قال الششتري رضي الله عنه:
الخلق خلقكم والأمر أمركم ... فأي شيء أنا لكنت من ظلل
ما للحجاب مكان في وجودكم ... إلا بسر حروف أنظر إلى الجبل
أنتم دللتم عليكم منكم ولكم ... ديمومة عبرت عن غامض الأزل
عرفتم بكم هذا الخبير بكم ... أنتم هم يا حياة القلب يا أملي
قوله:" الخلق خلقكم" المراد بالخلق صور الأشباح وبالأمر سر الأرواح أي الأشباح حكمتكم والأرواح سر من أسراركم فأنا لا وجود لي أصلاً فأي شيء قدرت نفسي وجدتها لكم ومظهراً من مظاهركم وإنما أنا ظل من ظلل وجودكم، ثم قال:" ما للحجاب مكان في وجودكم" أي لا موضع للحجاب الحسي في وجودكم إذ لو كان للحجاب مكان في وجودكم لكان أقرب إلينا منكم وهو محال لأنك قلت ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وقوله:" إلا بسر حروف" الإستثناء منقطع أي موضعه للحجاب الحسي بيننا وبينكم لكن حجاب القهرية ورداء العزة والكبرياء هو الذي منع الأبصار من رؤية نوركم الأصلي الجبروتي إذ لو ظهر ذلك النور لأضمحلت المكونات ولا أحترقت من نور السبحات ولهذا السر أمر الله سيدنا موسى عليه السلام حين طلب الرؤية بالنظر إلى الجبل لما أراد الله تعالى أن يتجلى له بشيء من ذلك النور فلما لم يثبت الجبل لشيء قليل منه علمنا أنه لا طاقة للعبد الضعيف في هذه الدار على الرؤية الواحد القهار إلا بواسطة الأكوان الكثيفة بعد أن نشر عليها الأردية المعنوية وهذا معنى قوله:" إلا بسر حروف أنظر إلى الجبل" أي الا بحجاب القهرية المفهوم من سر قوله تعالى:" أنظر إلى الجبل" أو إلا حجاباً ملتبساً بسر الحكمة المفهوم من قوله تعالى:" أنظر إلى الجبل" وكأنه تعالى يقول يا موسى لن تقدر أن تراني من غير حجاب الحكمة ولكن أنظر إلى الجبل فإن أطاق ذلك فسوف تراني أنت فلما تجلى له الحق تعالى من غير واسطة الحس جعله دكا والله تعالى أعلم.
وقال أيضاً في هذا المعنى :
لقد أنا شيء عجيب ... لمن رآني
أنا المحب والحبيب ... ليس ثم ثاني
يا قاصداً عين الخبر ... غطاه أينك
الخمر منك والخبر ... والسر عندك
أرجع لذاتك وأعتبر ... ما ثم غيرك
فقوله:" يا قاصداً عين الخبر" أي عين خبر التحقيق وقوله:" غطاه أينك" أي مكان وجودك الوهمي إذ لو غبت عن وجودك لوقعت على عين التحقيق وقوله:" الخمر منك" أي شربة خمرة المحبة منك وهذا كما قال:"مني علي دارت كؤسي"، وقوله:" والخبر" أي والخبر عن عين التحقيق منك أيضاً وسر الربوبية عندك لأنك كنز مطلسم فإذا أردت أن تعرفه فأرجع لذاتك وأعتبر تجد الوجود كله واحداً وأنت ذلك الواحد قال الشاعر :
هذا الوجود وإن تعدد ظاهراً ... وحياتكم ما فيه إلا أنتم
وقال أيضاً رضي الله عنه:" لقد فشي سري بلا مقال، وقد ظهر عني في ذا المثال، نرى وجود غيري من المحال، وكلما دوني خيال في، متحد في كل شيء، أنا هو المحبوب وأنا الحبيب، والحب لي مني شيء عجيب، وحدي أنا فافهم سري غريب، فمن نظر ذاتي رآني شيء، وفي حلا ذات طواني طي، صفاتي لا تخفي لمن نظر، وذاتي معلومة تلك الصور أفن عن الإحساس تري عبر، في السر والمعنى خفيت كي، لأنه مني ستر على، وقد أتفقت على هذا المعني وهو سر الوحدة مقالات العارفين ومواجيد المحبين وأشعارهم كل على قدر ذوقه وشربه جزاهم الله عنا وعن المسلمين خيراً ولا يفهم هذه العبارات إلا أهل الأذواق والإشارات وحسب من لم يبلغ لها فهمه ولم يحط بها علمه أن يسلم ويكل فهمها إلى أربابها وليعتقد كمال التنزيه وبطلان التشبيه لأن هذه المعاني أذواق لا تنال إلا بصحبة أهل الأذواق.
ابن عجيبة