الإشارة:
تفكر الاعتبار يشد عُروة الإيمان، وفكرة الاستبصار تشد عُروة الإحسان. قال في الحِكَم: " الفكرة فكرتان: فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان. فالأولى: لأهل التفكر والاعتبار، والثانية: لأهل الشهود والاستبصار ". ومرجع الاعتبار إلى خمسة أمور:
الأول: التفكر في سرعة انصرام الدنيا وانقراضها، وذهاب أهلها. قرناً فقرنا، وجيلاً فجيلاً. فيوجب ذلك الزهد في الدنيا، والإعْراض عن زخرفها الغرارة، والتأهب للدار الباقية.
الثاني: التفكر في الدار الباقية، ودوام نعيمها، أو عذابها. وذلك مرتب على السَّعْي في هذه الدار، فيوجب ذلك انتهاز الفرصة في الأعمال، واغتنام الأوقات والساعات قبل الفوات.
الثالث: التفكر في النعم التي أنعم الحق ـ تعالى بها على الإنسان؛ إما ظاهرة؛ كالعافية في البدن، والزرق الحلال، وما يتبع ذلك مما لا يحصى؛ قال تعالى:
{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا }[إبراهيم: 34].
وإما باطنة: كنعمة الإسلام والإيمان، وصحيح العرفان، والاستقامة في الدين، ولا سيما إن رزقه الله من يأخذ بيده من شيخ عارف. فهذه نعمة عظمى قَلَّ من يسقط عليها. فيوجب له ذلك الشكر الذي هو أعلى المقامات، ومتكفِّل بالزيادات، قال تعالى
{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ }[إبراهيم: 7].. ولا يعرف العبد ما عليه من النعم إلا بالتفكر في أضدادها، والنظر إلى أهل البلاء.
الرابع: التفكر في عيوبه ومساوئه، لعله يسعى في تطهيرها، أو يشتغل بها عن عيوب غيره.
الخامس: التفكر فيما أظهر الله تعالى من أنواع المكونات، وضروب المصنوعات؛ فيعرف بذلك جلالة الصانع، وعظيم قدرته، وإحاطة علمه، وحكمته. فإن اتصل بشيخ عارف غيَّبه عنها بشهود مكونها.
وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة