آخر الأخبار

جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم(13)

ثم إحتجابه تعالى في حال ظهوره مما يدلك على وجود قهره كما أشار إليه بقوله:

(مما يَدُلُّك على وُجُودِ قَهْرِه سبحانه أن حَجَبَك عنه بما ليس بموجودٍ معه)


من أسمائه تعالى القهار ومن مظاهر قهره إحتجابه في ظهوره وظهوره في بطونه وبطونه في ظهوره ومما يدلك أيضاً على وجود قهره ان إحتجب بلا حجاب وقرب بلا إقتراب بعيد في قربه قريب في بعده إحتجب عن خلقه في حال ظهوره لهم وظهر لهم في حال إحتجابه عنهم فاحتجب عنهم بشيء ليس بموجود وهو الوهم والوهم أمر عدمي مفقود "فما حجبه إلا شدة ظهوره وما منع الأبصار من رؤيته إلا قهارية نوره" فتحصل إنفراد الحق بالوجود وليس مع الله موجود قال تعالى:" كل شيء هالك إلا وجهه" 
وقال تعالى:" هو الأول والآخر والظاهر والباطن" وقال تعالى:" فأينما تولوا فثم وجه الله" وقال تعالى:" وهو معكم أينما كنتم" وقال تعالى:" وإذ قلنا لك أن ربك أحاط بالناس" وقال تعالى: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " وقال تعالى: " ان الذين يبايعونك إنما يبايعون الله "، وقال صلى الله عليه وسلم:" أفضل كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد، ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وكل نعيم لا محالة زائل"، وقال صلى الله عليه وسلم:" يقول الله تعالى يا عبدي مرضت فلم تعدني فيقول يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول الله إما أنه مرض عبدي فلان فلم تعده فلو عدته لوجدتني عنده ثم يقول يا عبدي إستطعمتك فلم تطعمني ثم يقول أستسقيتك فلم تسقني" فدل الحديث على أن هذه الهياكل والأشخاص خيالات لا حقيقة لها فهي أشبه شيء بالظلال.
ثم أستدل على بطلان وجود الحجاب في حقه تعالى بعشرة أمور متعجباً من كل واحد لظهوره مع خفائه أي لشدة ظهوره عند العارفين وشدة خفائه عند الغافلين الجاهلين فأشار إلى الأول بقوله:

(كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي أظهر كل شيء)


والظاهر هو الباطن ما بطن في عالم الغيب هو الذي ظهر في عالم الشهادة فحياض الجبروت متدفقة بأنوار الملكوت، أنظر جمالي شاهداً في كل إنسان، الماء يجري نافداً، في أس الأغصان، تجده ماء واحداً، والزهر ألوان، يا عجباً كيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف، عجبت لمن يبغي عليك شهادة، وأنت الذي أشهدته كل شاهد، ثم ذكر الثاني فقال:

(كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء)


لا وجود لشيء مع وجوده فكيف يحجبه شيء والغرض أن لاشيء.

