قال في قول الشبلي رضي الله عنه لمّا قيل لهُ متى تستريح ؟: قال:(إذا لم أر لهُ ذاكرا).
اعلم أن الذكر أبداً لا يكون مع المشاهدة ، ولا بد للذاكر أن يكون محجوباً بذكره وهو من وراء حجاب ، لا راحة عنده ، فإذا رفع الحجاب وقعت المشاهدة وزال الذكر بتجلي المذكور ، فلذلك طلب الشبلي أن يكون له مشاهدة تمنعهُ عن إدراك الذاكرين ، أو تمنى أن يكون للذاكرين مقام الشهود الذي يمنعهم من الذكر ، ويحتمل غير ذلك.
قال في قولهم : " لا يكون الفقير فقيراً حتى لا يصير له إلى الله حاجة " .
اعلم أن هذا اللفظ وإن كان ظاهره القبح ، فهو من جهة المعنى في غاية الحسن ، لأن هذه الحالة من أرفع درجات التسليم ، وصاحب هذا المقام هو الذي اتخذ الله وكيلاً لعلمه بأنه تعالى أعلم بمصالحه منه ...
وإيضاح ذلك :
أن الفقير لا يكون من أهل الأدب مع الله تعالى حتى لا يبقى في باطنه حاجة معينة يرجَّح قضاءها على تركها ، وأعلى من هذا مقاماً من رأى كل شيء محتاج إلى كل شيء ، ولم تحجبه الأسباب عن المسبب ، كما أشار إليه قوله تعالى : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ " [فاطر : 15] .
وقال في قولهم : " أبعد الخلق من الله أكثرهم إشارة إليه "
اعلم أن الإشارة نداء على رأس العبد ؛ وذلك لأنها تدل على الجهل بالله تعالى ، فلا فرق في تلك الحالة بينه وبين من لا يبلغه الصوت وتبلغه الإشارة ، وقد قررنا غير ما مرة أن جميع النداءات التي في القرآن بيا أيها الناس ، ويا أيها الذين آمنوا ، إنما هي بالنظر لحضرات الأسماء ، فإذا عصى العبد فقد بَعُد عن حضرة الإسم الذي يأمره بالطاعة ، فيناديه وليرجع إليه كما أنه بعيد ، والله أعلم .
كتاب شطحات صوفية والمسمى بـ ( الفتح في تأويل ما صدر عن الكُمَّل من الشطح )
الشيخ عبد الوهاب الشعراني.