آخر الأخبار

جاري التحميل ...

المكر الفتوحات المكية.

[أن المكر يطلقه على إرداف النعم مع المخالفة]

اعلم أن المكر يطلقه أهل الله على إرداف النعم مع المخالفة وإبقاء الحال مع سوء الأدب وإظهار الآيات من غير أمر ولا حد واعلم أنه من المكر عندنا بالعبد أن يرزق العبد العلم الذي يطلب العمل ويحرم العمل به وقد يرزق العمل ويحرم الإخلاص فيه فإذا رأيت هذا من نفسك أو علمته من غيرك فاعلم إن المتصف به ممكور به ولقد رأيت في‏ واقعة وأنا ببغداد سنة ثمان وستمائة قد فتحت أبواب السماء ونزلت خزائن المكر الإلهي مثل المطر العام وسمعت ملكا يقول ما ذا نزل الليلة من المكر فاستيقظت مرعوبا ونظرت في السلامة من ذلك فلم أجدها إلا في العلم بالميزان المشروع فمن أراد الله به خيرا وعصمه من غوائل المكر فلا يضع ميزان الشرع من يده وشهود حاله وهذه حالة المعصوم والمحفوظ فأما إرداف النعم مع المخالفة فهو موجود اليوم كثير في المنتمين إلى طريق الله وعاينت من الممكور بهم خلقا كثيرا لا يحصى عددهم إلا الله وهو أمر عام وأما إبقاء الحال مع سوء الأدب فهو في أصحاب الهمم وهم قليلون على أنا رأينا منهم جماعة بالمغرب وبهذه البلاد وهو أنهم يسيئون الأدب مع الحق بالخروج عن مراسمه مع بقاء الحال المؤثرة في العالم عليهم مكرا من الله فيتخيلون أنهم لو لم يكونوا على حق في ذلك لتغير عليهم الحال نعوذ بالله من مكره الخفي قال تعالى:" سَنَسْتَدْرِجُهُمْ من حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ" وقال:" ومَكَرْنا مَكْراً وهُمْ لا يَشْعُرُونَ"وقال:"إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وأَكِيدُ كَيْداً".
واعلم أن المكر الإلهي إنما أخفاه الله عن الممكور به خاصة لا عن غير الممكور به ولهذا قال:" من حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ" فأعاد الضمير على المضمر في سَنَسْتَدْرِجُهُمْ وقال ومَكَرُوا مَكْراً ومَكَرْنا مَكْراً وهُمْ لا يَشْعُرُونَ فمضمرهم هو المضمر في مكروا فكان مكر الله بهؤلاء عين مكرهم الذي اتصفوا به وهُمْ لا يَشْعُرُونَ ثم قد يمكر بهم بأمر زائد على مكرهم فإنه أرسله سبحانه نكرة فقال ومَكَرْنا مَكْراً فدخل فيه عين مكرهم ومكر آخر زائد على مكرهم وقد يكون المكر الإلهي في حق بعض الناس من الممكور بهم يعطي الشقاء وهو في العامة وقد يكون يعطي نقصان الحظ وهو المكر بالخاصة وخاصة الخاصة لسر إلهي وهو أن لا يأمن أحد مكر الله لما ورد في ذلك من الذم الإلهي في قوله:" فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ" ومن خسر فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وما كانُوا مُهْتَدِينَ فأخفى المكر الإلهي وأشده سترا في المتأولين ولا سيما إن كانوا من أهل الاجتهاد وممن يعتقد أن كل مجتهد مصيب وكل من لا يدعوا إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ وعلم قطعي فما هو صاحب أتباع لأن المجتهد مشرع ما هو متبع إلا على مذهبنا فإن المجتهد إنما يجتهد في طلب الدليل على الحكم لا في استنباط الحكم من الخبر بتأويل يمكن أن يكون المقصود خلافه فإذا أمكن فليس صاحبه ممن هو على بصيرة وإن صادف الحق بالتأويل فكان صاحب أجرين بحكم الاتفاق لا بحكم القصد فإنه ليس على بصيرة وإن لم يصادف الحق كان له أجر طلب الحق فنقص حظه فهذا مكر إلهي خفي بهذا العالم المتأول فإنه من المتأهلين أن يدعو إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ بتعليم الله إياه إذا كان من المتقين فمكر العموم الإلهي في إرداف النعم على أثر المخالفات وزوالها عند الموافقات فلا يؤخذ بها فإن كان من علماء عامة الطريق فيرى إن ذلك من حكم قوة الصورة التي خلق عليها فيدعي القهر والتأثير في الحكم الإلهي بالوعيد ويرى أن عموم الحكمة أن يعطي الأسماء الإلهية حقها فيرى أن الاسم الغفار والغفور وأخواته ليس له حكم إلا في المخالفة فإن لم تقم به مخالفات لم يعط بعض الأسماء الإلهية حقها في هذه الدار ويحتج لنفسه بقول الله:" يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً" وكذلك يفعل وهذا النظر كله لا يخطر له عند المخالفة وإنما يخطر له ذلك بعد وقوع المخالفة فلو تقدمها هذا الخاطر لمنع من المخالفة فإنه شهود والشهود يمنعه من انتهاك الحرمة الشرعية ولهذا ورد الخبر:" إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا فمنهم من يعتبر ومنهم