ثم ذكر الثالث فقال:" كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر في كل شيء" بقدرته وحكمته القدرة باطنة والحكمة ظاهرة فالوجود كله بين قدرة وحكمة وبين جمع وفرق وقد تقدم قول بعضهم:" ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه" أي بقدرته وحكمته فلولا ظهور أنوار الصفات ما عرفت الذات ولا الحس ما قبضت المعني ولولا الكثيف ما عرفت اللطيف.
ثم ذكر الرابع فقال:"كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الظاهر لكل شيء"
أي المتجلي لكل شيء بأسرار ذاته وأنوار صفاته ولما تجلى لكل شيء وعرفه في الباطن كل شيء وسبح بحمده كل شيء فلم يجبه شيء عن شيء قال الله تعالى: " وأن من شيء إلا يسبح بحمده " يقول بلسان حاله سبحان المتجلي لكل شيء الظاهر بكل شيء يفقهه العارفون ويجهله الغافلون.
ثم ذكر الخامس فقال:" كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الظاهر قبل وجود كل شيء"
فكل ما ظهر فمنه وإليه فكان في أزله ظاهراً بنفسه ثم تجلى لنفسه بنفسه فهو الغني بذاته عن أن يظهر بغيره أو يحتاج إلى من يعرفه غيره فالكون كله مجموع والغير عندنا ممنوع.
" ثم ذكر السادس فقال:" كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أظهر من كل شيء"
إذ لا وجود للأشياء مع وجوده ولا ظهور لها مع ظهوره وعلى تقدير ظهورها فلا وجود لها من ذاتها فلولا ظهوره في الأشياء ما وقع عليها أبصارفالعبد في حالة الحجاب تكون نفسه وجودها عنده ضرورياً ووجود الحق تعالى عنده نظرياً فإذا عرف الحق وفنى عن نفسه وتحقق بزوالها صار عنده وجود الحق ضرورياً ووجود نفسه نظرياً بل محال ضروري قال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه:" انا لننظر إلى الله ببصر الإيمان والإيقان فأغنانا عن الدليل والبرهان وانا لا نرى أحداً من الخلق فهل في الوجود أحد سوى الملك الحق وان كان ولا بد فكالهباء في الهواء إن فتشتهم لم تجدهم شيئاً" زاد في لطائف المنن:"ومن أعجب العجب أن تكون الكائنات موصلة إلى الله فليت شعري هل لها وجود معه حتى توصل إليه أو هل لها من الوضوح ما ليس له حتى تكون هي المظهرة له وإن كانت الكائنات موصلة له فليس ذلك لها من حيث ذاتها لكن هو الذي ولاها رتبة التوصيل فوصلت فما وصل إليه غير إلهيته ولكن الحكيم هو واضع الأسباب وهي لمن وقف معها ولا ينفذ إلى قدرته عين الحجاب فظهور الحق أجلى من كل ما ظهر إذ هو السبب في ظهور كل ما ظهر وما أختفى إلا من شدة ما ظهر ومن شدة الظهور الخفاء" .
فالحق تعالى واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله فلا شيء قبله ولا شيء بعده ولا شيء معه. 
ثم ذكر السابع فقال:"كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الواحد الذي ليس معه شيء"
لتحقق وحدانيته أزلاً وأبداً كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان أإله مع الله تعالى الله عما يشركون أفي الله شك فكل ما ظهر للعيان فإنما هو مظاهر الرحمن.
فالحق تعالى واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله فلا شيء قبله ولا شيء بعده ولا شيء معه.
ثم ذكر الثامن فقال:"كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أقرب إليك من كل شيء"
قال تعالى: " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " وقال تعالى: " ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون " وقال تعالى: " وكان الله على كل شيء رقيباً وأن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى " وقربه تعالى قرب علم وإحاطة وشهود لاقرب مسافة إذ لا مسافة بينك وبينه.
