قوله صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا..) فيه دليل على أن من لم يكن كذلك، لا يجد حلاوة الإيمان، ولا يدرك مذاقه، وإنما يكون إيمانه صورة لا روح فيها وظاهرا لا باطن له، ومرتسما لا حقيقة تحته.
وفيه إشارة: إلى إن القلوب السليمة من أمراض الغفلة والهوى تتنعم بملذات المعاني كما تنعم النفوس بملذوذات الأطعمة. وإنما ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، لأنه لما رضي بالله ربا، استسلم له وانقاد لحكمه، وألقى قياده إليه خارجا عن تدبيره واختياره، إلى حسن تدبير الله واختياره، فوجد لذاذة العيش وراحة التفويض.
وإذا كان له الرضا من الله: أوجده الله حلاوة ذلك، ليعلم ما من به عليه، وليعلم إحسان الله إليه. ولا يكون الرضا بالله: إلا مع الفهم. ولا يكون الفهم: إلا مع النور. ولا يكون النور: إلا مع الدنو. ولا يكون الدنو: إلا مع العناية.
فلما سبقت لهذا العبد العناية، خرجت له العطايا من خزائن المنن، فلما واصلته أمداد الله وأنواره عوفي قلبه من الأمراض والأسقام، فكان سليم الإدراك، فأدرك لذاذة الإيمان وحلاوته، لصحة إدراكه ولسلامة ذوقه. ولو سقم قلبه بالغفلة عن الله لم يدرك ذلك، لأن المحموم ربما وجد طعم السكر مرا، وليس هو في نفس الأمر كذلك.
فإذا زالت أسقام القلوب، وأدرك الأشياء على ما هي عليه، فتدرك حلاوة الإيمان ولذاذ الطاعة، ومرارة القطيعة والمخالفة. فيوجب إدراكها لحلاوة الإيمان اغتباطها به، وشهود المنة من الله عليها فيه، وتطلب الأسباب الحافظة للإيمان والجالبة له. ويوجب إدراك لذاذة الطاعة: المداومة عليها، وشهود المنة من الله فيها. ويوجب إدراكها لمرارة الكفران والمخالفة، الترك لهما، والنفور عنهما، وعدم الميل إليهما، فيحمل على الترك للذنب وعدم التطلع إليه، وليس كل متطلع تاركا، ولا كل تارك غير متطلع. وإنما كان كذلك، لأن نور البصيرة دال على أن المخالفة لله، والغفلة عنه، سم للقلوب مهلك، فنفرة قلوب المؤمنين عن مخالفة الله تعالى كنفرتك عن الطعام المسموم.
التنوير في إسقاط التدبير