أيها العبد اطلب التوبة من الله في كل وقت فان الله تعالى قد ندبك اليها قال عز وجل:{إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}،وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة" .
فإن أردت التوبة فينبغي لك ألا تخلو من التفكر طول عُمرك فتفكر فيما صنعت في نهارك فإن وجدت معصية فوبخ نفسك على ذلك واستغفر الله وتُب إليه ، فإنه لا مجلس مع الله أنفع لك من مجلس تُوبخ فيه نفسك . ولاتوبخها وأنت ضاحكٌ فرح ، بل وبخها وانت مُجدٌ صادق مُظهرٌ للعبوسة حزين القلب منكسر ذليل . فإن فعلت ذلك أبدلك الله بالحزن فرحا وبالذل عزا وبالظلمة نورا وبالحجاب كشفا .
وعن الشيخ مكين الدين الأسمر رحمه الله تعالى وكان من السبعة الأبدال قال :"كنت في إبتداء أمري أخيط وأتقوت من ذلك وكنت أعد كلامي بالنهار فإذا جاء المساء حاسبت نفسي فأجد كلامي قليلا فما وجدت فيه من خير حمدت الله وشكرته ، وما وجدت فيه من غير ذلك تُبتُ إلى الله واستغفرته" .
واعلم أنه إذا كان لك وكيل يحاسب نفسه ويحاققها فأنت لا تحاسبه ، لمحاسبته نفسه ، وإن كان وكيلا غير محاقق لنفسه فأنت تحاسبه وتُحاققه وتُبالغ في محاسبته . فعلى هذا ينبغي أن يكون عملك كله لله تعالى ولا ترى أنك تفعل فعلا والله تعالى لا يحاسبك ولا يُحاققك .
وإذا وقع من العبد ذنب وقع معه ظُلمة ، فمثال المعصية كالنار والظلمة دُخانها ، كمن اوقد في بيت سبعين سنة ، ألا ترى أنه يسود ؟ كذلك القلب يسود بالمعصية فلا يطهر إلا بالتوبة إلى الله ، فصار الذل والظلمة والحجاب مقارنا للمعصية ، فإذا تبت إلى الله زالت آثار الذنوب .ولا يدخل عليك الإهمال إلا بإهمالك عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ولا تُحصل لك الرفعة عند الله تعالى إلا بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم والمتابعة له عليه الصلاة والسلام على قسمين : جلية ، وخفية .
فالجلية : كالصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وغير ذلك .
والخفية : أن تعتقد الجمع - الرؤية الحق وحده سبحانه - في صلاتك والتدبر في قراءتك ، فإذا فعلت الطاعة كالصلاة والقراءة ولم تجد فيها جمعا ولا تدبرا فاعلم أن بك مرضا باطنا من كبر أو عُجب أو غير ذلك ، قال تعالى: "سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ" فيكون مثالك كالمحموم الذي يجد في فمه السُكر مُرا . فالمعصية مع الذل والإفتقار خير من الطاعة مع العز والإستكبار .
قال الله تعالى حاكيا عن ابراهيم الخليل :" فمن تبعني فإنه مني " فمفهوم هذا أن من لم يتبعه ليس منه وقال تعالى حاكايا عن نوح: " رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي" فأجابه سبحانه وتعالى: "إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ" فالمتابعة تجعل التابع كأنه جزء من المتبوع وإن كان أجنبيا كسلمان الفارسي رضى الله عنه لقوله رسول الله :" سلمان منا أهل البيت" . ومعلوم أن سلمان من أهل فارس ولكن بالمتابعة قال عنه رسول الله تعليما فكما أن المتابعة تُثبت الإتصال كذلك عدمها يُثبت الإنفصال .
وقد جمع الله الخير كله في بيت وجعل مفتاحه متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ، فتابعه بالقناعة بما رزقك الله تعالى ، والزهد والتقلل من الدنيا وترك ما لا يعني من قول وفعل ، فمن فُتح له باب المتابعة فذلك دليلٌ على محبة الله له . قال تعالى:﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
فإذا طلبت الخير كله فقل : اللهم إني أسألك المتابعة لرسولك صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال . ومن أردا ذلك فعليه بعدم الظلم لعباد الله في أعراضهم وأنسابهم فلو سلموا من ظلم بعضهم بعضا لانطلقوا إلى الله ولكنهم معوقون كالميدان - من أثقلته الديون - المعوق بسبب من يطلبه.
واعلم أنك لو كنت مُخصصا عند الملك مقربا منه وجاء يطلبك بدين ، ضيق عليك ولو كان نزرا يسيرا ، فكيف بك إذا جئت يوم القيامة ومئةُ ألف إنسان أو أكثر يطلبونك بديون مختلفة من أخذ مال ، وقذف عرض ، وغير ذلك فكيف يكون حالك ؟!
المُصابُ حقا من محقته - ذهبت به ومحته - الذنوب والشهوات حتى جعلته كالشن البالي ، هذا المنكوب المعزى ، ذهبت مآكله وشهواته ملأ بها المرحاض وأرضى بها زوجته ، ويا ليتها كانت من حلال !فالأول من المقامات : التوبة ، ولا يقُبل ما بعدها إلا بها .
مثال العبد إذا فعل معصية كالقدر الجديد يُوقد تحتها النار ساعة فتسود ، فإن بادرت إلى غسلها انغسلت من ذلك السواد ، وإن تركتها وطبخت فيها مرة بعد مرة ثبت السواد فيها حتى تتكسر ، ولا يُفيد غسلها شيئا . فالتوبة هي التي تغسل سواد القلب فتبرزُ الأعمال وعليها رائحة القبول ، فاطلب من الله تعالى التوبة دائما فإن ظفرت بها فقد طاب وقتك ، لأنها موهبة من الله تعالى يضعها حيث شاء من عباده ، وقد يظفر بها العبد المشقق الأكعاب دون سيده ، وقد تظفر بها المرأة دون زوجها ، والشاب دون الشيخ ، فإن ظفرت بها فقد أحبك الله لقوله تعالى:" إن الله يُحبُ التوابين ويُحبُ المُتطهرين " إنما يغتبط بالشيء من يعرف قدره ولو بدرت الياقوت بين الدواب لكان الشعير أحب إليهم،فانظرمن أي الفريقين أنت ؟فإن تبت فأنت من المحبوبين ، وإن لم تتب فأنت من الظالمين ، قال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .ومن تاب ظفر ، ومن لم يتب خسر . ولا تقطع يأسك وتقول : كم أتوب وأنقض ، فالمريض يرجو الحياة ما دامت فيه الروح .وإذا تاب العبد فرحت به داره من الجنة ، وتفرح السماء والأرض ورسول الله ، فالحق سبحانه لم يرض أن تكون مُحبا بل محبوبا ، وأين المحبوب من المحب ؟!!
أف لعبد يعلم إحسان المحسن فيجترىء على معصيته ، ولكن ما عرف إحسانه من آثر عصيانه ، وما عرف قدره من لم يراقبه ، وما ربح من اشتغل بغيره وعلم أن النفس تدعوه إلى الهلكة فتبعها ، وعلم أن القلب يدعوه إلى الرُشد فعصاه ، وعلم قدر المعصي فواجهه بالمعصية - ولو علم اتصافه بعظمته لما قابله بوجود معصيته - وعلم قُرب مولاه وأنه يراه فسارع لما عنه نهاه وعلم أثر الذنب المرتب عليه دنيا وأخرى ، وغيبا وشهادة فما استحيى من ربه ، ولو علم أنه في قبضته لما قابله بمخالفته .
واعلم ان المعصية تتضمن : نقض العهد ، وتحليل عقد الوُد ، والإيثار على المولى والطاعة للهوى وخلع جلباب الحياء والمبارزة لله بما لا يرضى ، مع ما في ذلك من الآثار الظاهرة من ظهور الكدورة في الأعضاء والجمود في العين والكسل في الخدمة وترك الحفظ للحُرمة وظهور كسب الشهوات وذهاب بهجة الطاعات .
وأما الآثار الباطنة : فكالقساوة في القلب ، ومعاندة النفس وضيق الصدر بالشهوات وفُقدان حلاوة الطاعات وترادف الأغيار المانعة من بروق شوارق الأنوار ، واستيلاء دولة الهوى إلى غير ذلك من ترادف الارتياب ونسيان المآب وطول الحساب .
ولو لم يكن في المعصية إلا تبدل الإسم لكان ذلك كافيا فإنك إذا كنت طائعا تسمى بالمحسن المقبل وإذا كنت عاصيا انتقل أسمُك إلى المُسمى المُعرض . هذا في انتقال الاسم فكيف بانقال الأثر من تبدل حلاوة الطاعة بحلاوة المعصية ولذاذة الخدمة بلذاذة الشهوة ؟!هذا في تبدل الأثر فكيف بتبدل الوصف ؟ بعد أن كنت موصوفا عند الله بمحاسن الصفات ينعكس الأمر فتتصف بتبدل المرتبة ؟ فبعد أن كنت عند الله من الصالحين صرت عنده من المفسدين وبعد أن كنت عند الله من المتقين صرت عنده من الخائنين .
فإن كانت الذنوب منفتحة في وجهك فاستغث بالله والجأ إليه واحثُ التراب على رأسك وقُل : اللهم انقلني من ذُل المعصية إلى عز الطاعة . وزُر ضرائح الأولياء والصالحين وقل يا أرحم الراحمين .
أتريد أن تجاهد نفسك وأنت تُقويها بالشهوات حتى تغلبك ؟! ألا فقد جهلت! فالقلب شجرة تُسقى بماء الطاعة ، وثمراتها مواجيدها : فالعين ثمرتها الاعتبار ، والأُذُنُ ثمرتها الإستماع للقرآن ، واللسان ثمرته الذكر واليدان والرجلان ثمرتهما السعي في الخيرات ، فإذا جف القلب سقطت ثمراته فإن أجدب فأكثر من الأذكار، ولا تكن كالعليل يقول : لا أتداوى حتى أجد الشفاء ، فيقال له : لا تجد الشفاء حتى تتداوى ، فالجهاد ليس معه حلاوة وما معه إلا رؤوس الأسنة ، فجاهد نفسك ، هذا هو الجهاد الأكبر واعلم ان الثكلى لا عيد لها ، بل العيد لمن قهر نفسه ، لا عيد إلا لمن جمع شمله .
جاز بعضهم على دير راهب فقال له : يا راهب ، متى عيد هؤلاء القوم ؟ قال : يوم يغفرُ الله لهم .
ما مثالك مع نفسك إلا كمن وجد زوجته في حانة خمار ، فأتاها بالملابس الحسنة والمآكل الطيبة ، وإذا تركت الصلاة أصبح يُطعمها الهرائس والألوان .
بقى بعضهم أربعين سنة لا يحضر الجماعة لما يشمُ من نتن قلوب الغافلين ، فما أعرفك بمصالح الدنيا ، وما أجهلك بمصالح آخرتك !مثال الدنيا عندك كمن خرج إلى الضيعة ، واجتهد فخزن الأقوات ، فأنت قد أتيت بما يعود نفعه عليك في وقته ، وإن خزنت حيات الشهوات وعقارب المعصية هلكت . كفى بك جهلا أن الناس يخزنون الأقوات لوقت حاجتهم إليها ، وأنت تخزنُ ما يضرك وهي المعاصي ! هل رأيت من يأتي بحيات فيربيها في داره ؟ فها أنت تفعل ذلك .
وأضرُ ما يُخاف عليك محقرات الذنوب ، لأن الكبائر ربما استعظمتها فتُبت منها ، واستحقرت الصغائر فلم تتب منها . فمثالك كمن وجد أسدا فخلصه الله منه ، فوجد بعده خمسين ذئبا فغلبوه . قال الله تعالى:" وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " والكبيرة حقيرة في كرم الله ، وإذا السُم يقتل مع صغره . والصغيرة كالشرارة من النار ، والشرارة قد تحرق بلدة .
من أنفق عافيته وصحته في معصية الله ، فمثاله كمن خلف له أبوه ألف دينار ، فاشترى بها حيات وعقارب وجعلها حوله ، تلدغه هذه مرة وتلسعه هذه أخرى ، أفما تقتله ؟! وأنت تمحق الساعات في مخالفته ، فما مثالك إلا كالحدأة تطوف على الجيفة ، حيثما وجدتها انحطت عليها ، فكن كالنحلة ، صغيرٌ جرمُها ، عظيمة همتها ، تجني طيبا وتضع طيبا .
طالما تمرغت في مواطن المحت ، فتمرغ في محاب الله عز وجل ، فهذه الحقيقة تُبين طريقك ولكن من أماتته الغفلة لم ترُده النكبات لأن المرأة الناقصة العقل يموت ولدها وهي تضحك ، فكذلك أنت تنكب عن قيام الليل وعن صيام النهار وفي جميع جوارحك ولا تتألم!!وما ذلك إلا لأن الغفلة قد أماتت قلبك ، لأن الحيَ يؤلمه نقرُ الإبرة ، ولو قُطع الميتُ بالسيوف لم يتألم ،فأنت حينئذ ميتُ القلب ، فاجلس مجلس الحكمة ففيه نفحةٌ من نفحات الجنة تجدها في طريقك وفي دارك وفي بيتك ، فلا يفُتك المجلس ولو كنت على معصية ولا تقل: ما الفائدة في حضور المجلس وأنا أعصي ولا أقدر على ترك المعصية ؟ بل على الرامي أن يرمي ، فإن لم يأخذ اليوم يأخذ غدا .
اعلم يا هذا: إياك والمعصية فقد تكون سببا لتوقف الرزق فاطلب من الله التوبة فإن قُبلت وإلا فاستغث بالله وقل :"رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"ولا تكن كمن أتى عليه أربعون سنة ولم يقرع باب الله قط .
وأكثر ما يخاف عليك سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى ، بسبب إطفاء جمرة الإيمان بسواد العصيان وهي الذنب حتى يسود القلب من غير توبة .
إياك أن تتهاون في أعمالك وتختار الطيبات لمرحاضك ! واحذر نفسك التي بين جنبيك فهي التي تحطب عليك ثم لا تُفارق صاحبها إلى الممات والشيطان يفارق في رمضان لأنه تُغل فيه الشياطين وربما تجد من يقتل فيه ويسرق فهذا من النفس . فإذا مالت إلى المعصية فذكرها بعذاب الله والقطيعة عن الله بسببه ، والعسل المسموم يُترك من العلم بحلاوته ، لما فيه من وجود الأذى لقوله صلى الله عليه وسلم :"الدنيا حلوة خضرة" . ويروى أيضا : "جيفة قذرة ".حلوة خضرة عند أهل الغفلة وجيفة قذرة عند العقلاء ، حلوة خضرة عند النفوس ، وجيفة قذرة عند مرايا القلوب ، حلوة خضرة للتحذير ، وجيفة قذرة للتنفير ، فلا تخدعنكم بحلاوتها فإن عاقبتها مُرة .
إذا قيل لك : من المؤمن ؟ فقل : الذي اطلع على عيب نفسه ولم ينسب أحدا من العباد إلى عيب ، وإذا قيل لك :من المخذول ؟ فقل :الذي يَنسُبُ العباد إلى العيب ويُبريء نفسه منه .
ومما تمادى عليه أهل الزمان : مُباسطتهم ومؤانستهم للعاصين ولو أنهم عبسوا في وجوههم لكان ذلك زجرا لهم عن المعصية .
لو فُتح لك باب الكمال لما رجعت إلى الرذائل ، أرأيت من فُتح له باب القصور هل يرجع إلى المزابل ؟! ولو فتح لك باب الأُنس بينك وبينه ما طلبت من تأنس به . لو أختارك لربوبيته ما قطعك عنه .لو كرمت عليه ما رماك لغيره .
وإذا عزل عنك محبة مخلوق فافرح فهذا من عنايته بك ، ولا تكون معصية إلا والذل معها ، أفتعصيه ويُعزك ؟! كلا ! فقد ربط العز مع الطاعة ، والذل مع المعصية فصارت طاعته نورا وعزا وكشف حجاب ، وضدها معصيةٌ وظُلمة وذل وحجاب بينك وبينه ، ولكن ما منعك من الشُهود إلا عدم وقوفك مع الحدود ، واشتغالك بهذا الوجود .
إذا عصى ولدك فأدبه بالشرع ، ولا تقطعه ، بل قابله بالعُبوسة ليكف عن المعصية . وأكثر ما يدخل على المؤمن الدخل - العيب والريبة - إذا كان عاصيا ، فإما أن يفضحوه وإما أن يستهزئوا به ، فإذا فعلوع ذلك فقد أخطؤوا الطريق .
إذا عصى المؤمن فقد وقع في ورطة عظيمة ، وطريقه أن تفعل معه كما فعلت مع ولدك إذا عصى ، تُعرض عنه في الظاهر وتكون راحما له في الباطن، وتطلب له الدعاء بالغيب .
كفى بك جهلا أن تحسد أهل الدنيا على ما أعطُوا ، وتشغل قلبك بما عندهم ، فتكون أجهل منهم ، لأنهم اشتغلوا بما أعطوا واشتغلت أنت بما لم تُعط .
ترمد عينك فتعالجها ، وما سبب ذلك إلا أنك ذُقت بها لذة الدنيا ، فتعالجها حتى لا يفوتك النظر إلى مستحسناتها ، وترمد بصيرتك أربعين سنة فلا تعالجها ؟!
واعلم أن عُمرا ضُيع أوله حريٌ أن يُحفظ آخره . كامرأة كان لها عشرة أولاد مات منهم تسعة وبقى واحد ، أليست تردُ وجدها على ذلك الواحد ؟! وأنت قد ضيعت أكثر عُمرك فاحفظ بقيته ، وهي صُبابة يسيرة .والله ما عُمرك من اول وُلدت بل عُمرك من اول يوم عرفت الله تعالى .
شتان بين أهل السعادة وأهل الشقاوة : فأهل السعادة إذا رأوا إنسانا على معصية الله أنكروا عليه الظاهر ، ودعوا له في الباطن . وأهل الشقاوة يُنكرون عليه تشفيا فيه ، وربما ثلبوا عليه عرضه ، فالمؤمن من كان ناصحا لأخيه في الخلوة ، ساترا له في الجلوة . وأهل الشقاوة بالعكس : إذا رأوا إنسانا على معصية أغلقوا عليه الباب وفضحوه فيها ، فهؤلاء لا تُنور بصائرهم ، وهم عند الله مبعدون .
إذا أردت أن تختبر عقل الرجل فانظر إليه إذا ذكرت له شخصا : فإن وجدته يطوف على محمل سوء حتى يقول لك: خلنا منه ذاك فعل كذا وكذا ! فاعلم أن باطنه خراب وليس فيه معرفة ، وإذا رأيته يذكره بخير ، أو يذكر له ما يوصف بالذم ويحمله على محمل حسن ويقول : لعله سها أو له عذر أو ما أشبه ذلك فأعلم أن باطنه معمور فإن المؤمن يعمل على سلامة عرض أخيه المسلم .
من قارب فراغ عُمره ويريد أن يستدرك ما فاته ، فليذكر بالأذكار الجامعة ، فإنه إذا فعل ذلك صار العمر القصير طويلا كقوله : سبحان الله العظيم وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه ومداد كلماته . وكذلك من فاته الصيام والقيام ، أن يشغل نفسه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك لو فعلت في جميع عمرك كا طاعة ثم صلى الله عليك صلاة واحدة رجحت الصلاة الواحدة ما عملته في عمرك كله جميع الطاعات لأنك تصلي على قدر وُسعك وهو يُصلي على حسب ربوبيته . هذا إذا كانت صلاة واحدة ، فكيف إذا صلى عليك عشرا بكل صلاة ؟! كما جاء بالحديث الصحيح .
فما أحسن العيش إذا أطعت الله فيه بذكر الله تعالى أو الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
يُروى أنه ما من صيد يُصاد ، ولا شجرة تُقطع إلا بغفلتها عن ذكر الله تعالى ، لأن السارق لا يسرق بيتا وأهله أيقاظ بل على غفلة أو النوم .
من علم قُرب رحيله أسرع في تحصيل الزاد ، ومن علم أن إحسان غيره لا ينفعه جد في الإحسان ، ومن أخرج ولم يحسب خسر ولم يدر ، ومن وكل وكيلا واطلع على خيانته عزله . كذلك نفسك قد اطلعت على خيانتها فاعزلها وضيق عليها المسالك .
إذا رأيت فيك الإعراض والشهوة والغفلة فهذا وصفك ، وإذا رأيت فيك الإنابة والخشية والزهد فهذا من صنائع الله .
مثال ذلك : إذا رأيت ببلادك الحلفاء - نبت مائي - والشوك والعوسج فهذا نبات أرض بلدك ، وإذا رأيت بها العود الرطب والمسك والعنبر فاعلم أنه مجلوب من صنائع الله ليس من نبات أرضك : فالمسك من غزلان عراقها ، والعنبر من بحر هندها .
مثال الإيمان معك إذا عصيت الله تعالى كالشمس المكسوفة ، أو كالسراج إذا غطيته بصحفة ، هو موجود ولكن منع نوره الغطاء .
ثم إنك تحضر المجلس في الجامع ليتوفر عقلك ، وإن كان عمرك قليلا فيصير كثيرا بحصول الإيمان والخشوع والخضوع ، والخشية والتدبر والتذكر ونحوها . فلو عرفت الإيمان ما قاربت العصيان ، فلا غريم أمطلُ من النفس ولا عدو أعظم من الشيطان ولا معارض أقوى من الهوى .
ولا يدفع المدد الهابط مثلُ الكبر ، لأن الغيث لا يقرُ إلا على الأرض المنخفضة لا فوق رؤوس الجبال ، فكذلك قلوب المتكبرين تنتقل عنها الرحمة وتنزل إلى قلوب المتواضعين . والمراد بالمتكبرين : من يردُ الحق ، لا من يكون ثوبه حسنا ، ولكن الكبر بطر الحق ، أي دفعه واحتقار الناس .
ولا تعتقد أن الكبر لا يكون إلا في وزير أو صاحب دنيا ، بل قد يكون فيمن لا يملك عشاء ليلة ، وهو يُفسد ولا يُصلح لأنه تكبر على حق الله تعالى .
ولا تعتقدأن المنكوب من كان في الأسر أو في السجن بل المنكوب من عصى الله وأدخل في هذه المملكة الطاهرة نجاسة المعصية .
كثيرٌ من أنفق الدنانير والدراهم ولكن من أنفق الدمع قليل .
الأحمق من مات ولده وجعل يبكي عليه ولا يبكي على ما فاته من الله عز وجل ، فكأنه يقول بلسان حاله : أنا أبكي على ما كان يشغلني عن ربي ، بل كان ينبغي له الفرح بذلك ، ويقبل على مولاه لأنه أخذ نته ما كان يشغله عنه .
وقبيحٌ بك أن تشيب وأنت طفلُ العقل ، صغيره ، ولا تفهم مراد الله منك ! فإن كنت عاقلا فابك على نفسك قبل أن يُبكى عليك ، فإن الولد والزوجة والخادم والصديق لا يبكون عليك إذا مُت ، بل يبكون على ما فاتهم منك ، فسابقهم أنت بالبكاء وقل : يحقُ لي أن أبكي على فوات حظي من ربي قبل أن تبكوا علي.
كفى بك جهلا أن يعاملك مولاك بالوفاء ، وأنت تعامله بالجفاء .ليس الرجل من صاح بين الناس في المجالس ، إنما الرجل من صاح على نفسه وردها إلى الله تعالى .
من عال - حمل - هم الدنيا وترك هم الآخرة كان كمن جاءه أسد يفترسه ثم قرصه برغوث ، فاشتغل به عن الأسد ، فإن من غفل عن الله اشتغل بالحقير ، ومن لم يغفل عنه لم يشتغل إلا به . فأحسنُ أحوالك أن تفوتك الدنيا لتحصيل الآخرة .
يا طالما فاتتك الآخرة لتحصيل الدنيا !. ما أقبح الخوف بالجندي ، وما أقبح اللحن بالنحوي ! وما أقبح طلب الدنيا لمن يُظهر الزهد فيها .
ليس الرجل من يُربيك لفظه ، إنما الرجل من يُربيك لحظه .
عن الشيخ أبي العباس المرسي رضي الله عنه أنه قال : إذا كانت السلحفاة تُربي أفراخها بالنظر كذلك الشيخ يربي مريده بالنظر ، لأن السلحفاة تبيض في البر ، وتتوجه إلى جانب النهر ، وتنظر إلى بيضها ، فيربيهم الله لها بنظرها إليهم .إياك أن تخرج من هذه الدار وما ذُقت حلاوة حبه . ليس حلاوة حبه في المآكل والمشارب ، لأنه يشاركك فيها الكافر والدابة ، بل شارك الملائكة في حلاوة الذكر ، والجمع على الله تعالى ، لأن الأرواح لا تحتمل رشاش النفوس ، فإذا انغمست في جيفة الدنيالا تصلح للمحاضرة ، لأن حضرة الله تعالى لا يدخلها المتلطخون بنجاسة المعصية . فطهر قلبك من العيب يفتح لك باب الغيب ، وتُب إلى الله وارجع إليه بالإنابة والذكر ومن أدام قرع الباب يُفتح له ، ولولا الملاطفة ما قُلنا لك ذلك ، لأنه كما قالت رابعة العدوية رضي الله عنها :ومتى أُغلق هذا الباب حتى يُفتح ؟!.ولكن هذا باب يوصلك إلى قربه . وإياك وذهول القلب عن وحدانية الله تعالى ،فإن أول درجات الذاكرين استحضار وحدانيته تعالى .وما ذكره الذاكرون ، وفُتح عليهم إلا باستحضار ذلك ، وما طردوا إلا بذكرهم مغلبة الذهول عليهم . وتستعين على ذلك بقمع الشهوتين : البطن والفرج.
ولا يُضادك في الله إلا نفسك .
ما أكثر توددك للخلق ،وما أقل توددك للحق !لو فُتح لك باب التودد مع الله لرأبت العجائب : ركعتان في جوف الليل : تودد. الصدقة على المساكين : تودد. عيادتك للمرضى : تودد . صلاتُك على الجنائز تودد إعانتك لأخيك المسلم : تودد. إماطتك الأذى عن الطرق : تودد . ولكن السيف المطروح يحتاج إلى ساعد ، ولا عبادة أنفع لك من الذكر ، لأنه يُمكن الشيخ الكبير والمريض الذي لا يستطيع القيام والركوع والسجود .
واعلم أن العلماء والحكماء يُعرفونك كيف تذخل إلى الله تعالى .
هل رأيت مملوكا أول ما يُشترى يصلح للخدمة ؟ بل يُعطى لمن يُربيه ويُعلمه الأدب ، فإن صلح وعرف الأدب قدمه للملك . كذلك الأولياء يصحبهم المُريدون حتى يُزجوا بهم إلى الحضرة ، كالعوام إذا أراد أن يعلم الصبي العوم يُحاذيه إلى أن يصلح للعوم وحده ، فإذا صلح زجه في اللجة وتركه .
وإياك أن تعتقد أن لا يُنتفع بالأنبياء والأولياء والصالحين ، فإنهم وسيلة جعلها الله إليه لأن كل كرامة للولي هي شهادة بصدق النبي عليه الصلاة والسلام لأنها جرت على أيدي الأولياء مثل خرق العادات .
عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أنه قال : "كل نفسك وزنها بالصلاة ، فإن انتهت عن الحظوظ فاعلم أنك سعدت ، وإلا فابك على نفسك إذا جررت رجلك إلى الصلاة جرا ، فهل رأيت حبيبا لا يريد لقاء حبيبه؟ فمن أراد أن يعرف حقيقته عند الله ، وينظر حاله مع الله ، فلينظر إلى صلاته :إما بالسكون والخشوع أو بالغفلة والعجلة ، فإن لم تكن بالوصفين الأولين فاحث التراب على رأسك ، فإن من جالس صاحب المسك عبق عليه من ريحته ، فإن الصلاة مجالسة الله تعالى ، فإذا جالسته ولم يحصل لك منه شيء دل ذلك على مرض في قلبك وهو إما كبر ، أو عجب أو عدم أدب" .
قال الله تعالى :" سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ " فلا ينبغي لمن صلى أن يُسرع الخروج بل يذكر الله تعالى ويستغفره من تقصيره فيها ، فرب صلاة لا تصلح للقبول فإن استغفرت الله بعدها قُبلت .
كان النبي عليع الصلاة والسلام إذا صلى استغفر الله ثلاث مرات .
كم فيك من الكوامن فإذا أوردت عليها الواردات أظهرتها ، وأعظمها ذنبا : الشك في الله ، والشك في الرزق شك في الرازق .
الدنيا أحقر من أن يُعال همها . صغرت الهمم فعالت صغيرا،فلو كنت كبيرا لعلت الكبير . من عال الهمم الصغير وترك الهم الكبير استقللنا عقله .
قُم أنت بما يلزمك من وظائف العبودية ، وهو يقوم بما التزمه . أيرزقُ الجُعل والوزغ وبنات وردان - حشرات - وينسى أن يرزقك ؟! قال الله تعالى:وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ.
كلُ من كان مراعيا لحق الله تعالى، لا يُحدثُ الله حدثا في المملكة إلا أعلمه . نظر بعضهم إلى بعض جماعة فقال لهم : هل فيكم من إذا أحدث الله سبحانه وتعالى في المملكة حدثا أعلمه ؟ قالوا : لا . فقال لهم : ابكوا على أنفسكم .
كان المتقدمون من السلف رضي الله عنهم يسألون الشخص عن حاله ليستثيروا منه الشكر ، والناس اليوم ينبغي ألا يسألوا فإنك إن سألت تستثير منهم الشكوى .
عن بعض النباشين أنه تاب إلى الله تعالى ، فقال يوما لشيخه : يا سيدي نبشت ألف قبر ، فوجدت وجوههم مُحولة عن القبلة! فقال له الشيخ : يا ولدي ، ذلك من شكهم في رزقهم .
يا عبدالله ، إذا طلبت من الله فاطلب منه أن يُصلحك من كل الوجوه ، وأن يُصلحك بالرضى عنه في تدبيره لك .
ثم إنك عبد شرود طلب منك أن تعتبر إليه ففرت منه ، فإن الفرار بالأفعال والأحوال والهمم . فإذا كنت في صلاتك تسهو وفي صومك تلغو وفي لُطف الله تشكو ، أفما أنت شارد ؟
عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أنه قال: بقيت مرة في البادية ثلاثة أيام لم يُفتح لي بشيء ، فجاز علي بعض النصارى فرأوني متكئا فقالوا : هذا قسيس من المسلمين ،فوضعوا عند رأسي شيئا من الطعام وانصرفوا ، فقلت : يا للعجب ! كيف رزقت على أيدي الأعداء ، ولم أرزق على أيدي الأحباء ؟! فقيل : ليس الرجل من يُرزق على أيدي الأحباء ، إنما الرجل من يُرزق من أيدي الأعداء .
يا هذا أجعل نفسك كدابتك ، كلما عدلت عن الطريق ضربتها فرجعت إلى الطريق ، ولو فعلت مع نفسك مثل ما تفعل بجُبتك كلما اتسخت غسلتها ، وكلما تقطع منها شيء رقعته
وجددته كانت لك السعادة . فرُب رجل ابيضت لحيته وما جلس مع الله جلسة يُحاسب فيها نفسه فإن الشيخ مكين الدين الأسمر رحمه الله يقول : كنت في البداية أحاسب نفسي عند المساء فأقول : تكلمت اليوم بكذا وكذا ، فأجد ثلاث كلمات أو أربعا . وكان عنده يوما شيخ عمره نحو تسعين سنة ، فقال له: يا سيدي أشكو إليك كثرة الذنوب . فقال الشيخ : هذا شيء لا نعرفه وما أعرف أني عملت ذنبا قط .
كما أن للدنيا أبناء من استند إليهم كفوه ، فكذلك للآخرة أبناء من استند إليهم أغنوه . ولا تقل : طلبنا فلم نجد ، فلو طلبت بصدق لوجدت . وسبب عدم وجدانك عدم استعدادك ، فإن العروس لا تُجلى على فاجر ، فلو طلبت رؤية العروس لتركت الفجور ، ولو تركت الفجور لرأيت الأولياءوالأولياء كثيرون ، لا ينقص عددهم ، ولو نقص واحد منهم لنقص نور النبوة .
إذا أحببت حبيبا لن تصل إليه حتى تكن أهلا للوصول إليه ، وذلك حتى تطهر مما أنت فيه من الزلل.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله : أولياء الله عرائس والعرائس لا يراها المجرمون ، إذا ثقلت عليك الطاعة والعبادة ، ولم تجد لها حلاوة في قلبك ، وتخف عليك المعصية ، وتجد لها حلاوة ، فاعلم أنك لم تصدق في توتبتك ، فإنه لو صح الأصل لصح الفرع.
وليتك أطعت مولاك كما يُطيعك عبدك ، فإنك تُحبه ناهضا في خدمتك دائما ، وأنت تُحب الطاعة وتطلب أن تفرغ منها مسرعا ، كأنك تنقر بالمتقير ، فياليت بصرا نظرت به محاسن غيره عُوضت عنه العمى .
كم حُصل لك الهوان بوقوفك على أبواب المخلوقين ! وكم أهانوك وأنت لا ترجع إلى مولاك !!
عن الشيخ مكين الدين الأسمر رحمه الله : رأيت في المنام حُورية وهي تقول: أنا لك وأنت لي . قال : فبقيت نحو شهرين أو ثلاثة أشهر لا أستطيع أن أسمع لمخلوق كلاما إلا تقيأت لأجل طيب كلامها .
كفاك من الإدبار أن تفتح عينيك في هذا الدار ، قال الله تعالى :" وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ".
قدر لك الصحة والمرض والغنى والفقر ، والفرح والحُزن ، حتى تعرفه بأوصافه .
من صحبك يوما أو يومين ، ولم ير منك نفعا تركك وصحب غيرك ، وأنت تصحب نفسك أربعين سنة ولم تر منها نفعا فقل لها ارجعي يا نفس إلى رضا ربك ! طالما وافقتك في شهواتك ، فتبدلي بعد البطالة بالإشغال بالله ، وبعد الكلام بالصمت ، وبعد الوقوف بالأبواب :الجلوس بالخلوة ، وبعد الأنس بالمخلوقين : الأنس بالخالق وبعد قُرناء السوء : مُعاشرة أهل الخير والصلاح .
اجعل أحوالك على ضد ما كنت عليه :اجعل بدل السهر في معصية الله : السهر في طاعة الله ، وبعد الإقبال على أهل الدنيا : الإعراض عنهم والإقبال على الله ، وبعد الإصغاء لكلامهم : الإصغاء والإستماع لكلام الله عز وجل وذكره ، وبعد الأكل بالشره والشهوة : الأكل القليل الذي يُعينك على الطاعة .قال الله تعالى:" والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا ".إنما عصى الله من لم يعرف ثوابه . فلو أطلعوا على عذاب الله لما غفلوا ، ولو اطلعوا على ما أعد الله لأهل الجنة لما تركوها طرفة عين إذا صحبت أبناء الدنيا جذبوك إليها ، وإذا صحبت أبناء الآخرة جذبوك إلى الله .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المرءُ على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " . كما تختار لنفسك المآكل الطيبة التي لا ضرر فيها ، والزوجة الحسناء لتتزوجها
فكذلك ى تُوادد إلا من يُعرفك الطرق إلى الله سبحانه وتعالى.
واعلم أن لك ثلاثة أخلاء :
أحدهما : المال ، تفقده عند الموت .
والثاني : العيال ، يتركونك عند القبر .
والثالث : عملك ، لا يُفارقك أبدا .
فاصحب من يُدخل معك قبرك وتأنس به ، فالعاقل من عقل عن الله أوامره ونواهيه .
مثالك كالجُعل يعيش في الروث والعذرة ، وإذا قُرب إليه الورد مات من رائحته . فمن الناس من هو جُعلي الهمة ، فراشي العقل ، فإن الفراش لا يزال يرمي نفسه في النار حتى تُحرقه ، فكذلك أنت ترمي نفسك في نار المعصية عمدا فلو أردت السير إلى الله تعالى شددت المحزم ، فأين الهمة ؟!!
إنما تأكل لتعيش ولا تعيش لتأكل ، فإن فعلت ذلك فمثالك في الدواب كثير ، وإن فعلت ذلك فإن أسبق الخيل ما ضُمر . تقول : هذه الليلة أُقلل الأكل فإذا حضر الطعام فكأنه حبيبٌ مفارق ، ومن لم يُرد الله صلاحه تعبت فيه الأقوايل .
ما أهربك من الهوان ، وما أوقعك فيه ! تُهين نفسك وتُلقيها في مواطن الردى .
قال بعضهم : كُن مع الله كالطفل مع أمه ،كلما دفعته أمه ترامي عايها لا يعرف غيرها .
يا عبد الله ، تنتخب لنفسك الطيبات ، بل تنتخب لدابتك العلف ، وتعامل الله بالمجازفة!!. وربما قلبت عشرين بطيخة حتى تصلح لك واحدة لدهليز مرحاض ، وتقعد عند الأكل متربعا وربما طولت في الأكل ، وإذا جئت إلى الصلاة نقرتها نقر الديك ، والوساوس والخواطر الردئية تأتيك في صلاتك . مثال من هذه حاله كمن نصب
نفسه للهدف وقعد ، والرماح والسهام تقصده من كل جانب ، أفما هذا أحمق ؟!
ما مثالك إذا سمعت الحكمة ولم تعمل بها إلا كمثل الذي يلبس الدرع ولا يُقالتل : ألا فقد حُصل النداء على سلعتنا فهل من مُشتر ؟!
قيمتك قيمة ما أنت مشغول به ، فإن اشتغلت بالدنيا فلا قيمة لك ، لأن الدنيا كالجيفة لا قيمة لها .
أفضل ما يطلب العبد من الله أن يكون مستقيما معه . قال الله تعالى :" اهدنا الصراط المستقيم " . فاطلب منه الهداية والإستقامة وهو أن تكون مع الله في كل حال بالذي يرضاه لك ، وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى .
من بذل لله صرف الود سقاه الله صرف الكرم .
مثال السالك كمن يحفر على الماء قليلا قليلا حتى يجد الماء بعد التعب .
ومثال المجذوب كمن أردا الماء فأمطرت له سحابة ، فأخذ منها ما يحتاج إليه من غير تعب .
إذا أعطيت نفسك كل ما تشتهي وتطلُبُ من الشهوات كنت كمن في بيته حية يُسمنها كل يوم حتى تقتله !
ولو جعل الله فيك الروح من غير نفس لأطعت وما عصيت ، ولو جعل فيك النفس من غير رُح لعصيت وما أطعت - فلذلك تتلون - ولكن جعل فيك القلب والروح والنفس والهوى كالنحلة جعل فيها اللسع والعسل : فالعسل ببره ، واللسع بقهره ، فأراد الله أن يكسر دعوى النفس بوجود القلب ودعوى القلب بوجود النفس .
يا عبدالله ، طلب من أن تكون له عبدا فأبيت أن تكون إلا ضدا ، إقبالك على الله إفرادُك له بالعبادة فكيف يرضى لك أن تعبد غيره ؟! فلو أتيتنا تطلب العطاء منا ما أنصفتنا ، فكيف إذا أقبلت على من سوانا .
وقفت الدنيا في طرق الآخرة ، فصرفت الوصول إليها ، ووقفت الآخرة في طرق الحق فمُنعت الوصول إليه .
إن من لُطف الله بك أن يكشف لك عن عيوب نفسك ويستُرها عن الناس .
إذا أُعطيت الدنيا ومُنعت الشُكر فيها فهي محنة في حقك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قليل الدنيا يُلهي عن طرق الآخرة " .
كان لبعضهم زوجة فقالت له يوما : لا أقدر على أن تغيب عني ولا أن تشتغل بغيري ، فنودي : إذا كانت هذه لا خالقة ولا مُوجدة ، وهي تحب أن تجمع قلبك عليها ، فكيف لا أحب أنا أن تجمع قلبك علي ؟
كنت مرة عند الشيخ أبي العباس المرسي رحمه الله فقلت : في نفسي أشياء ، فقال الشيخ : إن كانت النفس لك فاصنع بها ما شئت ، ولن تستطيع ذلك .
ثم قال : النفسً كالمرأة : كلما أكثرت خصامها أكثرت خصامك ، فسلمها إلى ربها يفعل بها ما يشاء ، فربما تعبت في تربيتها فلا تنقاد لك .
فالمسلم من أسلم نفسه إلى الله بدليل قوله تعالى :" إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ".
إذا أحبك مولاك أعرض عنك أصحابك حتى لا تشتغل بهم عنه ، وقطع علائقك من المخلوقين حتى ترجع إليه .
كم تطلب نفسك إلى الطاعة وهي تتقاعد ! إنما تحتاج إلى معالجة نفسك في الإبتداء ، فإذا ذاقت المنة جاءت اختيارا . فالحلاوة التي كانت تجدها في المعصية ترجعُ تجدها في الطاعة .
مثال الإيمان في القلب كالشجرة الخضراء ، فإذا كثرت عليها المعاصي يبست وفرغ إمدادها فمن أحب القيام بالواجبات فليترك المحرمات ، ومن ترك المكروهات أُعين على تحصيل الخيرات ، ومن ترك المباحات وسع عليه توسعة لا يسعها عقله ، وأباح له حضرته ،ومن ترك استماع ما حُرم عليه أسمعه كلامه . ولكن ما أهون القُربة التي فيها هوان نفسك عليك ، وما أثقل ما ليس فيه هوى ! مثاله أن تحج تنفلا ، فإن قيل لك : تصدق بذلك شق عليك ، لأن أمر الحج يُرى ، فللنفس فيه حظ والصدقة تُطوى وتُنسى .
وكذلك درسك العلم لغير الله ، فإنك تدرس الليل كله ونفسك طيبة بذلك ،فإذا قيل لك : صل بالليل ركعتيت شق ذلك عليك،لأن الركعتين بينك وبين الله تعالى ، ليس فيهما للنفس حظ،والقراءة والدرس للنفس فيهما حظ مشاركة للناس،فلأجل ذلك خف عليهما.
قال بعضهم:تاقت نفسي إلى الزواج فرأيت المحراب قد انشق وخرج منه نعل من ذهب ، مكلل باللؤلؤفقيل لي: هذا نعلها فكيف وجهها ؟ فانقطعت شهوة النكاح من قلبي .
من هُيئت له المنازل لم يُرض له بالقعود على المزابل ، فاعمل الأعمال الصالحات بينك وبين الله سرا ولا تُطلع عليها أهلك ، واجعله مُدخرا عند الله تجده يوم القيامة فإن النفس لها تمتع بذكر العمل . صام بعضهم أربعين سنة ولم يعلم به أهله .
لا تنفق أنفاسك في غير طاعة الله ، ولا تنظر إلى صغر النفس بل انظر إلى مقداره وإلى ما يعطي الله فيه للعبد فالأنفاس جواهر ، وهل رأيت ـحدا يرمي جوهرة على مزبلة ؟!
أفتصلح ظاهرك وتُفسد باطنك ؟ فمثالك كالمجذوم لبس ثيابا جديدة،ويخرج منه في الباطن القيح والصديد،فأنت تُصلح ما ينظر إليه الناس،ولا تُصلح قلبك الذي هو لربك !.
الحكمة كالقيد ، إن قيدت بها نفسك امتنعت ، وان رميتها تسيبت ،ويُخاف عليك . مثال ذلك كالمجنون في بيتك يُخربه ويُقطع الثياب ، فإذا قيدته استرحت منع وإذا طرحت القيد وخرجت فالضرر باق .
يا أيها الشيخ ، قد أفنيت عمرك فاستدرك ما فاتك ، قد لبست البياض وهو الشيب
والبياض لا يحمل الدنس .
مثال القلب كالمرآة ، ومثال النفس كالنفس كلما تنفست النفس على المرآة سودها .
قلب الفاجر كمرآة العجوز التي ضعفت همتها أن تجلوها وتنظر فيها ، وقلب العارف كمرآة العروس ، كل يوم تنظر فيها فلا تزال مصقولة .
همة الزاهدين في كثرة الأعمال ، وهمة العارفين في تصحيح الأحوال .
أربعة تُعينك على جلاء قلبك:كثرة الذكر ولزوم الصمت والخلوة وقلة المطعم والمشرب .
أهل الغفلة إذا أصبحوا يتفقدون أموالهم ، وأهل الزهد والعبادة يتفقدون أحوالهم ، وأهل المعرفة يتفقدون قلوبهم مع الله عز وجل .
ما من نفس يُبديه الله تعالى فيك من طاعة أو مرض أو فاقة إلا وهو يريد أن يختبرك بذلك ، ومن طلب الدنيا بطريق الآخرة كان كمن أخذ ملعقة ياقوت يغرف بها العذرة - الغائط - أفما يُعد هذا أحمق ؟!
لاتعتقد أن الناس فاتهم العلم ، بل فاتهم التوفيق أكثر من العلم .
أول ما ينبغي لك أن تبكي على عقلك ، فكما يقع القحط في الكلأ يقع في عقول الرجال . وبالعقل عاش الناس مع الناس ، ومع الله تعالى : مع الناس بحُسن الخُلق ، ومع الله باتباع مرضاته .
إن من الله عليك بثلاث فقد من عليك بالنعمة الكبرى :الأولى الوقوف على حدوده ، والثانية الوفاء بعهوده ، والثالثة الغرق في شهوده - أن تلاحظ الحق سبحانه حتى كأنك تراه نُصب عينك - .
وما سبب استغرابك لأحوال العارفين إلا استغراقك في القطيعة ولو شاركتهم في الأسفار لشاركتهم في الأخبار ، ولو شاركتهم في العناء لشاركتهم في الهناء .
ما مثال نفسك وقت الرضا إلا كالبعير المعقول ، فإذا سيبته انطلق ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لقلب ابن آدم أشدُ تقلبا من القدر على النار إذا غلت" .
فكم من كان في جمع مع الله أتته الفرقة في نفس واحد ، وكم من بات في طاعة الله ما طلعت عليه الشمس حتى دخل في القطيعة ، فالقلب بمثابة العين ، والعين لا يُرى بها كلها ، بل بمقدار العدسة منها فكذلك القلب لا يراد منه اللحمانية ، بل اللطيفية التي أودعها الله فيه وهي المُدركة ، وجعل الله القلب معلقا في الجانب الأيسر كالدلو ، فإن هب غليه هوى الشهوة حركه ، وإن هب عليه خاطر التُقى حركه ، فتارة يغلب عليه خاطر الهوى ، وتارة يغلب عليه خاطر التقى ،حتى يُعرفك مرة منه ومرة قهره . فمرة يُغلب عليه خاطر التقى ليمدحك ، ومرة يُغلب عليه خاطر الهوى ليذمك . فالقلب بمثابة السقف ، فإذا أُوقد في البيت نار صعد الدخان إلى السقف فسوده ، فكذلك دُخان الشهوة ، إذا نبت في البدن صعد دُخانه إلى القلب فسوده .
إذا ظلمك الغوي فارجع إلى القوي ، ولا تخف منه فيُسلط عليك .
مثال من يشهد الضرر من المخلوقين كمن ضرب الكلب بحجر ، فأقبل الكلب على الحجر يعضه ولا يعرف أن الحجر ليس بفاعل ، فيكون هو والكلب بسواء( أي الإنسان الذي يشهد ويرى الضرر من المخلوقين لا من خالقهم ) .
ومثال من يشهد الإحسان من المخلوقين كالدابة إذا رأت سايسها بصبصت - حركت ذيلها -ويدنو إليها مالكها فلا تُلقي إليه بالا .فإن كنت عاقلا فاشهد الأشياء من الله عز وجل ولا تشهدها من غيره .
ليس التائه من تاه في البرية ، بل التائه من تاه عن سبيل الهدى .تطلب العز من الناس ، ولا تطلبه من الله ، فمن طلبه من الناس فقد أخطأ الطريق ، ومن أخطأ الطريق لم يزده سيره إلا بعدا فهذا هو التائه حقا .
إذا قلت : لا إله إلا الله ، طالبك الله بها وبحقها وهو ألا تنسب الأشياء الا إليه .
مثال القلب إذا أسلمته إلى النفس كمن تعلق بغريق فغرق كل واحد منهما،ومثال النفس إذا أسلمتها للقلب كمن أسلم نفسه إلى عوام قوي فسلمها،فلا تكن كمن أسلم قلبه إلى نفسه ! هل رأيت بصيرا قلد نفسه إلى أعمى يقوده ؟!
إن أمكنك أن تُصبح وتُمسي وما ظلمت أحدا من العباد فأنت سعيد ، فإن لم تظلم نفسك فيما بينك وبين الله ، فقد تكملت لك السعادة ، فأغلق عينيك وسُد أذنيك وإياك إياك وظُلم العباد .
ما مثالك في صغر عقلك وكونك لا تعلم ما عليك من الملابس إلا كالمولود تكسوه أمه أحسن الملابس وأفخرها ، وهو لا يشعر وربما دنسها ونجسها فتسرع إليه أمه وتكسوه أخرى ، لئلا يراه الناس كذلك وتغسل ما تنجس وهو لا يعلم ما فُعل به لصغر عقله .
عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رحمه الله أنه قال :" قيل لي : يا علي ، طهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله في كل نفس .
فقلت : وما ثيابي ؟ فقيل لي : إن الله كساك حُلة المعرفة ثم حلة التوحيد ثم حلة المحبة ، ثم حلة الإيمان ثم حلة الإسلام، فمن عرف الله صغر لديه كل شيء ومن أحب الله هان عليه كل شيء ، ومن وحد الله لم يُشرك به شيئا ، ومن آمن بالله أمن من كل شيء ، ومن أسلم لله قلما يعصيه ، وإن عصاه اعتذر إليه ، وإن أعتذر إليه قبل عذره . قال ففهمت ذلك من قوله تعالى " وثيابك فطهر ".
يا من عاش وما عاش ، تخرج من الدنيا وما ذُقت ألذ شيء فيها وهي مناجاة الحق سبحانه ومخاطبته لك ، فأنت مُلقى جيفة بالليل ، فإن دُفعت عنه فاستغث بالله ، وقل : يا ملائكة الله ويا رسول ربي ، فاتتني الغنيمة التي نالوها من لذة المناجاة ووداد المصُفاة .
إذا كان العبد مُعجبا بطاعته ، متكبرا على خلقه ، ممتلئا عظمة يطلب من الخلق أن يوفوا حقوقه ، ولا يوفي حقوقهم ، فهذا يخشى عليه سوء الخاتمة ، والعياذ بالله !.
وإن كان إذا فعل معصية تراه باكيا حزينا ، منكسرا ذليلا ، يتطارح على أرجل الصالحين ويزورهم معترفا بالتقصير ، فهذا يُرجى له حسن الخاتمة .
إذا طلبت قارئا وجدت مالا يُحصى ، وإذا طلبت طبيبا وجدت كثيرا وإذا طلبت فقيها وجدت مثل ذلك ، وإن طلبت من يدُلك على الله ويُعرفك بعيوب نفسك لم تجد إلا قليلا ، فإن ظفرت به فأمسكه بكلتا بديك .
إن أردت أن تُنصر فكن كلك ذلة ، قال الله تعالى :" ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ". إن أردت أن تُعطى فكن كلك فقرا :" إنما الصدقات للفقراء والمساكين ".
تكون في وسط النهر وأنت عطشان ، تكون معه في الحضرة وأنت تطلب الإتصال ، كأن العباد لم يتواصلوا إلى الآخرة إلا بكثرة المآكل والمشارب ، أو قيل لهم : هذه توصلكم إلى الآخرة ؟!. ولكن ما أرخص نفسك عليك ! لولا هوانها عليك ما عرضتها لعذاب الله تعالى ، وما أغلاها في طلب الدنيا وجمعها !
والعجب كل العجب في من يسأل المنجم عن حاله ، ولا يسأل كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إذا ضعفت عن العبادة فرقع عبادتك بالبكاء والتضرع .
وإذا قيل لك :من يُبكي عليه ؟ فقل : عبدٌ عُفي فأنفق عافيته في معصية الله !!
إذا نمت على تخليط رأيت التخليط في منامك ، بل ينبغي لك أن تنام على طهارة وتوبة ، فيفتح قلبك بنوره.ولكن من كان في نهاره لاغيا ، كان في ليله عن الله ساهيا .
إذا رأيت وليا لله تعالى فلا يمنعك إجلاله من أن تقعد بين يديه متأدبا وتتبرك به .
واعلم أن السماء والأرض لتتأدب مع الولي كما يتأدب معه بنو آدم .
فمن فرح بالدنيا إذا جاءته فلقد ثبت حُمقه ، وأحمق منه من إذا فاتته حزن حزن عليها . فمثالك كمن جاءته حية لتلدغه ، ثم مضت وسلمه الله تعالى منها ، فحزن عليها أن لم تضره .
من علامات الغفلة وصغر العقل : أن تعول هما هل يقع أم لا ، وتترك أن تعول هما لابد من وقوعه ، وتصبح وتقول : كيف يكون السعر غدا ، وكيف يكون الحال في هذه السنة ، وألطاف الله تأتي من حيث لا تعلم والشك في الرزق شك في الرازق ، وما سرق السارق وما غضب الغاضب إلا رزقه ، فما دمت حيا لا ينقص من رزقك شيء .
كفى بك جهلا أن تعول الهم الصغير ، وتترك الهم الكبير . عُل هم : هل تموت مسلما أو كافرا ؟ عُل هم : هل أنت شقي أم سعيد ؟ عُل هم: النار الموصوفة بالأبدية التي لا إنتهاء لها! عُل هم أخذ الكتاب ياليمين أو بالشمال . هذا هو الهم الذي يُعال ، لا تعل هم اللقمة تأكلها أو شربةتشربها.أيستخدمك الملك ولا يُطعمك ؟! أتكون في دار الضيافة وتضيع ؟!.
إن أحب ما يُطاع الله به : الثقة به .
لأن تكون خاملا في الدنيا خير لك من أن تكون خاملا يوم القيامة - المجهول من الناس الذي لا يُذكر - .هذه صفاوة العمر وغربلته ، يا من لا يأكل الحنطة إلا مغربلة لا بد أن يُغربل عملك فلا يبقى لك إلا ما أخلصت فيه وما عدا ذلك يُرمى ، وما أكثر ما يُخشى عليك مخالطة الناس ، ولا يكفيك أن تسمع بأذنيك بل تشاركهم في الغيبة ، وهي تُنقض الوضوء وتفطر الصائم .
كفى بك جهلا أن تغار على زوجتك ولا تغار على إيمانك ! كفى بك خيانة أن تغار عليها لأجل نفسك،ولا تغار على قلبك لأجل ربك ، إذا كنت تحفظ ما هو لك ألا تحفظ ما هو لربك ؟!
إذا رأيت من يصبح مهموما لأجل الرزق فاعلم أنه بعيد من الله ، فإنه لو قال لك مخلوق: لا تشتغل غدا بسبب ، وأناأعطيك خمسة دراهم ، وثقت به وهو مخلوق فقير ، أفما تكتفي بالغني الكريم الذي ضمن لك رزقك من أجلك ؟!
قال الشاعر :
إذا العشرون من شعبان ولت فواصل شُرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار فقد ضاق الزمانُ على الصغار
فمعناه عنده: إذا مضت العشرون من شعبان فقد قرب رمضان يقطع علينا الشراب . ومعناه عند أهل الطريق : إذا خلفت أربعين سنة وراء ظهرك فواصل العمل الصالح بالليل والنهار ، لأن وقت قد قرب إلى لقاء الله عز وجل ، فليس عملك كعمل من كان شابا ولم يضيع شبابه ونشاطه ، وأنت قد ضيعت شبابك ونشاطك .
هب أنك تريد الجد ولكن لا تساعدك القُوى ، فأعمل على قدر حالك ورقع الباقي بالذكر فإنه لا شيء أسهل منه ، يُمكنك في حال القيام والقعود والإضطجاع والمرض ، فهذا أسهل العبادات وهي التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله ".وأي دعاء أو ذكر سهل عليك فواظب عليه ، فإن مدده من الله عز وجل ، فما ذكرته إلا ببره ، وما أعرضت عنه إلا بسطوته وقهره ، فاعمل واجتهد فالغفلة في العمل خير من الغفلة عنه .
ترى حالك حال الزاهدين في الفضل ، لأن الطالب لا ينقطع عن الأبواب بل تجده واقفا عليها ، فمثاله كالثكلى التي مات ولدها أتراها تحضر العرس والأفراح والولائم ؟! بل هي مشغولة بفقد ولدها .
وكم يرسل لك المولى الصنائع وأنت عبدٌ سرود ، فمثالك كالطفل في المهد كلما حُرك نام . ولو أرسل لك الملك خلعة - العطية - ما أصبحت إلا على بابه ، فاغتنم أوقات الطاعات واصطبر عليها .
إن طلبت أن تعصيه فاطلب مكانا لا يراك أحدٌ ، واطلب قوة من غير أن تعصيه بها ، ولن تستطيع شيئا من ذلك لأن الكل من نعمه ، أتأخذ نعمه وتعصيه بها ؟! بل تفننت في المخالفات ، مرة بالغيبة ومرة بالنميمة ومرة بالنظر وما بنيته في سبعين سنة تهدمه في نفس واحد .
يا هادم الطاعات ... ما سلط الله عليك الفاقة إلا لترفع حالتك إليه ، ولتجمع عليه ، فيا من يُغرق نفسه بالشهوات والمعاصي ، ليتك أعطيتها ذلك في المباحات ، فمن عاملته بالدنايا وعاملك بالمنن كيف لا تُحبه ؟ من عاملك بالكرم وعاملته باللؤم كيف لا تحبه ؟!.
ما أحد يصحبك فينفعك ، وكل من يصحبك إنما يصحبك لنفسه ، وإنما تحبك الزوجة لتجتني منك مطايب العيش والملابس ، وكذلك الولد يقول: أشدُ بك ظهري فإذا كبرت ولم تبق فيك قوة ولا بقية رفضوك !!.
لو انقطعت عن الخلق لفتح الله لك باب الأنس به تعالى ، لأن أولياء الله قهروا أنفسهم بالخلوة والعُزلة ، فسمعوا من الله وأنسوا به ، فإن أردت أن تستخرج مرآة قلبك من الأكدار فارفض ما رفضوا - وهو الأنسُ بالخلق - وانس ما جرى لفلان واتفق لفلان ؟ ولا تقعد على أبواب الحارات فمن استعد استمد ، فإذا هيأ لك الإستعداد فتح لك باب الإستمداد ، ومن أحسن قرع الباب فُتح له ، فرب طالب أساء قرع الباب فرُد لسوء أدبه ولم يُفتح له .
أكثر ما أوتي العباد من قلة الصمت . فو تقربت إلى الله لسمعت مخاطبته على الدوام ، في سوقك وفي بيتك،ولكن من استيقظ شهد ، ومن نام لم تسمع أذنا قلبه ، ولم تشهد بصيرته ، ولكن الحجاب مُرخى ، ولو أن العباد فطنوا لم يُقبلوا إلا على الله ، ولم يجلسوا إلا بين يديه ، ولم يستفتوا غيره ، لقوله صلى الله عليه وسلم " استفت قلبك وإن أفتوك " لأن الخواطر الإلهامية تأتي من الله تعالى فهي موافقة ، وربما أخطأ المفتي والقلب لا يقبل الخطا ، وهذا مخصوص بالقلوب الطاهرة،وإنما يُستفتى عالم ، ولا علم لمن غفل عن الله تعالى .
كانوا رضي الله عنهم لا يدخلون في شيء بنفوسهم ، ولكن من الله وبالله ،وإن المسافة بعجت بين الأولياء والصحابة،فجعُلت الكرامات جبرا لما فاتهم من قُرب المتابعة التامة
فإن من الناس من يقول :إن الأولياء لهم الكرامات ، والصحابة لم يكن لهم ذلك . بل كانت لهم الكرامات العظيمة ، بصحبتهم له صلى الله عليه وسلم ، وأي كرامة أعظم منها ؟!
واعلم أن كل صلاة لا تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر لا تُسمى صلاة لقوله تعالى:" إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " وأنت تخرج من الصلاة ومن مناجاة الحق سبحانه وتعالى في قوله:" إياك نعبد وإياك نستعين " ومناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم بقولك: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " وهذا في كل صلاة ثم تخرج إلى الذنوب بعد هذه النعم التي أنعم الله بها عليك؟
عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه ، أنه كان يحضره عنده فقهاء الإسكندرية
والقاضي ، فجاؤوا مرة مختبرين للشيخ ، فتفرس فيهم وقال : يا فقهاء يا فقهاء ! هل صليتم قط؟ قالوا: يا شيخ وهل يترك أحدنا الصلاة؟؟! فقال لهم : قال الله تعالى: "إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ *" فهل أنتم كذلك:إذا مسكم الشرلا تجزعوا وإذا مسكم الخير لا تمنعوا؟ فسكتوا جميعا ، فقال لهم الشيخ : فما صليتم هذ الصلاة قط .
إن تفضل عليك بالتوبة فتبت إليه فمن تفضله سبحانه وتعالى ، وإنك تُذنبُ سبعين سنة فتتوب إليه في نفس واحد ، فيمحو ما عملته في تلك المدة .
" التائب من الذنب كمن لا ذنب له " فالمؤمن كلما ذكر ذنبه حزن ، وكلما ذكرطاعته فرح .قال لقمان الحكيم: المؤمن له قلبان ، يرجو بأحدهما ويخاف بالآخر: يرجو قبول عمله ويخاف ألا يُقبل منه ، ولو وُزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا .
من أراد رؤية الله فعليه بقيام أوامر الله .
إذا اطلعت على زوجتك بخيانة فإنك تغضب عليها ، فكذلك نفسك قد خانتك في عمرك ، وأجمع العقلاء على أن الزوجة إذا خانت لا ياويها زوجها بل يُطلقها ، فطلق نفسك .
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم :ما أكثر ما يُدخل الجنة ؟فقال عليه الصلاة والسلام : "تقوى الله وحُسن الخُلُق . فقيل له فما أكثر ما يُخل الناس النار ؟ فقال : الأجوفان : الفم والفرج ". فاغسل قلبك بالندم على ما فاتك من الله عز وجل .
غلطوا - والله - في النواح على زوجة أو زوج ، أو والد أو ولد ، بل كان من حقهم أن يُقيموا النواح على فقدانهم تقوى الله من قلوبهم .
تُقهقه بالضحك كأنك قد جاوزت الصراط المستقيم وعبرت النيران؟
إذا لم يكن بينك وبين الله ورعٌ يحتجزك عن معاصي الله إذا خلوت وإلا فضع التراب على رأسك لقوله : من لم يكن له ورع يحتجزه عن معاصي الله إذا خلا ، لم يعبأ الله بشيء من عمله .
لا شيء يُخجلك يوم القيامة مثل درهم أنفقته في حرام .
ليس الشأن في من يرفق بك إذا وافقته ، بل الشأن في من يرفق بك إذا خالفته ، ومما يُخاف عليك موالات الذنوب ليستدرجك فيها ،ويُمكنك منها . قال الله تعالى:" سنستدرجهم من حيثُ لا يعلمون ".إن كانت معك عنايته ينفعك القليل ، وإن لم تكن لك عناية منه لم ينفعك الكثير . لو كشف عنك الحجاب لرأيت كل شيء ناطقا مسبحا لله تعالى، ولكن النقص فيك والحجاب منك .
ما أكثر احتراسك على بدنك ، وما أرخض دينك عليك ! لو قيل لك : إن هذا الطعام مسموم لأمتنعت منه ، ثم لو حُلف لك بالطلاق أنه ليس بمسموم لتوقفت عنه ، بل لو غسلت الوعاء الذي هو فيه مرارا لنفرت منه نفسُك ، فلم تكن كذلك في دينك ؟!.
وكم لله عليك من أيادي أكثر من أمك!إنها إذا أخذتك وأنت صغير تُلبسُك أحسن الملابس، فإن وسختها تخلع عليك ثيابا تخلع عليك ثيابا أُخر في الوقت ، وأنت تأتي إلى مملكة مزينة ، ليس فيها موضع شبر إلا ويصلح للسجود عليه ،تُتلف ثوبك وتوسخه بالمعصية ، هكذا فعلك ، تجلى عليك المحاسن فتجعل فيها ما يُكدرها من المعصية !.
ليس كل من صحب الأكابر اهتدى بصحبتهم ، فلا تجعل صحبة المشايخ علة في أمنك ، فمن اغتر بالله فقد عصاه ،لأنك أمنت عقوبته . كما يقول الجاهل : صحبت سيدي فلانا ورأيت سيدي فلانا ، ويدعون بدعاوي كلها كاذبة باطلة ، بل كان يبنغي لهم أن تزيدهم صحبة المشايخ خوفا ووجلا ، فقد صحب الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا أكثر وجلا وخوفا .وربما كان الغنى دفعا والفقر جمعا ، لأن الفاقة تُحوجك أن تتضرع إلى الله ، ولفاقة تجمعك على الله خير من غنى يقطعك عنه .
كما أُمرت أن تُعرض عمن عصى وتدعو له في الغيبة . والناس اليوم على العكس ، وما عسى أن ينفعك صومك وصلاتك وأنت تقع في عرض أخيك المسلم ؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" جددوا إيمانكم بقول :" لا إله إلا الله ".
فدل ذلك على أنه يُحصل له غبار المعصية ودنس المخالفة ، وما كل المخالفة ، وما كل غش يُطهره الماء ، بل رُب غش لا يُطهره إلا النار ، كالذهب إذا كان فيه الغش ، فكذلك العصاة من هذه الأمة لا يصلحون لدخول الجنة حتى تُطهرهم النار .
لا يُحسد إلا عبدٌ قد لُف في ملابس التقوى ، هذا هو العيش وما أطيب عيش المحب مع الحبيب إذا لم يطلع عليه رقيب ! فإن أحب أن يطلع عليه رقيب فما صدق في حُبه ، وكل من أراد أن يعلم أحد بحاله فقد خُدع .
ولا تكن كأرباب الدنيا الذين طلقتهم الدنيا ، بل كن من الذين طلقوها وفارقوها قبل افتراقهم . فمثالك إذا آثرت الدنيا على الآخرة كمن له زوجتان : إحداهما عجوز خائنة ، والأخرى شابة وفية ، فإذا آثرت العجوز الخائنة على الشابة الوفية أفما تكون أحمق ؟!.
ربما قضى عليك بالذنب ليُخرج منك الكبر والعُجب فقد رُوي : رُب ذنب أدخل صاحبه الجنة .
يُصلي الرجل ركعتين فيعتمد عليهما ، ويركن إليهما ويُعجب بهما ، فهذه حسنة أحاطت بها سيئات ، وآخر يفعل المعصية فتكسبه الذلة والإنكسار وتُديم المسكنة والإفتقار ، فهذه سيئة أحاطت بها حسنات .
كفى بك جهلا نظرك إلى إساءة صغيرة من غيرك ، وتعاميك عن كبير إساءتك .
لا تنتقد على الناس بظاهر الشرع ولا تنكر عليهم ، فلو خوطب الناس اليوم بما كانت عليه الصحابة والسلف الصالح لم يستطيعوا لأن أولئك حُجج الله على خلقه .
مثال الدنيا عند أرباب البصائر كجيفة أدخلت الكلاب خراطيمها فيها ، أرأيت إذا غمس رجل فمه في جيفة أفما تعيب عليه ؟ فإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد جعل ميزانا للبيع والشراء أفما جعل ميزانا للحقائق ؟!.
المتنجس القدم لا يصلح للمحاضرة ، فكيف بمن تنجس فمه ؟.
من خان هان ، قيمة اليد خمسمئة دينار ، فإذا خانت قُطعت في ربع دينار"قال أحدهم مشككا : يدٌ بخمسمئة دينار ما بالها قُطعت في ربع دينار... فأجيب : عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري.وعندما سُئل ابن الجوزي عن هذا قال : لما كانت أمينة كانت ثمينة ، فلما خانت هانت." ومن تجرأ على صغيرة وقع في الكبيرة. اعرف كمائن نفسك ولا تثق بها ، إذا قالت لك : تزور فلانا فربما رُحت إلى نار تتأجج ترمي نفسك فيها عمدا فإنما هذا زمان اجتماع ، قلما تجلس مجلسا إلا وتعصي الله فيه ، فكثيرٌ من السلف آثروا الجلوس في بيوتهم ، وتركوا صلاة الجماعة ، فإن طالبتك النفس بالخروج فاشغلها بالقعود في الدار بشيء من الطاعة ، فإن الغيبة أشد من ثلاثين زنية في الإسلام ، ولكن الكلاب لا ترقد في دار عالية الحيطان بل على المزابل .
من أراد أن ينظر إلى أمثلة القلوب فلينظر إلى الديار : فدار عامرة مأهولة ودار قد خربت حتى بقيت مبولة للبوالين ، وقلب كالدكان العامرة ، وقلب كالكان الخراب لا تطهر حتى تُعامل الله ، فتصدق كل يوم ولو بربع درهم أو بلقمة ، حتى يكتبك الله في ديوان المتصدقين ، واتل من القرآن كل يوم ول آية ، حتى يكتبك الله في ديوان التالين ، وصل في الليل ولو ركعتين ، حتى يكتبك الله مع القائمين . وإياك تغلظ وتقول : من عنده قوت يوم بيوم كيف يتصدق ؟ قال الله تعالى :"لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ۖ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ". فمثال المسكين إذا تصدق عليه كالمطية تحمل زادك إلى الآخرة .
من أراد النهايات فعليه بتصحيح البدايات .
من صدق مع الله كفاه الله مضرة الأعداء ، وحمل مؤنة الأرداء لأنه قد هان كل الهوان من احتاج إلى الخلق .
أتظن ان الدواء حلوى تأكلها ؟ إن لم تهجم عليه هجما لم يُحصل لك الشفاء ، فاهجم على التوبة ولا تغلبنك حلاوة المعصية ،وإذا رأيت نفسك متطلعة إلى الشهوة فاهرب إلى الله واستعث به فإنه يُنجيك منها بدل ما تقول:أين أصحاب الخطوة ؟ أين الأولياء ؟ أين الرجال ؟ قُل أين البصيرة ؟ هل يصلح للمتلطخ بالعذرة أن يرى بنت السلطان ؟!.
عن الشيخ مكين الدين الأسمر رضي الله عنه أنه قال : كنت في الأسكندرية فرأيت شمسا قد طلعت مع الشمس فتعجبت من ذلك ، فدنوت منه فإذا شاب قد خط عذاره - نبت شعر لحيته - قد غلب نوره على نور الشمس فسلمت عليه فرد علي السلام ، فقلت له : من أين أنت ؟ قال : صليت الصبح في المسجد الأقصى ببيت المقدس وأصلي الظهر عندكم والعصر بمكة والمغرب بالمدينة ! فقلت له : تكون ضيفي . قال : لا سبيل إلى ذلك ، ثم ودعني وانصرف .
من أكرم مؤمنا فكأنما أكرم الله ، ومن آذى مؤمنا فقد أذى سيده ومولاه فإياك أن تؤذي مؤمنا فإن نفسك قد امتلأت بمساويها فيكفيها حملك .
وما مثلك إلا كالبصلة إذا قُشرت خرجت كلها قشورا .
إذا أردت تنظيف الماء قطعت عنه أسبابه الخبيثة ، فمثال الجوارح كالسواقي تجري إلى القلب ، فإياك أن تسقي قلبك بالرديء كالغيبة والنميمة والكلام السيء والنظر إلى ما لا يحل ، وغير ذلك ، فإن القلب لا يحجبه ما خرج منه ، وإنما يحجبه ما اقام فيه ، فإستنارة القلب : بأكل الحلال والذكر وتلاوة القرآن وصونه عن النظر إلى الكائنات المباحات والمكروهات والمحرمات . فلا تطلق صائد بصرك إلا لمزيد علم أو حكمة . عوض ما تقول : هذه المرآة صدئت ، قل: عيني بها رمد .
يكون بك حب الرياسة والجاه وغيرهما وتقول : الشيخ ما يجذب قلوبنا . قل : العائق مني.لو استعددت في أول يوم لما أحتجت إلى حضور مجلس ثان ، وإنما أحتجت إلى التكرار لقوة صدأ قلبك ، حتى تكون لكل جلسة صقلة .
عليك بالحوالة - حول أمورك كلها إلى الله وأطلبها منه وحده - على مولاك واترك من لا يستطيع أن ينفع غيره .
إقطع إياسك من الخلق ، ووجه رجاءك إلى الملك الحق ، وانظر : ماذا عملك ؟ وماذا عمل معك من اول نشأتك ؟ ما صنع معك إلا جوادا وإحسانا ، وانظر مذا صنعت معه فلا ترى إلا جفاء وعصيانا .
ما اكثر موالاتك للمخلوقين وما أقل موالاتك لله !!
جوارحك غنمك وقلبك هو الراعي والله هو المالك فإن رعيتها في المرعى الخصيب حتى أرضيت المالك ، استوجبت الرضى ، وإن رعيتها في المرعى الوخيم حتى أعجف - صار هزيلا ونحيلا - أكثرها ، ثم جاء الذئب فأخذ بعضها استوجبت العقوبة من المالك ، فإن شاء انتقم منك ، وإن شاء عفا عنك . فجوارحك إما أبواب إلى الجنة ، وإما أبواب إلى النار . فإن صرفتها فيما يرضاه كنت ساعيا في طريق الجنة ، وإلا كنت ساعيا في طريق النار . فهذه موازين الحكمة فزن بها عقلك كما تزن بها الأشياء المحسوسات ، فإن أردت أن تعرف كيف تمر على الصراط فأنظر حالك في الإسراع إلى المساجد ، فيكون جزاء الذي يأتي المسجد قبل الأذان أن يمر على الصراط كالبرق الخاطف والذي يأتي في أول الوقت يمر عليه كأجاويد الخيل . وها هنا صراط الإستقامة لا يُشهد بالأبصار ، ولكن تشهده بالقلوب ، قال الله تعالى :" وأن هذا صراطي مُستقيما فاتبعوه " .ولم يُشر إلا إلى موجود ، فمن أضاءت له الطريق يتبعها ، ومن كانت طريقه مظلمة لم يشهدها فيبقى متحيرا ، فإن كنت قد أطلقت سمعك وبصرك ولسانك بُرهة من عمرك فقيد الآن ما أطلقت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل الأغنياء بخمسمئة عام " . وذلك لأنهم سبقوا في الدنيا بالعبادات ، وأنت تترك الجماعة وتصلي وحدك ، وإذا صليتها نقرتها نقر الديك ، وهل يُهدى للملوك إلا ما حسن وأنتخب ؟ فما سبق الفقراء إلى الجنة إلا لأنهم سبقوا إلى خدمة المولى في الدنيا ، والمراد بالفقراء الصَّبْرُ الذين صبروا على مُر الفاقة ، حتى إن أحدهم ليفرح بالشدة كما تفرح أنت بالرخاء ، فدخول الفقراء الجنة قبل الأغنياء يدل على صبرهم على الفاقة .كفى بك جهلا أن تتردد إلى المخلوق ، وتترك باب الخالق ! فقد ارتكبت المعاصي من كل جانب ، أفلا تكون محزونا على نفسك ؟ والعجب كل العجب من عبد يُقبل على صُحبة نفسه ولا يأتيه الشر إلا منها ، ويترك صحبة الله ولا يأتيه الخير إلا منه .فإن قيل : كيف الصحبة لله ؟ فاعلم أن صحبة كل شيء على حسبه : فصحبة الله تعالى بإمتثال أوامره واجتناب نواهيه وصحبة الملكين بأن يُمليهما الحسنات وصحبة الكتاب والسنة أن يعمل بهما ، وصُحبتك السماء بالتفكر فيها ، وصُحبتك الأرض بالإعتبار لما فيهما وليس من لازم الصحبة وجود الرتبة ، فالمعنى في صحبة الله صحبة أياديه - النعم والآلاء - ونعمه : فمن صحب النعم بالشكر وصحب البلايا بالصبر ، وصحب الأوامر بالإمتثال ، والنواهي بالإنزجار ، والطاعة بالإخلاص - فقد صحب الله تعالى ، فإذا تمكنت الصحبة صارت خلة - المودة والصداقة - .إياك أن تقول : ذهب الخير وانطوى بساطه ، فلسنا نريد من يُقنط الناس من رحمة الله ويُؤيسهم منه تعالى ، ففي زبور داود عليه السلام:" أرحم ما أكون بعبدي إذا أعرض عني ". فرُب مطيع هلك بالعُجب ، ورُب مذنب غُفر له بسبب كسر قلبه .
عن الشيخ مكين الدين الأسمر أنه قال : رأيت بالإسكندرية عبدا مع سيده وعليهما لواءٌ قد أطبق ما بين السماء والأرض ، فقلت : يا تُرى هذا اللواء للسيد أم للعبد ، فتبعتهما حتى اشترى له سيده حاجة وفارقه ، فلما ذهب العبد ذهب اللواء معه ، فعلمت أنه وليٌ من أولياء الله تعالى ، فجئت إلى سيده وقلت له : أتبيعني هذا العبد ؟ فقال : لماذا ؟ فما زال بي حتى ذكرت له أمره ، فقال لي : يا سيدي ، الذي تطلبه أنت: أنا أولى به ، وأعتقه وكان وليا كبيرا .
فمنهم من يعرف الأولياء بالشم من غير وجود طيب ، ومنهم من يعرفهم بالذوق ، إذا رأى وليا ذاق طعم الحلاوة في فمه ، وإذا رأى صاحب قطيعة ذاق طعم المرارة المرارة في فمه .
من لم يترك المحرمات لم ينفعه القيام بالواجبات من لم يحتم لم ينفعه الدواء .
ما أقل بركة مال وقعت فيه أيدي الناهبين ! فهذا - والله - عُمُرُ الغافلين منهوب .
مثال الدنيا كعجوز جذماء برصاء ، سُترت بثوب حرير ، فالمؤمن نافرٌ ومُنفر عنها لإنكشافها له ، وما لبس أحدٌ لباسا أنتن من لباس الدعوى بأن يقول في المخاصمة : أنت مثلي ؟وأنت يصلح أن تكلمني ؟ومن أنت حتى أكلمك ! فأول من هلك بذلك أبليس ، فإياك وهذا ولو كان أعرج أجذم أجرب فلا تحقره ، لحرمة لا إله إلا الله في قلبه ، وحسن ظنك بكل أحد تُفلح ، أتحسب أن حُسن الخلق هو أن يكون الإنسان حسن الملتقى ، ومن أكرم الناس وضيع حقوق الله تعالى ؟ ليس هذا بحخُلق حسن ، بل لا يكون العبد ممدوحا بحُسن الخلق حتى يكون قائما بحقوق الله تعالى ، وقائما بأحكامه ، مستسلما لأوامر الله ، مجتنبا لنواهيه ، فمن منع نفسه معاصي الله ، وأدى حقوق الله فقد حسن خُلقه .
ما سلط الله عليك ألسنة العباد إلا لترجع إليه . ألا ترى : لا توال لك قيمة عند الله حتى تعصي ، فإذا عصيت فلا قيمة لك . التقوى هي ترك معصية الله حيث لا يراك أحد .
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا شرب الماء قال : "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَهُ عَذْبًا فُرَاتًا بِرَحْمَتِهِ ، وَلَمْ يَجْعَلُهُ مَالِحًا أُجَاجًا بِذُنُوبِنَا " .. وهو صلى الله عليه وسلم مقدس عن الذنوب ولكن تواضعا منه وتعليما وكان يمكنه أن يقول : بذنوبكم ، وما أكل الرسول ولاشرب إلا ليعلمنا الأدب وإلا فكان عليه الصلاة والسلام يُطعم ويُسقى ، فالعارف يُنكس رأسه إذا شرب وربما تقطر عيناه بالدموع ويقول : هذا تودد من الله تعالى .
كان بعضهم لا يخرج لصلاة الجماعة لما يتعرض له في طريقه ، منهم مالك بن أنس رضي الله عنه ، لأن الجماعة ربح والربح لا يُحسب إلا بعد الإطاحة على رأس المال .
لا تحسب السباع في البرية بل السباع في الأسواق والطرق وهي التي تنهش القلوب نهشا .
مثال من يُكثر الذنوب والإستغفار كمثل من يُكثر شُرب السُم ، ويُكثر استعمال الترياق ، فيقال له : قد لا تصل إلى الترياق مرة ، فيهجم عليك الموت قبل الوصول إليه .
من مرض قلبه مُنع أن يلبس التقوى ، فلو صح قلبك من مرض الهوى والشهوة تحملت أثقال التقوى ، فو صح قلبك من مرض الهوى والشهوة تحملت أثقال التقوى ، فمن لم يجد حلاوة الطاعة دُل على مرض قلبه من الشهوة ، وقد سمى الله تعالى الشهوة مرضا بقوله تعالى : " فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ".ولك في علاجه طريقان : استعمال ما هو نافع وهو الطاعة ، واجتناب ما هو لك مُضر وهو المعصية . فإن فعلت ذنبا وأعقبته بالتوبة والندم والإنكسار والإنابة كان ذلك سبب وصلتك به ، وإن فعلت طاعة وأعقبتها بالعجب والكبر كان ذلك سبب القطيعة عنه .
عجبا لك كيف تطلب صلاح قلبك ، وجوارحك تفعل ما شاءت من المحرمات كالنظر والغيبة والنميمة وغير ذلك ؟ فمثالك كمن يتداوى بالسم أو كمن أراد تنظيف ثوبه بالسواد ، فعليك بالخلوة والعزلة ، فمن كانت العزلة دأبه كان العز له ، فمن صدقت عُزلته ظفر بمواهب الحق له بالمنن ، وعلامتها : كشف الغطاء وإحياء القلب وتحقيق المحبة ، فعليك بحسن العمل لا بكثرته : فمثال كثرة العمل مع عدم الحُسن فيه كالثياب الوضيعة الثمن ، ومثال قلة العمل مع حُسنه كالثياب القليلة الرفيعة الثمن ، كالياقوتة : صغيرٌ جرمها مثير ثمنها . فمن أشغل قلبه بالله ، وعالجه مما يطرأ عليه من الهوى كان أفضل ممن يُكثر من الصلاة والصيام .مثال من صلى الصلاة بغير حضور قلب كمن أهدى للملك مئة صندوق فارغة فيستحق العقوبة من الملك ، ومن صلاها بحضور القلب كان كمن أهدى له ياقوتة تساوي ألف دينار ،فإن الملك يذكره عليها دائما .
إذا دخلت في الصلاة فإنك تناجي الله تعالى وتُكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنك تقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . ولا يُقال أيها الرجل عند العرب إلا لمن يكون حاضرا.
ركعتان بالليل خير من ألف بالنهار ، وأنت لا تصلي فيه ركعتين إلا لتجد ذلك في كيزانك ، وهل يُشترى العبد إلا للخدمة؟ هل رأيت عبدا يُشترى ليأكل وينام ؟ وما أنت إلا عبد أشتُريت . قال الله تعالى :" إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ".
من لم يُلزم نفسه لزمته ، ومن لم يطالبها طالبته ، فلو جعلت عليها الأثقال بالطاعة لما طالبتك بالمعصية ، ولما كانت تتفرغ لها . هل رأيت الصالحين والعُباد يتفرجون في الأعياد ؟ من شغل نفسه بالمباحات والفرح شُغل عن قيام الليل ، فيقال له : شغلت نفسك عنا فشغلناك عن عبادتنا .
ركعتان في جوف الليل أثقل عليك من جبل أحد ، فأعضاء يبست عن الطاعة لا تصلح إلا للقطع ، فإن الشجرة إذا يبست لا تصلح إلا للنار .
من أحب الدينا بقلبه كان كمن بنى حسنا فوقه مرحاض فرشح عليه ، فلا يزال كذلك حتى يُرى ظاهره كباطنه ، ومنهم من يُنقيه فلا يزال قلبه أبيض ، وتنقيه بالتوبة والأذكار ،والندم والإستغفار . كذلك أنت في حضرة الله مُلوث بمعصيتك ، تأكل المحرم وتنظر إلى المحرم ، فمن يفعل المخالفات والشهوات يُظلم قلبه ، فان لم تتب في حال الصحة ربما ابتلاك بالأمراض والمحن ، حتى تخرج نقيا من الذنوب كالثوب إذا غُسل فاصقل مرآة قلبك بالخلوة والذكر حتى تلقى الله تعالى ، وليكن ذكرا واحدا فتنبع لك الأنوار ، ولا تكن كمن يريد أن يحفر بئرا فيحفر ذراعا هنا وذراعا هنا فلا ينبع له ماءٌ أبدا ، بل احفر في مكان واحد فينبع لك الماء .
يا عبدالله دينك هو رأس مالك ، فإن ضيعته ضيعت رأس مالك ، فاشغل لسانك بذكره ، وقلبك بمحبته ، وجوارحك بخدمته ، واحرث وجدودك بالمحارث حتى يجيء البذر فينبت ، ومن فعل بقلبه كما يفعل الفلاح بأرضه أنار قلبه .
فمثالك مثال رجلين اشتريا أرضا قياسا واحدا ، فأخذها الواحد فنقاها من الشوك والحشيش وأجرى بها الماء ، وبذرها فنبتت وجنى منها وانتفع بها ، فهذا كمن نشأ في الطاعة قد أشرقت أنوار قلبه .
وأما الآخر فإنه أهملها حتى نبت فيها الشوك والحشيش ،وبقيت مأوى للأفاعي والحيات ، فهذا قد أظلم قلبه بالمعاصي .
إذا حضرت المجلس وخرجت إلى المخالفات والغفلات فإياك أن تقول:ما يُفيد حضوري ؟ بل احضر يكون بك مرض أربعين سنة ، أفتريد أن يذهب عنك في ساعة واحدة ، أو في يوم واحد ؟ فمثاله كرمل رمي في موضع أربعين عاما ، أفتريد أن يزول في ساعة واحدة أو في يوم واحد ؟ فمن فعل المعاصي وتقلب في الحرام لو انغمس في سبعة أبحر لم يطهر حتى يعقد مع الله عقد التوبة .
للظاهر جنابة تمنعك من دخول بيته ، وتلاوة كتابه ، وللباطن جنابة تمنعك من دخول حضرته ، وفهم كلامه ، وهي الغفلة .
فإذا طلبت النفس الشهوات فالجمها بلجام الشرع ، فمثالها كالدابة إذا مالت لزرع غيرك ، فغض الأبصار عن ميلها إلى المستحسنات ، والقلوب عن ميلها إلى الشهوات ، وليكن قلبك معمورا على الدوام ، والحق سبحانه وتعالى اختار لحضرته من يصلح لها ، ومن لا يصلح رماه للكائنات ، فمثالهم كالعبيد يُعرضون على الملك ، فمن أخذه الملك عز ومن لا يصلح بقى للرعية .
ما أتيت لمواطن حكمة أو معصية إلا وفي عُنقك سلسلة نورانية أو ظلمانية ، فإن كنت لا تشهدها أنت فغيرك يشهدها ، ألا ترى أن الشمس يشهدها الناس أجمعون إلا من كان أعمى ؟؟!
ما فائدة العلم إلا بالعمل به ، مثاله كملك كتب كتب إلى نائبه بثغر كتابا فما فائدة الكتاب ؟ أن تقرأه فقط؟ إنما فائدته العمل به .
مثال من يشتغل بالعلم وليس له بصيرة كمثل مئة ألف أعمى سلكوا طريقا متحيرين فيها ، فلو كان فيهم واحد بعين واحدة لتبعه الناس أجمعون وتركوا مئة ألف أعمى .
ومثال العالم مع ترك العمل كالشمعة تُضيء للناس بإحراق نفسها .علمٌ فيه غفلة عن الله : الجهل خير منه فمن أثمرت جوارحه فقد أمطر قلبه لسانه بالذكر ، وعينه بالغمض ، وأذنيه بالإستماع إلى العلم ، ويديه ورجليه بالسعي إلى الخيرات .
من أكثر من مجالسة أهل هذا الزمان فقد تعرض لمعصية الله تعالى ، مثاله كمن جعل الحطب اليابس في النار ، ويريد ألا تتقد ، فقد أراد مُحالا ، لأنه قد ورد .
خُص بالبلاء من عرفته الناس ، وعاش فيهم من لم يعرفهم ، فربما جالست غير مُتق وكنت متقيا فجرك إلى الغيبة وقهرك في نفسك .
ما خرب القلوب إلا قلة الخوف .
القلب الحسن هو الذي لا يشغله عن الله تعالى حسنٌ . إن أردت شفاء قلبك فاخرج إلى صحراء التوبة ، وحول حالك من الغيبة إلى الحضور ، وألبس ثياب الذلة والمسكنة ، فإن القلب يشفى ، ولكنك تحشو بطنك وتتفاخر بالسمن ، فمثالك كالخروف الذي يُسمن للذبح ، ألا فقد ذبحت نفسك وأنت لا تشعر !!.
لا يفتك مجلس الحكمة ولو كنت على معصية ، فلا تقل : ما الفائدة في السماع المجلس ، ولا أقدر على ترك المعصية ؟ بل على الرامي أن يرمي فإن لم يأخذ اليوم يأخذ غدا ، ولو كنت كيسا فطنا لكانت حقوق الله عندك أحظى من حظوظ نفسك .
ما يطلع على الأسرار إلا أمين ، وأنت تُعطي نفسك حظها من المآكل والمشارب حتى تملأ بيت الخلاء ، أو يكفيك حبُ الدنيا ؟ ومن احب الدنيا فقد خان ، ومن خان فهل يُطلعك الملكُ على أسراره ! فأستعمل الأذكار وعليه إنزال الأنوار .
ما نفع القلب شيء مثل خلوة يدخل بها ميدان فكرة ."كيف يُشرق قلب صُورُ الأكوان منطبعة في مرآته ، أم كيف يرحل إلى الله وهو منكب على شهواته ، أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يطهر من جنابة غفلاته ، أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته ؟".
-أصل كل معصية وغفلة وسهو : الرضى عن النفس ، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة : عدم الرضى عنها .
-لا ترحل من كون إلى كون فتكون كالحمار في الرحى ، يسير ، والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه ، ولكن ارحل من الأموان إلى المُكون .
-إنما الأنوار مطايا القلوب والأسرار . والنور جند القلب كما أن الظلمة جند النفس ، فإذا أراد الله أن ينصر عبده أمده بجنود الأنوار ،وقطع عنه مدد الظلم والأغيار .
-النور له الكشف ، والبصيرة لها الحُكم ، والقلب له الإقبال والإدبار .
-الأكوان ظاهرها غرة - أي يغتر بها الإنسان - وباطنها عبرة ، فالنفس تنظر إلى ظاهر غرتها ، والقلب ينظر إلى باطن عبرتها .
متى اوحشك الله من خلقه فأعلم أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس به .
الصلاة محل المناجاة ، ومعدن المصافاة ، تتسع فيها ميادين الأسرار وتُشرق فيها شوارق الأنوار ، علم وجود الضعف منك فقلل أعدادها وعلم احتياجك إلى فضله فكثر أمدادها .
الناس يمدحونك بما يظنون فيك ، فكن أنت ذاما لنفسك لما تعلم منها ، فإن أجهل الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس . غيب نظر الخلق إليك ، وغب عن إقبالهم عليك بشهود إقباله عليك.
اعلم أن العباد يتشوفون إلى ظهور سر العناية ، فقال تعالى: " يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ " . وعلم أنه لو خلاهم وذلك لتركوا العمل اعتمادا على الأزل فقال تعالى " إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ " .
إن أردت ورود المواهب عليك فصحح الفقر والفاقة لديك .
أنوار أُذن لها بالدخول ، وأنوار أُذن لها بالوصول . ربما وردت عليك الأنوار فوجدت القلب محشوا بصور الآثار ، فارتحلت من حيث نزلت .فرغ قلبك من الأغيار يملأه بالمعارف والأسرار . المؤمن يشغله الثناء على الله عن أن يكون لنفسه شاكرا ، وتشغله حقوق الله عن أن يكون لحظوظه ذاكرا .
جعلك الله في العالم الأوسط بين مُلكه وملكوته ، ليُعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته ، وأنك جوهرة انطوت عليها أصداف مُكوناته .
أنت مع الأكوان مالم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأموان معك .
العاقل بما هو أبقى أفرح منه بما هو يفنى ، قد أشرق نوره وظهرت تباشيره ، فصد عن هذه الدار موليا ، وأعرض عنها مُغضيا ، فلم يتخذها موطنا ، ولا جعلها سكنا ، بل أنهض الهمة فيها إلى الله تعالى ، وسار إليه مستعينا به في القدوم عليه ، فما زالت مطية عزمه لا يقر قرارها ، دائما تسايرها إلى أن أناخت بحضرة القدس وبساط الأنس ،محل المفاتحة والمواجهة والمجالسة ، والمحادثة والمشاهدة والملاطفة ، وصارت الحضرة مُعشش قلوبهم ، إليها يأوون وفيها يستوطنون ، فإن نزلوا إلى سماء الحقوق ، وأرض الحظوظ فبالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين ، فلم ينزلوا إلى الحقوق بسوء الأدب والغفلة ، ولا إلى الحظوظ بالشهوة والمتعة ، بل دخلوا في ذلك كله بالله ولله ومن الله وإلى الله ، فإياك يا أخي أن تُصغي إلى الواقعين في هذه الطائفة ، لئلا تسقط من عين الله ، وتستوجب المقت من الله ، فإن هؤلاء القوم جلسوا مع الله على حقيقة الصدق وإخلاص الوفاء ومراقبة الأنفاس مع الله ، قد سلموا قيادهم إليه ، وألقوا أنفسهم سلما بين يديه وتركوا الإنتصار لأنفسهم حياء من ربهم ، فكان هو المحارب عنهم لمن حاربهم ، والغالب لمن غالبهم . ولقد ابتلى الله هذه الطائفة بالخلق خصوصا ، ولا سيما أهل العلم ، فقل أن تجد منهم من شرح الله صدره للتصديق بولي مُعين بل يقول لك : نعم إن الأولياء موجودون ولكن أين هم ؟ فلا يُذكر له أحد إلا وأخذ يدفع خصوصية الله فيه ، طلق اللسان بالإحتجاج ، عاريا من التصديق ، فاحذر من هذا وصفه ،وفر منه فرارك من الأسد .
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : "ليس الفقيه من فقأ الحجاب عيني قلبه ، وإنما الفقيه من فهم سر الإيجاد ، وأنه ما أوجده إلا لطاعته ولا خلقه إلا لخدمته ، فإذا فهم هذا كان الفقه منه سببا لزهده في الدنيا وإقباله على الآخرة ، وإهماله لحظوظ نفسه واشتغاله بحقوق سيده ، مفكرا في المعاد ، قائما بالإستعداد" .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير ". والمؤمن القوي هو الذي أشرق في قلبه نور اليقين .
قال الله تعالى : " وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّات النَّعِيم" ، سبقوا إلى الله فخلصوا قلوبهم مما سواه ، فلم تُعقهم العوائق ، ولم تشغلهم عن الله العلائق ، فسبقوا إلى الله إذ لا مانع لهم ، وإنما منع العباد من السبق جواذب التعلق بغير الله ، فكلما همت قلوبهم أن ترحل إلى الله سبحانه وتعالى جذبها ذلك التعلق الذي به تعلقت ، فكرت راجعة إليه ومقبلة عليه ، فالحضرة مُحرمة على من هذا وصفه ، وممنوعة على من هذا نعته ، وافهم ها هنا قوله تعالى : ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ والقلب السليم هو الذي لا تعلق له بشيء غير الله تعالى ، وقوله تعالى : "وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ" يُفهم منه أنه لا يصلح مجيئك إلى الله ولا الوصول إليه إلا إذا كنت فردا مما سواه ، وقوله تعالى : " أَلَمْ يَجِدك يَتِيمًا فَآوَى " يفهم منه أنه لا يأويك الله إلا إذا صح يُتمك مما سواه ، وقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله وتر يحب الوتر . أي يحب القلب الذي لا يُشفع بمثنيات الآثار ، فكانت هذه القلوب لله وبالله ، فهم أهل الحضرة المخاطبون بعين المنة ، فكيف يُمكنهم أن لسواه مستندين ، وهم لوجود الأحدية مشاهدون ؟
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله : "قوي علي الشهود فسألته أن يستر علي ذلك ، فقيل لي : لو سألته بما سأله موسى كليمه وعيسى روحه ومحمد حبيبه صلى الله عليه وسلم وصفيه ، لم يفعل ذلك ولكن سله أن يُقويك ، فسألته فقواني .
فأهل الفهم أخذوا عن الله وتوكلوا عليه فكانوا بمعونته لهم ، فكفاهم ما أهمهم وصرف عنهم ما أغمهم ، واشتغلوا بما أمرهم عما ضمن لهم ، علما منهم بأنه لا يكلهم إلى غيره ، ولا يمنعهم من فضله ، فدخلوا في الراحة ، ووقفوا في جنة التسليم ، ولذاذة التفويض ، فرفع الله بذلك مقدراهم وكمل أنوارهم .
وأعلم رحمك الله تعالى أن العلم حيثما تكرر في الكتاب العزيز ، أو في السنة المطهرة إنما المراد به العلم النافع الذي تُقارنه الخشية ، وتكتنفه المخافة ، قال الله تعالى : "إنما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" ، فبين أن العلم تُلازمه الخشية ، فالعلماء هم أهل الخشية ، وكذلك قوله تعالى : " إن الذين أوتوا العلم من قبله " وقوله تعالى : " وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ " وقوله تعالى : " وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا " ، وقوله صلى الله عليه وسلم :"العلماء ورثة الأنبياء" . إنما المراد بالعلم في هذه المواطن كلها ، العلم النافع القاهر للهوى ، القامع للنفس ، وذلك متعين بالضرورة ، لأن كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل من أن يُحمل على غير هذا ، والعلم النافع هو الذي يُستعان به على الطاعة ، ويُلزم الخشية من الله تعالى ، والوقوف على حدود الله تعالى ، وهو علم المعرفة بالله تعالى ، ولكن من استرسل بإطلاق التوحيد ولم يتقيد بظواهر الشريعة فقد قذف به في بحر الزندقة ، ولكن الشأن أن يكون بالحقيقة مؤيدا ، وبالشريعة مقيدا ، وكذلك المحقق فلا يكون منطلقا مع الحقيقة ولا واقفا مع ظاهر إسناد الشريعة ، وكان بين ذلك قواما ، فالوقوف مع ظاهر الإسناد شرك ، والإنطلاق مع الحقيقة من غير تقييد بالشريعة تعطيل ، ومقام الهداية قيما بين ذلك .
كل علم تسبق إليك فيه الخواطر وتتبعها الصور ، وتميل إليه النفس ، وتتلذ به الطبيعة ، فارم به وإن كان حقا ، وخذ بعلم الله الذي أنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واقتد به وبالخلفاء من بعده ، وبالصحابة والتابعين من بعدهم ، وبالهداة إلى الله تعالى ، الأئمة المبرئين من الهوى ، ومتابعتهم تسلم من الشكوك والظنون والأوهام والوساوس والدعاوي الكاذبة المضلة عن الهدى وحقائقه . وحسبك من العلم النافع : العلم بالوحدانية . ومن العلم : محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومحبة الصحابة وإعتقاد الحق للجماعة ، وإذا أردت أن يكون لك نصيب مما لأولياء الله تعالى ، إما بإشارة صادقة أو بأعمال ثابتة لا ينقضها كتاب ولا سنة ، فارفع همتك إلى مولاك واشتغل به دون غيره .
سمعت الشيخ أبا العباس المرسي يقول : والله ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن الخلق .
واذكر رحمك الله ها هنا قوله تعالى : "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ" فمن العز الذي أعز الله به المؤمن : رفع همته إلى مولاه وثقته به دون ما سواه .
واستح من الله بعد أن يكون كساك حُلة الإيمان ، حتى تميل إلى الأكوان ، أو تطلب من غيره وجود الإحسان .
وقبيح بالمؤمن أن يُنزل حاجته بغير مولاه ، مع علمه بوحدانيته وانفراده بربوبيته ، وهو يسمع قول الله تعالى ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾. وليذكر قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوابِالْعُقُودِ﴾.ومن العقود التي عاقدته عليها ألا ترفع حوائجك إلا إليه ، ولا تتوكل إلا عليه ، ورفع الهمة عن الخلق هو ميزان الفقر . ﴿وأقيموا الوزن بالقسط﴾. فيظهر الصادق بصدقه والمدعي بكذبه ، وقد ابتلى الله تعالى بحكمته ووجود منته الفقراء الذين ليسوا بصادقين بإظهار ما كتموا من الرغبة ، وأسروه من الشهوة فابتذلوا أنفسهم لأبناء الدنيا ، مُباسطين لهم ، موافقين لهم على مآربهم ، مدفوعين عن أبوابهم ، فترى الواحد منهم يتزين كما تتزين العروس .
معتنون بإصلاح ظواهرهم ، غافلون عن إصلاح سرائرهم ، ولقد وسمهم الحق وسمة كشف بها عُوارهم ، وأظهر أخبارهم ، فبعد أن كانت نسبتهم مع الله ، أن لو صدق مع الله أن يقال له : عبد كبير ، فأخرج عن هذه النسبة فصار يقال له : شيخ الأمير . أولئك الكاذبون على الله تعالى ، الصادون العباد عن صحبة أولياء الله ، لأن ما يشهده العوام منهم يحملونه على كل منتسب لله ، صادق وغير صادق ، فهم حُجُبُ أهل التحقيق ، وسُحُبُ شمس أهل التوفيق ، ضربوا طبولهم ، ونشروا أعلامهم ، ولبسوا دروعهم ، فإذا وقعت الحملة ولوا على أعقابهم ناطصين ، ألسنتهم منطلقة بالدعوى ، وقلوبهم خالية من التقوى ! ألم يسمعوا قوله سبحانه وتعالى "لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ " أتُرى : إذا سأل الصادقين عن صدقهم ، أيترك المدعين من غير سؤال ؟ ألم يسمعوا قوله تعالى: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" فهم في إظهار زي الصادقين وعملهم عمل المُعرضين .
قال الله تعالى: "وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا " فاعلم أن باب الرزق طاعة الرازق ، فكيف يُطلب منه بمعصيته ، أم كيف يُستمطر فضله بمخالفته ؟ وقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام :" لا يُنال ما عند الله بسخطه" أي : لا يُطلب رزقه إلا برضاه ، وقد قال تعالى مبينا لذلك بقوله :"وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" ولهذا المعنى قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه في حزبه لما قال : وأعطنا كذا وكذا ، قال : والرزق الهني الذي لا حجاب به في الدنيا ،ولا حساب ولا سؤال ولا عقاب عليه في الآخرة ، فأهله على بساط علم التوحيد والشرع سالمين من الهوى والشهوة والطمع .
واحذر من التدبير مع الله تعالى ! فمثال المدبر مع الله كعبد أرسله السيد إلى بلد ليصنع له ثيابا ، فدخل العبد تلك البلدة فقال : أين أسكن ؟ ومن اتزوج؟ فاشتغل وصرف همته لما هنالك وعطل ما أمره السيد به حتى دعاه إليه ، فجزاؤه من السيد أن جازاه القطيعة ووجود الحجبة ، لإشتغاله بإمر نقسه عن حق سيده . كذلك أنت أيها المؤمن أخرجك الحق إلى هذه الدار وأمرك فيها بخدمته وقام ذلك بوجود التدبير منة لك ، فإن أشتغلت فيها بتدبير نفسك عن حق سيدك فقد عدلت عن سبيل الهدى ، وسلكت مسالك الردى . ومثال المدبر مع الله ، والذي لا يدبر مع الله ، كعبدين للملك: أما أحدهما فمشتغل بأوامر سيده ، لا يلتفت إلى ملبس ولا مأكل ، بل إنما هنته خدمة السيد ، فأشغله ذلك عن التعرض لحظوظ نفسه ، وأما العبد الآخر فكيفما طلبه سيده وجده يغسل ثيابه ، وفي سياسة مركوبه ، وتحسين زيه ! فالعبد الأول أولى بإقبال سيده من العبد الثاني ، والعبد إنما اشتُري للسيد لا لنفسه ، كذلك العبد البصير الموفق لا تراه إلا مشغولا بحقوق الله وامتثال اوامره ونواهيه عن محاب نفسه ومهماته ، فلما كان كذلك قام له الحق سبحانه وتعالى بكل أموامره وتوجه له بجزيل عطائه لصدقه في توكله ، لقوله تعالى: " ومن يتوكل على الله فهو حسبه ". والغافل ليس كذلك ، لا تجده إلا في تحصيل دنياه وفي الأشياء التي توصله إلى هواه .
ومثال العبد مع الله في هذه الدار كالطفل مع امه ، ولم تكن الأم تدع تدبير ولدها من كفالتها ، ولا أن تُخرجه من رعايتها . كذلك المؤمن مع الله ، قائم له بحسن الكفالة ، فهو سائق إليه المنن ، ودافع عنه المحن .
ومثال العبد في الدنيا كمثل عبد قال له السيد : اذهب إلى أرض كذا وكذا ، وأحكم أمرك لأن تسافر منها في برية كذا وكذا ،وخذ أهبتك وعُدتك ، فإذا أذن له السيد في ذلك ، فمعلوم أنه قد أباح له أن يأكل ما يستعين به على إقامة بُنيته ليسعى في طلب العدة ، وليقوم بوجود الأهبة .
كذلك العبد مع الله : أوجده في هذه الدار وأمره أن يتزود منها لمعاده ، فقال الله تعالى :" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" فمعلوم أنه إذا أمره بالزاد إلى الآخرة فقد أباح له أن يأخذ من الدنيا ما يستعين به على تزوده إلى الآخرة ، وإستعداده وتأهبه لمعاده .
ومثال العبد مع الله كمثل أجير أتى به ملك إلى داره ، وأمره أن يعمل له عملا ، فما كان الملك ليأتي بالأجير ويستخدمه في داره ويتركه من غير تغذية ، إذ هو أكرم من ذلك . فكذلك العبد مع الله : فالدنيا دار الله ، والأجير هو أنت . والعمل هو الطاعة والأجرة هي الجنة ، ولم يكن الله ليأمرك بالعمل ، ولا يسوق لك ما به تستعين عليه .
ومثال العبد مع الله تعالى كمثل عبد أمره الملك أن يقيم في أرض كذا ، ويحارب فيها العدو ويجاهده فيها ، فمعلوم أنه إذا أمره بذلك أباح له أن يأكل من مخازن تلك الأرض بالأمانة ، ليستعين به على محاربة العدو . وكذلك العباد : أمرهم الحق سبحانه وتعالى بمحاربة النفس والشيطان ومجاهدتهما ، لقوله تعالى : وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم " وقال تعالى :" إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا " فلما أمر العبد بمحاربته ، أذن له أن يتناول من منابت أرضه ما يستعين به على محاربة الشيطان ، إذ لو تركت المأكل والمشرب لم يُمكنك أن تقوم بطاعته ، ولا أن تنهض لخدمته .
ومثال العبد مع الله كمثل ملك له عبيد ، فبنى دارا وبهجها وحسنها ، وتولى غراسها ، وكمل المشتهيات فيها ، في غير الموطن الذي فيه العبيد ، وهو يريد أن ينقلهم إليها ، أترى إذا كانت هذه العناية بهم فيما ادخره لهم عنده وهيأه لهم بعد الرحلة ، أيمنعهم ها هنا أن يتناولوا من مننه ، وفضلات طعامه وهو قد هيأ لهم الأمر العظيم والفضل الجسيم ؟! كذلك العباد مع الله : جعلهم في الدنيا ، وهيأ لهم الجنة ، فلا يريد أ، يمنعهم من الدنيا ولكت ما يُقيم به وجودهم ، فقال تعالى ;" كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا " وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ".وإذا ادخر لك الباقي ومن عليك به لا يمنعك الفاني ،فإنما يمنعك مالم يقسمه لك ، ومالم يقسمه لك فليس لك .
ومثال المهموم بأمر دنياه ، الغافل عن التزود لأخراه ، كمثل إنسان فاجأه سبع وهو يريد أن يفترسه ، ووقع عليه ذباب ، فاشتغل بذب الذباب ودفعه عن التحرز من السبع .
والحق أن هذا عبد أحمق ، فاقد وجود العقل ، ولو كان متصفا بالعقل لشغله أمر الأسد وصولته وهجومه عليه عن الفكرة في الذباب . كذلك المهتم بأمر ديناه عن التزود للآخرة ، دل ذلك منه على وجود حمقه ، إذ لو كان فهما عاقلا لتأهب للدار الآخرة التي هي مسؤول عنها ، وموقوف فيها ، فلا يشتغل بأمر الرزق ، فإن الإهتمام به بالنسبة للآخرة نسبة الذباب إلى مفاجأة الأسد وهجومه .
ومثال المدخر للأمانة كعبد الملك لا يرى أن له مع سيده شيئا ، ولا يعتمد على ادخار ما في يده ، ولا بدل له ، ولا يختار إلا ما اختاره السيد له ، فإذا فهم هذا العبد أن الإمساك مُراد السيد ، أمسك لسيده لا لنفسه ، حتى يتخير موضع صرفه ، فيكون له صارفا حين يفهم من سيده إرادة صرفه ، فهذا بإمساكه غير ملوم ، لأنه أمسك لسيده لا لنفسه ، كذلك أهل المعرفة بالله إن بذلوا ففيه ، وإن أمسكوا فله ، يبتغون ما فيه رضاه ، ولا يريدون ببذلهم وإمساكهم إلا إياه ، فهم خُزان أمناء ، وعبيد كُبراء ، وأبرار كرماء ، قد حررهم الحق من رق الآثار ، فلم يميلوا إليها بحب ، ولم يُقبلوا عليها بود ، منعهم من ذلك ما أسكنه في قلوبهم من حب الله ووده ، وما امتلأت به صدورهم من عظمته ومجده ، فصارت الأشياء في أيديهم كهي في خزائن الله من قبل أن تصل إليهم ، علما بأن الله تعالى يملكهم ويملك ما ملكهم .
بيان للمعتبرين وهداية للمستبصرين : وهو أن من خرج عن تدبيره لنفسه كان الله هو المتولي بحسن التدبير له .
والتدبير على قسمين : تدبير محمود ، وتدبير مذموم .
فالتدبير المذموم : هو كل تدبير ينعطف على نفسك بوجود حظها ليس لله فيه شيء ، كالتدبير في تحصيل معصية ، أو في حظ بوجود عقل ، أو طاعة بوجود رياء وسمعة ، ونحو هذا ، فهذا كله مذموم لأنه إما موجب عقابا ، وإما موجب حجابا . ومن عرف نعمة العقل استحى من الله سبحانه أن يصرف عقله إلى تدبير مالا يوصله إلى قربه ، ولا يكون سببا لوجود حبه ، والعقل أفضل ما من الله به على عباده ، لأنه سبحانه خلق الموجودات وتفضل عليها بالإيجاد وبدوام الإمداد ، فاشتركت الموجودات في إيجاده وإمداده ، فلما اشتركت أراد الحق سبحانه أن يميز الآدمي عنهم ، فأعطاه العقل وأيده به ، وفضله بذلك على الحيوان ، وأكمل به نعمته على الإنسان ، وبالعقل ووفوره وإشراقه ونوره ، تتم مصالح الدنيا والآخرة ، فصرف نعمة العقل إلى تدبير الدينا التى لا قدر لها عند الله تعالى كفرٌ لنعمة العقل ، وتوجُهُه إلى الإهتمام بإصلاح شأنه في معاده ، قائما بشكر المحسن إليه ، والمفيض من نوره عليه : أحق به وأحرى ، وأفضل له وأولى فلا تصرف عقلك الذي من الله به عليك في تدبير الدنيا ، التي هي كما أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : الدنيا جيفة قذرة . وكما قال للضحاك : ما طعامك ؟ قال : اللحم واللبن .
قال : ثم يعودان إلى ماذا ؟ قال : إلى ما قد علمت يا رسول الله . قال : فإن الله قد جعل ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا .
والتدبير المحمود : هو ما كان تدبيرا لما يُقربك إلى الله سبحانه وتعالى ، كالتدبير في براءة الذمة من حقوق المخلوقين ، إما وفاء وإما إستحلالا ، وتصحيح التوبة إلى رب العالمين ، والفكرة فيما يؤدي إلى قمع الهوى المُردي والشيطان المغوي ، فهذا كله محمود لا شك فيه، ولذلك قال رسول الله صلىالله عليه وسلم : فكرة ساعة خير من عبادة سبعين سنة .
والتدبير للدنيا على قسمين : تدبير الدنيا للدنيا ، وتدبير الدنيا للآخرة .
فتدبير الدنيا للدنيا: هو أن يدبر في أسباب جمعها افتخارا واستكثارا لها ، وكلما زيد فيها شيء ازداد غفلة واغترارا ، فأمارة ذلك أن تشغله عن الموافقة وتؤديه إلى المخالفة .
وتدبير الدنيا للآخرة : كمن يدبر المتاجر ليأكل منها حلالا ، لأو لينعم على ذوي الفاقة أفضالا ، وليصون بها وجهه عن الناس إجمالا ، فأمارة ذلك عدم الإستكثار والإدخار ، والإسعاف والإيثار ، فقد تبين من هذا أنه ليس كل طالب للدنيا مذموما ، بل مذموم من طلبها لنفسه لا لربه، ولدنياه لا لآخرته ، فالناس إذا على قسمين : عبدٌ طلب الدنيا للدنيا ، وعبدٌ طلب الدنيا للآخرة .
وسمعت شيخنا أبا العباس المرسي رضي الله عنه يقول : العارف لا دنيا له ولا آخرة ، لأن دنياه لآخرته ، وآخرته لربه . وعلى هذا تحمل أحوال الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين ، فكل ما دخلوا فيه من أسباب الدنيا فهم بذلك إلى الله متقربون ، وإلى رضاه منتسبون ، لا يقصدون بذلك الدنيا وزينتها ، ووجود لذاتها ، ولهذا وصفهم الله تعالى بقوله: " مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا" . وما ظنك بقوم يحبهم الله ، واختارهم لصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم والأحكام ، وبينوا الحلال من الحرام ، وفهموا الخاص والعام ، وفتحوا الأقاليم والبلاد ، وقهروا أهل الشرك والعناد ، ويحق قوله صلى الله عليه وسلم فيهم : أصحابي كالنجوم بأيهم أقتديتم اهتديتم . وقد وصفهم الله في الآية الكريمة بأوصاف إلى أن قال " يبتغون فضلا من الله ورضوانا " . دل ذلك من قوله سبحانه وتعالى أنهم ما ابتغوا بما حملوه من الدنيا ولم يقتصدوا بذلك إلا وجهه الكريم وفضله العظيم . وقال سبحانه وتعالى في آية أخرى: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ * رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ" . وبم ينف عنهم الأسباب ولا التجارة ، ولا البيع ولا الشراء فلا يُخرجهم عن المُدحة غناهم إذا قاموا فيه بحقوق مولاهم .
قال عبدالله بن عتبة : كان لعثمان بن عفان رضي الله عنه عند خازنه يوم قتل زنة مئة ألف وخمسمائة دينار ، وألف ألف درهم ، وترك ألف فرس ، وألف مملوك ، وخلف ضياعا : يبئر أريس وخيبر ووداي القرى ما قيمته مئتا ألف دينار . وخلف عمرو بن العاص ثلاثمائة ألف دينار ، وبلغ مال الزبير بن العوام خمسين ألف دينار ، وترك ألف فرس وألف مملوك .
وغنى عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أشهر من أن يذكر . وكانت الدنيا في أكفهم لا في قلوبهم ، صبروا عنها حين فُقدت ، وشكروا الله حين وُجدت ، وإنما ابتلاهم الله بالفاقة في أول أمرهم حتى تكملت أنوارهم ، وتطهرت أسرارهم ، فبذلها لهم حينئذ ، لأنهم لو أُعطُوها قبل ذلك لعلها كانت تأخذ منهم ، فلما أعطوها بعد التمكين والرسوخ في اليقين تصرفوا فيها تصرف الخازن الأمين ، وامتثلوا فيها قول رب العالمين: " وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " .
فكانت الدنيا في أيدي الصحابة لا في قلوبهم ، ويكفيك في ذلك خروج عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن نصف ماله ، وخروج أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن ماله كله ، وخروج عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه عم سبعمائة بعير موقورة بالأحمال ، وتجهيز عثمان بن عفان رضي الله عنه جيش العسرة ، إلى غير ذلك من حُسن فعالهم وسني أحوالهم رضي الله عنهم أجمعين رضاء دائما ابدا .
فتضمنت الآيات التزكية لظاهرهم وسرائرهم ، وإثبات محامدهم ومفاخرهم ، فقد تبين من هذا أن التدبير على قسمين : تدبير الدنيا للدنيا كما هو حال أهل القطيعة اللئام الغافلين ، وتدبير الدنيا للآخرة كحال الصحابة الأكرمين والسلف الصالحين ، رضوان الله تعالى عليهم أجميعن وجعلنا ممن اقتدى بهم ، آمين بل ألف ألف آمين .
تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس
المؤلف: ابن عطاء الله السكندري
ياسلام كتاب روعة
ردحذف