قيل لسيدنا علي كرم الله وجهه:"يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أين كان ربنا أو هل له مكان فتغير وجهه وسكت ساعة ثم قال قولكم أين الله سؤال عن مكان وكان الله ولا مكان ثم خلق الزمان والمكان وهو الآن كما كان دون مكان ولا زمان" جاء في حديث البخاري يقول الله تعالى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ"والله تعالى أعلم.
ثم ذكر التاسع فقال:" كيف يتصور أن يحجبه شيء ولولاه لما ظهر وجود كل شيء"
قال تعالى: " وخلق كل شيء فقدره تقديراً " وقال تعالى: " إنا كل شيء خلقناه بقدر " فكل ما ظهر في عالم الشهادة فهو فائض من عالم الغيب وكل ما برز في عالم الملكوت فهو فائض من بحر الجبروت فلا وجود للأشياء إلا منه ولا قيام لها إلا به ولا نسبة لها معه إذ هي عدم محض وعلى توهم وجودها فهي حادثة فانية ولا نسبة للعدم مع الوجود ولا للحادث مع القديم ولذلك تعجب الشيخ من إجتماعهما فقال:" يا عجباً كيف يظهر الوجود في العدم أم كيف يثبت الحادث مع من له وصف القدم"
وهذا هو العاشر فالوجود والعدم ضدان لا يجتمعان والحادث والقديم متنافيان لا يلتقيان وقد تقرر أن الحق واجب الوجود وكل ما سواه عدم على التحقيق فإذا ظهر الوجود أنتفي ضده وهو العدم فكيف يتصور أن يحجبه وهو عدم فالحق لا يحجبه الباطل قال تعالى: " فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال " فلا وجود للأشياء مع وجوده فأنتفى القول بالحلول إذ الحلول يقتضي وجود السوى حتى يحل فيه معنى الربوبية والفرض أن السوى عدم محض فلا يتصور الحلول،والقديم والحادث لا يلتقيان فإذا قرن الحادث بالقديم تلاشي الحادث وبقي القديم.
قال رجل بين يدي الجنيد: { الحمد لله } ولم يقل: { رب العالمين } ، فقال له الجنيد: كَمِّلْهَا يا أخي، فقال الرجل: وأيّ قَدْر للعالمين حتى تُذكر معه؟! فقال الجنيد: قُلها يا أخي؛ فإن الحادث إذا قُرن بالقديم تلاشى الحادُ وبقي القديم.
فقد تقرر أن الأشياء كلها في حيز العدم إذ لا يثبت الحادث مع من له وصف القدم فأنتفى القول بالإتحاد إذ معنى الإتحاد هو إقتران القديم مع الحادث فيتحدان حتى يكونا شيئاً واحداً وهو محال إذ هو مبني أيضاً على وجود السوي ولا سوي وقد يطلقون الإتحاد على الوحدة كقول ابن الفارض:
وهامت بها روحي بحيث تمازجا ... إتحاداً ولا جرم تخلله جرم
فأطلق الإتحاد على إتصال الروح بأصلها بعد صفائها ولذلك قال بعده ولا جرم تخلله إلخ. 
فتحصل أن الحق سبحانه واحد في ملكه قديم أزلي باق أبدي منزه عن الحلول والإتحاد مقدس عن الشركاء والأضداد كان ولا أين ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان. 
سئل أبو الحسن النوري رضي الله عنه أين الله من مخلوقاته ؟ فقال:" كان الله ولا أين والمخلوقات في عدم فكان حيث هو وهو الآن حيث كان إذ لا أين ولا مكان فقال له السائل وهو علي بن ثور القاضي في قصة محنة الصوفية فما هذه الأماكن والمخلوقات الظاهرة فقال عز ظاهر وملك قاهر ومخلوقات ظاهرة به وصادرة عنه لا هي متصلة به ولا منفصلة عنه فرغ من الأشياء ولم تفرغ منه لأنها تحتاج إليه وهو لا يحتاج إليها قال له صدقت فأخبرني ماذا أراد الله بخلقها قال ظهور عزته وملكه وسلطانه قال صدقت فأخبرني ما مراده من خلقه قال ما هم عليه قال أو يريد من الكفرة الكفر قال أفيكفرون به وهو كاره ثم قال أخبرني ماذا أراد الله بإختلاف الشيع وتفريق الملل قال أراد إبلاغ قدرته وبيان حكمته وإيجاب لطفه وظهور عدله وإحسانه" وفيه إشارة إلى أن تجليات الحق على ثلاثة أقسام قسم أظهرهم ليظهر فيهم كرمه وإحسانه وهم أهل الطاعة والإحسان وقسم أظهرهم ليظهر فيهم عفوه وحلمه وهم أهل العصيان من أهل الإيمان وقسم أظهرهم ليظهر فيهم نقمته وغضبه وهم أهل الكفر والطغيان فهذا سر تجليه تعالى في الجملة والله تعالى أعلم.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية