وسخرنا لسليمان ريح الهداية، تهب بين يديه، يُهتدى به مسيرة شهر وأكثر، وأسلنا لوعظه وتذكيره العيون الجامدة، فقطرت بالدموع خُشوعاً وخضوعاً. وكل مَن أقبل على الله بكليته سخرت له الكائنات، جنها وإنسها، يتصرف بهمته فيها. فحينئذ يقال له ما قيل لآل داود: اعملوا آل داود شكراً. قال الجنيد: الشكر: بذل المجهود بين يدي المعبود. وقال أيضاً: الشكر ألا يُعصى الله بنعمه.
والشكر على ثلاثة أوجه: شكر بالقلب، وشكر باللسان، وشكر بسائر الأركان. فشكر القلب: أن يعتقد أن النعم كلها من الله، وشكر اللسان: الثناء على الله وكثرة المدح له، وشكر الجوارح: أن يعمل العمل الصالح. وسئل أبو حازم: ما شكر العينين؟ قال: إذا رأيت بهما خيراً أعلنته، وإذا رأيت بهما شرًّا سترته، قيل: فما شكر الأذنين؟ قال: إذا سمعت بهما خيراً وعيته، وإذا سمعت بهما شرًّا دفنته، قيل: فما شكر اليدين؟ قال: ألا تأخذ بهما ما ليس لك، ولا تمنع حقًّا هو لله فيهما، قيل: فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفلُه صبراً، وأعلاه علماً، قيل: فما شكر الفرج؟ قال: كما قال الله تعالى:{ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ }[المؤمنون: 5] الآية، قيل: فما شكر الرجلين؟ قال: إن رأيت شيئاً غبطته استعملتهما، وإن رأيت شيئاً مقته كفقتهما. هـ.
والناس في الشكر درجات: عوام، وخواص، وخواص الخواص. فدرجة العوام: الشكر على النِّعم، ودرجة الخواص: الشكر على النِّعم والنقم، وعلى كل حال، ودرجة خواص الخواص: أن يغيب عن النِعم بمشاهدة المُنعم. قال رجل لإبراهيم بن أدهم: إن الفقراء إذا أُعطوا شكروا، وإذا مُنعوا صبروا، فقال: هذه أخلاق الكلاب عندنا، ولكن الفقراء إذا مُنعوا شكروا، وإذا أُعطوا آثروا. هـ.
وهذان الآخران يصدق عليهما قوله تعالى: { وقليل من عبادي الشكور } ، وخصه القشيري بالقسم الثالث، فقال: فكان الشاكر يشكر على البَذْلِ، والشكور على المنع، فكيف بالبذل؟ ثم قال: ويقال في { قليل من عبادي الشكور }: قليل مَن يأخذ النعمة مني، فلا يحملها على الأسباب، فيشكر الوسائط ولا يشكرني. وفي الحِكَم: " مَن لم يشكر النعم فقد تعرّض لزوالها، ومَن شكرها فقد قيّدها بعقالها ".فالشكر قيد الموجود، وصيد المفقود. والله تعالى أعلم.
وقيل: فى قوله: { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } هم على ثلاث طبقات: منهم من يكون شكره لغذاء النفس، ومنهم من يكون شكره لغذاء الروح، ومنهم من يكون شكره لغذاء القلب. فأما غذاء النفس فالمطعم والملبس والعافية، أما غذاء الروح فالعلم والمعرفة والطاعة، فعليه الشكر وأما غذاء القلب فالمعرفة والرضا، فأبناء الدنيا شكرهم لغذاء أنفسهم، وأبناء الآخرة شكرهم لغذاء الروح وأصحاب القلوب شكرهم لغذاء قلوبهم لذلك روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من لم يعرف نعمة الله عليه إلا فى مطعمه وملبسه فقد صغَّر نعم الله عنده ".
وقال بعضهم: هم ثلاثة شاكر وشكور وشكَّار فالشاكر من يشكر الله بنعمته والشكور من يشكر الله بشكره والشكَّار من يشكر الله به فالأول شكر النعمة والثانى شكر المنة والثالث شكر المعرفة.
قال بعضهم: الشاكر يكون صادقًا والشكور يكون مصدّقًا والشكار يكون صدِّيقًا.
قال بعضهم: الشاكر من العباد قليل والشكور من الشاكرين قليل والشكار من الشكور قليل.