخواطر إلا إذا طهُر القلب من الصفات المذمومة واستنار بنور التقوى؛ فالقلب قد تقع فيه خطرات الشيطان، ولكن لا يكون لها استقرار، ولا يكون لها سلطان على القلب التقي، قال تعالى: “إِنَّ الَذِينَ اَتَّقَوِاْ اِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطاَنِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُون” [الاَعراف، 201].
** ** **
د. إسماعيل راضي