من لا يعتبر" كما قال:" وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" فمنهم من عبده ومنهم من أشرك به فما يلزم نفوذ حكم العلة في كل معلول فلو أبقى عليهم عقلهم ما وقع منهم ما وقع كذلك لو كان المشهود له عند إرادة وقوع المخالفة للأسماء الإلهية لمنعه الحياء من المسمى أن ينتهك حرمة خطابه في دار تكليفه فالمخالف يقاوم القهر الإلهي ومن قاوم القهر الإلهي هلك فإذا أردف النعم على من هذه حالته تخيل أن ذلك بقوة نفسه ونفوذ همته وعناية الله به حيث رزقه من القوة ما أثر بها في الشديد العقاب وغاب عن الحليم وعن الإمهال‏ وعدم الإهمال فإن لم يقصد انتهاك الحرمة بقوة ما هو عليه من حكم اسم إلهي فليس بممكور به مثل عصاة العامة عن غفلة وندامة بعد وقوع مخالفة فالصبر على إرداف النعم لما في طيها من المكر الإلهي أعظم من الصبر على الرزايا والبلايا فإن الله يقول لعبده مرضت فلم تعدني ثم قال في تفسير ذلك أما إن فلانا مرض فلم تعده فلو عدته لوجدتني عنده‏ كما يجده الظمآن المضطر عند ما يسفر له السراب عن عدم الماء فيرجع إلى الله بخلاف النعم فإنها أعظم حجاب عن الله إلا من وفقه الله وأما مكر الله بالخاصة فهو مستور في إبقاء الحال عليه مع سوء الأدب الواقع منه وهو التلذذ بالحال والوقوف معه وما يورث من الإدلال فيمن قام به والهجوم على الله وعدم طلب الانتقال منه وما قال الله لنبيه :"وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً" وما أسمعنا ذلك إلا تنبيها لنقول ذلك ونطلبه من الله ولو كان خصوصا بالنبي لم يسمعنا أو كان يذكر أنه خاص به كما قال في نكاح الهبة فللحال لذة وحلاوة في النفس يعسر على بعض النفوس طلب الانتقال من الأمر الذي أورثه ذلك الحال بل لا يطلب المزيد إلا منه وجهل أن الأحوال مواهب وأما المكر الذي في خصوص الخصوص وهو في إظهار الآيات وخرق العوائد من غير أمر ولا حد الذي هو ميزانها فإنه لما وجب على الأولياء سترها كما وجب في الرسل إظهارها إذ أمكن الولي منها وأعطى عين التحكيم في العالم يطلب الممكور به لنقص حظ عن درجة غيره يريد الحق ذلك به وجعل فيهم طلبا لطريق إظهارها من حيث لا يشعر أن ذلك مكر إلهي يؤدي إلى نقص حظ فوقع الإلهام في النفس بما في إظهار الآيات على أيديهم من انقياد الخلق إلى الله عز وجل وإنقاذ الغرقى من بحار الذنوب المهلكة وأخذهم عن المألوفات وإن ذلك من أكبر ما يدعى به إلى الله ولهذا كان من نعت الأنبياء والرسل ويرى في نفسه أنه من الورثة وأن هذا من ورث الأحوال فيحجبهم ذلك عما أوجب الله على الأولياء من ستر هذه الآيات مع قوتهم عليها وغيبهم عن ما أوجب الله على الرسل من إظهارها لكونهم مأمورين بالدعاء إلى الله ابتداء والولي ليس كذلك إنما يدعو إلى الله بحكاية دعوة الرسول ولسانه لا بلسان يحدثه كما يحدث لرسول آخر والشرع مقرر من عند العلماء به فالرسول على بصيرة في الدعاء إلى الله بما أعلمه الله من الأحكام المشروعة والولي على بصيرة في الدعاء إلى الله بحكم الاتباع لا بحكم التشريع فلا يحتاج إلى آية ولا بينة فإنه لو قال ما يخالف حكم الرسول لم يتبع في ذلك ولا كان على بصيرة فلا فائدة لإظهار الآية بخلاف الرسول فإنه ينشئ التشريع وينسخ بعض شرع مقرر على يد غيره من الرسل فلا بد من إظهار آية وعلامة تكون دليلا على صدقه إنه يخبر عن الله إزالة ما قرره الله حكما على لسان رسول آخر أعلاما بانتهاء مدة الحكم في تلك المسألة فيكون الولي مع خصوصيته قد ترك واجبا فنقصه من مرتبته ما يعطيه الوقوف مع ذلك الواجب والعمل به فلا شي‏ء أضر بالعبد من التأويل في الأشياء فالله يجعلنا على بصيرة من أمرنا ولا يتعدى بنا ما يقتضيه مقامنا والذي أسأل الله تعالى أن يرزقنا أعلى مقام عنده يكون لأعلى ولي فإن باب الرسالة والنبوة مغلق وينبغي للعالم أنه لا يسأل في المحال وبعد الأخبار الإلهي يغلق هذا الباب فلا ينبغي أن نسأل فيه فإن السائل فيه يضرب في حديد بارد إذ لا يصدر هذا السؤال من مؤمن أصلا قد عرف هذا ويكفي الولي من الله أن جعله على بصيرة في الدعاء إلى الله تعالى من حيث ما يقتضيه مقام الولاية والاتباع كما جعل الرسول يدعو إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ من حيث ما يقتضيه مقام الرسالة والتشريع ويعصمنا من مكره ولا يجعلنا من أهل النقص ويرزقنا المزيد والترقي دنيا وآخرة والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية