فذلك حاصل ما اشتمل عليه هذا الباب من أول الكتاب ثلاثة أمور عمل الشريعة والطريقة والحقيقة، أو تقول عمل الإسلام والإيمان والإحسان، وهي البداية والوسط والنهاية، ومن علامة النجح في النهاية الرجوع إلى الله في البداية مع وجود العمل، ثم ذلك على الأدب في حال التجريد والأسباب ثم نهاك في حالة المسير عن شغل باطنك بكد التدبير فإنه سبب التكدير، ثم أنهضك إلى الإجتهاد في الأعمال المطلوبة منك مع التقصير فيما هو مضمون لك، ليكون سبباً في فتح بصيرتك، ومن جملة ما هو مضمون ما تطلبه بدعائك فلا تستعجل ما تأخر عن وقته ولا تيأس من رحمته، وإذا وعدك بشيء فلا تشك في وعده ولا تتهمه فيما ينزل بك من تعرفاته وقهره، فهذه أعمال أهل البدايات أختلفت أجناسها بإختلاف أحوالهم فقوله: من علامة الإعتماد على العمل إلى قوله الأعمال صور قائمة كله من عمل الشريعة الذي هو مقام الإسلام، وقوله الأعمال صور قائمة إلى قوله الكون كله ظلمة، هو من عمل الطريقة، الذي هو مقام الإيمان، ومداره على تخليص الباطن وتهذبيه، فأمرك بالإخلاص والصدق وهو سر الإخلاص والخمول لأنه محله ومظهره، والعزلة لتتمكن من الفكرة وتصفية مرآة القلب من صور الأكوان لتتهيأ لاشراق شموس العرفان، ثم فتح لك الباب ورفع عنك الحجاب وقال لك ها أنت وربك ،وهو قوله: الكون كله ظلمة إلى آخر الباب فقد قطع لك توهم الحجاب من جميع الوجوه فجزاه الله أحسن جزائه ومتعه برضوانه مع أنبيائه وأحبائه وخرطنا في سلكهم مع كافة الأحباب أمين.
ولما أدخلك الحضرة دلك على آدابها فقال رضي الله عنه
" ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهره الله فيه"
الجهل هو ضد العلم وقيل هو عدم العلم بالمقصود وهو على قسمين بسيط ومركب فالبسيط أن يجهل ويعلم أنه جاهل والمركب أن يجهل جهله وأقبح الجهل الجهل بالله وإنكاره بعد طلب معرفته.
من آداب العارف الحقيقي أن يقر الأشياء في محلها ويسير معها على سيرها فكلما أبرزته القدرة للعيان فهو في غاية الكمال والإتقان.
وقال أبو الحسن النوري رضي الله عنه:" مراد الله من خلقه ما هم عليه" فإذا أقام الله عبداً في مقام من المقامات فالواجب على العارف أن يقره فيه بقلبه كائناً ما كان فإن كان لا تسلمه الشريعة رغبه في الخروج عنه بالسياسة وينظر ما يفعل الله قال بعضهم:"من عامل الخلق بالشريعة طال خصمه معهم ومن عاملهم بالحقيقة عذرهم" والواجب أن يعاملهم في الظاهر بالشريعة فيذكرهم وفي الباطن بالحقيقة فيعذرهم ومن أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهره الله تعالى في نفسه أو في غيره فقد جمع الجهل كله ولم يترك منه شيئاً حيث عارض القدر ونازع القادر وقد قال تعالى:"إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ" "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ" "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ " وفي بعض الأخبار يقول الله تبارك وتعالى:" من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليخرج من تحت سمائي وليتخذ رباً سواي" وقال عبد الله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: لأن الحس جمرة أحرقت ما أحرقت وأبقت ما أبقت أحب إلى من أن أقول لشيء كان ليته لم يكن أو لشيء لم يكن ليته كان" وقال أبو عثمان رضي الله عنه:" منذ أربعين سنة ما أقامني الله تعالى في حال فكرهته ولا نقلني إلي غيره فسخطته وقال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه:" من عرف أهل حقائق الظاهر ولم ينكر عليهم شيئاً من أحوالهم يظفر بما في أيديهم ولا يمنع خيرهم قطعاً ومن عرف أهل حقائق الباطن ولم ينكر عليهم شيئاً من أحوالهم يظفر بما في أيديهم" على كل حال العارف بالله يجمع بين خير الفرقتين يصطحب معهما جميعاً وكل فرقة يتلون على لونها.
قيل أن الولي الكامل يتطور بجميع الأطوار يقضي جميع الأوطار قلت ومن تأمل الأحاديث النبوية وجدها على هذا المنوال لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان سيد العارفين وقدوة المربين فكان يقر الناس على ما أقامهم الله في حكمتهم ويرغبهم فيها فلذلك تجد الأحاديث متعارضة ولا تعارض في الحقيقة فإذا نظرت في أحاديث الذكر قلت لا أفضل منه وإذا نظرت في أحاديث الجهاد قلت لا أفضل منه وإذا نظرت في أحاديث فضل العلم قلت لا أفضل منه وإذا نظرت في أحاديث الزهد والتجريد من أسباب الدنيا قلت أفضل منه وإذا نظرت في أحاديث الكسب والخدمة على العيال كذلك فكل حكمة رغب النبي صلى الله عليه وسلم فيها حتى تقول لا أفضل منها تطييباً لخاطر أهلها ليكونوا فيها على بينة من ربهم ولم يأمرهم عليه السلام بالإنتقال عنها إذ مراد الله منهم هو تلك الحكمة فأقرهم عليه السلام عليها ورغبهم فيها حتى يظن من يسمع أحاديثها أنه لا أفضل منها وهو كذلك إذ لا أفضل منها في حق أهلها والحاصل أن العارف لا ينكر شيئاً ولا يجهل شيئاً وقد قال بعض العارفين:" ليس في الإمكان أبدع مما كان" وتأويله أن ما سبق في علم الله يكون لا يمكن غيره فلا أبدع منه والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الأدب الثاني من آداب الحضرة القدسية وهي ترك الرعونات البشرية فقال:
"أحالتك الأعمال على وجود الفراغ من رعونات النفوس"
من آداب العارف أن يكون كامل العقل ثاقب الذهن، ومن علامة العقل إنتهاز الفرصة في العمل ومبادرة العمر من غير تسويف ولا أمل، إذ ما فات منه لا عوض له وما حصل لا قيمة له وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أَلا وَإِنَّ مِنْ عَلامَاتِ الْعَقْلِ التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ ، وَالإِنَابَةَ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ ، وَالتَّزَوُّدَ لِسُكْنَى الْقُبُورِ ، وَالتَّأَهُّبَ لِيَوْمِ النُّشُورِ" و قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " . والكيس هو العاقل، ودان نفسه حاسبها، وفي صحف إبراهيم عليه السلام: "وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله، أن تكون له ساعات ساعة يناجي فيها ربه عز وجل، وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يتفكر فيها في صنع الله عز وجل، وساعة يخلو فيها بحاجته من المطعم والمشرب، وعلى العاقل أن لا يكون ظاعناً إلا لثلاث: تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة من غير محرم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه".
فإحالتك الأعمال وتأخيرها إلى وقت آخر تكون فيه فارغ القلب أو القالب من علامة الرعونة والحمق وهو غرور، ومن أين لك أن تصل إلى ذلك الوقت والموت هاجم عليك من حيث لا تشعر، وعلى تقدير وصولك إليه لا تأمن من شغل آخر يعرض لك وفراغ الأشغال من حيث هو نادر لقوله عليه السلام:" نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ "أي كثير من الناس فقدوهما وغبنوا فيهما إذ كثير منهم لا تجده إلا مشغولاً بدنياً أو مفتوناً بهوى أو مريضاً مبتلى، وأن القليل من الناس رزقهم الله الصحة والفراغ فإن عمروهما بطاعة مولاهم فقد شكروا وربحوا ربحاً عظيماً، وإن ضيعوهما فقد خسروا خسراناً مبيناً، وكفروا بهاتين النعمتين، فجدير أن تسلبا عنهم، وهو أيضاً من علامة الخذلان، فالواجب على الإنسان أن يقطع علائقه وعوائقه ويخالف هواه ويبادر إلى خدمة مولاه ولا ينتظر وقتاً آخر، إذ الفقير ابن وقته فلا تجده مشغولاً إلا بفكرة أو نظرة أو ذكر أو مذاكرة أو خدمة شيخ يوصله إلى مولاه وقد قلت لبعض الإخوان:" الفقير الصديق ليس له فكرة ولا هدرة إلا في الحضرة أو ما يوصله للحضرة" والله تعالى أعلم.