(ربما دلهم الأدب على ترك الطلب فقال طلبك منه أتهام له وطلبك له غيبة منك عنه وطلبك لغيره لقلة حيائك منه وطلبك من غيره لوجود بعدك منه)
طلبك منه يكون بالتضرع والابتهال
وطلبك له يكون بالبحث والأستدلال
وطلبك لغيره يكون بالتعرف والإقبال
وطلبك من غيره يكون بالتملق والسؤال
وكلها مدخولة عند المحققين.
أما طلبك منه فلوجود تهمتك له لأنك إنما طلبته مخافة أن يهملك أو يغفل عنك، فإنما ينبه من يجوز منه الأغفاء او الأهمال "وما الله بغافل عما تعلمون"،" أليس الله بكاف عبده" وقال صلى الله عليه وسلم:" من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" فالسكون تحت مجاري الأقدار أفضل عند العارفين من التضرع والأبتهال وكان الشيخ مولاي العربي رضي الله عنه يقول:" الفقير الصادق لم تبق له حالة يطلبها وأن كان ولا بد من الطلب فليطلب المعرفة "، قلت وإذا ورد منهم الدعاء فإنما هو عبودية وحكمة لا طلباً للقسمة إذا ما قسم لك واصل إليك ولو سألته أن يمنعكه ما أجابك.
وفي المسألة خلاف بين الصوفية هل السكوت أولى أو الدعاء والتحقيق أن ينظر ما يتجلى فيه وينشرح له الصدر فهو المراد منه وأما طلبك له فهو دليل على غيبتك عنه بوجود نفسك فلو حضر قلبك وغبت عن نفسك ووهمك لما وجدت غيره.
وأما طلبك لغيره أي لمعرفة غيره فلقلة حيائك منه، وعدم أنسك به ،أما وجه قلة حيائك منه فلأنه يناديك إلى الحضرة وأنت تفر منه إلى الغفلة، ومثال ذلك كمن كان في حضرة الملك والملك مقبل عليه ثم يجعل هو يريد الخروج منها ويلتفت إلى غيره، فهذا يدل على قلة حيائه وعدم أعتنائه بالملك، فهو حقيق بأن يطرد إلى الباب أو إلى سياسة الدواب.
وأما وجه عدم أنسك به فلأنك لو أنست به لاستوحشت من خلقه فلا يتصور منك طلب معرفتهم وأنت تفر منهم فإذا آنسك به أوحشك من خلقه وبالعكس والأستئناس بالناس من علامة الأفلاس، إقبالك على الحق أدبارك عن الخلق وإقبالك على الخلق إدبارك عن الحق ،وقد عدوا من أصول الطريق الأعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار.
وأما طلبك من غيره فلوجود بعدك عنه إذ لو تحققت بقربه منك وهو كريم ما أحتجت إلى سؤال غيره وهو لئيم.
وفي بعض الكتب المنزلة يقول الله تبارك وتعالى:" إذا أنزلت بعبدي حاجة فرفعها إلي أعلم ذلك من نيته لو كادته السموات السبع والأرضون السبع لجعلت من أمره فرجاً ومخرجاً وإذا أنزلت بعبدي حاجة فرفعها إلى غيري أضحت الأرض من تحته وأسقطت السماء من فوقه وقطعت الأسباب فيما بيني وبينه"، أو كما قال لطول العهد به فتحصل أن الأدب هو الأكتفاء بعلم الله والتحقق بمعرفة الله والاستغناء به عما سواه والله تعالى أعلم.