الإشارة:
يقال: لم يتوعَّد على زَلَّةٍ بمثْلِ ما توعَّد على هذا، بقوله :{ كَبُرَ مقتًا عند الله }. هـ. ولذا فرّ كثير من العلماء عن الوعظ والتذكير، وآثروا السكوت، كما قال بعضهم:
لـو كـان ينفعـني وعظـي وعظتُكـم
أنـا الغريـق فما خوفـي مِن البلـل
قال أبو زيد الثعالبي: وهذا إن وَجد مَن يكفيه ويقوم عنه في الوعظ، وإلاّ فلا ينبغي السكوت. قال الباجي في سنن الصالحين، عن الأصمعي: بلغني أنَّ بعض الحُكماء كان يقول: إني لأعظكم، وإني لكبير الذنوب، ولو أنَّ أحداً لا يعظ أخاه حتى يُحْكِم أمرَ نفسه لتُرك الأمر بالخير، واقتُصر على الشر، ولكن محادثة الإخوان حياة القلوب وجلاء النفوس، وتذكير مِن النسيان. وقال أبو حازم:" إني لأعظ الناسَ، وما أنا بموضع الوعظ، ولكن أُريد به نفسي.". قلت: وكان شيخ شيوخنا سيدي على الجمل العمراني رضي الله عنه يقول حين يُذَكِّر:" نحْن ما ننبَحُ إلاّ على نفوسنا".
ثم قال: وقال الحسن لِمطرف: عِظ أصحابك، فقال: أخاف أنْ أقولَ ما لا أفعل، فقال: يرحمك الله، وأيّنا يفعل ما يقول، ودّ الشيطانُ لو ظفر منكم بهذه، فلم يأمر أحدٌ منكم بمعروف ولم ينهَ عن منكر. هـ. وفي حديث الجامع: " مُروا بالمعروف وإنْ لم تَفعلُوه، وانْهَوْا عن المنكرِ وإن لم تَتجنبُوه " وقال الغزالي:" مَن ترك العمل خوف الآفة والرياء, فإنَّ ذلك منتهى بغية الشيطان منه, إذ المراد منه ألاَّ يفوته الإخلاص، ومهما ترك العمل فقد ضيَّع العمل والإخلاص". قلت: ولا شك أنَّ الوعظ مِن المخلصين وأهل القلوب، أشد تأثيراً من غيرهم، فإنَّ الكلامَ إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان حدّه الآذان، وفي الحِكَم: " تسبق أنوارُ الحكماء أقوالَهم، فحيث ما صار التنوير وصل التعبير ". فأهل النور تسري أنوارُهم في الجالسين قبل أن يتكلموا، وربما انتفع الناسُ بصمتهم، كما ينتفعون بكلامهم، وأمّا أهل الظُلمة ـ وهو مَن في قلبه حُب الدنيا ـ فكلامهم قليل الجدوى، تسبق ظلمةُ قلوبهم إلى قلوب السامعين، فلا ينتفع إلاّ القليل.
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة